خرجت المملكة العربية السعودية من قيود السفر التي فرضها فيروس كورونا لتطلق من جديد جدول أعمال طموحًا حافلاً بالفعاليات السياحية خلال الأشهر الأخيرة. لقد أشركت التجمعات الرياضية والفنية والترفيهية السعوديين واجتذبت اهتمامًا عالميًا وزوارًا أجانب. شاهد عشاق السباقات سباق الجائزة الكبرى للفورمولا 1 من حلبة كورنيش جدة في ديسمبر/كانون الأول 2021 والطريق الصحراوي الدائري لرالي داكار عبر المملكة في يناير/كانون الثاني. وفي يناير/كانون الثاني أيضًا، تم بث دوري كأس السوبر الإسباني، ذائع الصيت، للجمهور الدولي من الرياض. بالنسبة لخبراء الفن والتصميم المخضرمين، تم افتتاح بينالي الدرعية للفنون المعاصرة وتلاه المهرجان السعودي للتصميم الذي أقيم في منطقة مستودعات جاكس الجديدة في مدينة التراث. وأقيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الأول في جدة في ديسمبر/كانون الأول، وحضره مجموعة من مشاهير النجوم السعوديين والعالميين. في هذه الأثناء، قدم موسم الرياض، الذي امتد لأشهر، تجارب تناول الطعام في المطاعم والمتعة العائلية جنبًا إلى جنب مع مهرجان الموسيقى الإلكترونية الراقصة المثيرة للإعجاب، وحضر ليلة الافتتاح أكثر من 180,000 رجل وامرأة – لم يكن من الممكن تصور حدوث هذا في يوم من الأيام في المملكة المحافظة. عندما اجتذبت حوارات تيد (TED talk) (تكنولوجيا وترفيه وتصميم)، المنظمة مجتمعيًا، حشودًا من الشباب السعودي المتعطش لأي شكل من أشكال المشاركة العامة، كان من الصعب اعتبار هذه هي نفسها سعودية العقد الماضي.
تشكل هذه الفعاليات الجانب البرامجي لمجموعة واسعة من الاستثمارات السياحية التي تستهدف مناطق شاسعة من المملكة. إذا تم تحقيق هذه البنية التحتية السياحية الجديدة بالكامل، فستكون بمثابة منصة اقتصادية بديلة تعمل بشكل كبير على توسيع التركيز التقليدي السعودي على السياحة الدينية، وهناك إمكانية لإعادة تشكيل المعالم الاجتماعية والسياسية للاقتصاد النفطي المهيمن منذ فترة طويلة.
خطط السياحة السعودية طموحة
لدى القيادة السعودية تطلعات جريئة لقطاع السياحة، وتسعى جاهدة لجعلها الصناعة الثانية بعد الهيدروكربونات. في بلد، عدا عن قطاع السياحة الدينية الحيوية، لم يكن لديه تأشيرة سياحة قبل عام 2019، والذي تم إنشاء وزارة السياحة فيه فقط في عام 2020، من المؤكد أن هنالك مجالاً للنمو. ومع ذلك، حددت رؤية السعودية 2030 على ما يبدو هدفًا، خياليًا، يتمثل في 100 مليون زيارة محلية ودولية سنويًا. للمقارنة، استقبلت فرنسا وهي الدولة السياحية الأولى 90 مليون زائر دولي في عام 2019. وفقًا لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة والهيئة العامة للإحصاء في السعودية، طوال العام الذي سبق جائحة فيروس كورونا، استقبلت السعودية 17,5 مليون زائر، بمن فيهم 9,5 مليون حاج ديني جاءوا للحج والعمرة، وهو رقم يود السعوديون أن يشهد زيادة ليصل إلى 30 مليونًا بحلول عام 2025.
سوف تشكل المنافسة على الصعيدين الدولي والإقليمي تحديًا للهدف السعودي، المتمثل في تحقيق نمو هائل في هذه الصناعة. كما أن الرياح الجديدة المعاكسة للسياحة في سياق الجائحة وزيادة الوعي الأخضر قد تطيل في أمد اعتماد البلاد على سوقها المحلية المتعطشة منذ فترة طويلة للترفيه والوجهات السياحية. ومع ذلك، ما تزال الحكومة السعودية تراهن بالمال على هذا الوعي. إن نصف المشاريع الضخمة التي يديرها صندوق الاستثمارات العامة هي في قطاع السياحة، كما أنه يوجد عناصر سياحية في مدينة نيوم التكنولوجية المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، ثمة عدد هائل من الشركات التي تم إنشاؤها في إطار صندوق الاستثمارات العامة تعمل بنشاط في صناعات السياحة والترفيه. وفي مبادرة مستقبل الاستثمار لعام 2021، صرح وزير السياحة السعودي أن الاستثمار السعودي في الصناعة سيتجاوز تريليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة.
تسببت الجائحة في تأجيل انفتاح المملكة على العالم، لكن يبدو أن القيود المالية المرتبطة بها لم تكبح التزام القيادة بالمضي قدمًا في أجندتها السياحية. فقد استمرت العقود الخاصة بالطرق والجسور والمطارات للمدينة الترفيهية جنوب الرياض، مدينة القدية الترفيهية، وتطوير شاطئ البحر الأحمر الراقي في عام 2020 على الرغم من إجراءات التقشف. وقد تضاعفت ميزانية هيئة تطوير بوابة الدرعية، التي تتولى توسيع هذا الموقع التراثي والفني شمال الرياض من 20 مليار دولار إلى 40 مليار دولار.
السياحة السعودية لا تقتصر على السياح فقط
يمثل كل من قطاعي السياحة والترفيه محركًا لعملية التنويع الاقتصادي وخلق فرص العمل لشباب المملكة. لكنهما يمضيان إلى ما هو أبعد من ذلك. تكشف المخططات الأولية للمواقع السياحية الجديدة عن خطط متعددة الأوجه لتطوير المناطق. وبقدر ما تعاملت دبي مع البنية التحتية وحولت أراضيها إلى فرص للاستثمار الأجنبي، فإن القيادة السعودية تتطلع إلى فتح مساحات شاسعة من الأراضي، بعضها في مناطق نائية، وغير مأهولة إلى حد ما، من أجل التنمية. وأصبحت معظم هذه المواقع السياحية الجديدة – على ساحل البحر الأحمر أو المناطق الشمالية والجنوبية من الرياض – تشبه المدن الجديدة، مع خطط تنموية متعددة الاستخدامات تشمل الفنادق والمطاعم وأماكن عرض الفنون والترفيه والإسكان.
أحد الأمثلة البارزة هو هيئة تطوير بوابة الدرعية. يقع هذا الموقع التاريخي لسلالة آل سعود، وأول دولة سعودية، في موقع تراثي لمنظمة اليونسكو. ولكن أُحيط هذا المركز التاريخي بخطط للعديد من المتاحف الفنية والتاريخية، وأكثر من 20 فندقًا، وساحات للبيع بالتجزئة بشتى الأنواع، وأكثر من 100 مطعم، ومكاتب، وأماكن سكنية لعدد من السكان الدائمين يبلغ 100,000. وسيشمل ذلك مناطق للفنون والتعليم التي تستضيف متحف الفن الحديث في المملكة، وجامعة جديدة تركز على السياحة وحسن الضيافة، والعديد من المرافق لاستضافة الفعاليات الرياضية الدولية، مثل سباق الفورمولا إي. ويمتد التطوير العقاري إلى المناطق المحيطة مع وجود خطط لزراعة مليون نخلة في وادي حنيفة، وتحويل وادي صفار، القريب، إلى “بفرلي هيلز الرياض“، ويستكمل بملعب جولف صممه جريج نورمان (Greg Norman).
ستعيد هذه المبادرات، حال تجسيدها، تشكيل المملكة بطرق مبتكرة تتجاوز فلك الاقتصاد الضيق إلى العوالم الجيوسياسية والاجتماعية والثقافية.
جغرافيا “ما بعد النفط” والجغرافيا السياسية الجديدة
عدا عن منطقة الرياض، فإن معظم المواقع السياحية الرئيسية الجديدة تقع على امتداد الساحل الغربي، من منتجعات البحر الأحمر ومشروع أمالا للتطوير العقاري فائق الرقي، إلى مدينة هجرة والموقع النبطي الأثري، والتشكيلات الصحراوية الطبيعية في العلا. ومع إضافة نيوم، فإن هذا يمثل تحولًا جغرافيًا مهمًا – فالسعودية بتوجهاتها الغربية المتزايدة تبتعد عن التطور التاريخي لاقتصاد النفط المتركز في الشرق. يساهم هذا جزئيًا في قيام السعودية بدور قيادي أكثر فاعلية في الحوكمة السياسية للبحر الأحمر. لقد صبغ ذلك العلاقات السعودية مع جيران البحر الأحمر مصر والأردن. ففي الواقع تعرضت مصر، في عام 2016، لأزمة سياسية قصيرة عندما استجاب الرئيس عبد الفتاح السيسي لمطالب السعودية بشأن جزيرتي تيران وصنافير على البحر الأحمر، واللتين تقعان الآن ضمن ضواحي نيوم. كما تظهر نيوم بشكل بارز في تلميحات حول انفتاح سعودي محتمل على إسرائيل، مع تقارير متكررة عن اهتمام السعودية بالاستفادة من الاستثمار الإسرائيلي وبراعتها التقنية لتطوير المدينة المستقبلية.
كما تشكل استثمارات السياحة والمحاولات الجديدة في الفنون والترفيه عنصرًا مهمًا في إعادة تحديد موقع السعودية عالميًا، مع توجهاتها الثقافية التي يتناقص تركيزها على العالم الإسلامي، ويزداد انخراطًا بشكل علنيٍ في التنمية الحضرية. وهذا يوفر وسائل جديدة للتعاون الثقافي، مثل شراكة السعودية مع الحكومة الفرنسية للعمل مع المؤسسات الثقافية الفرنسية في تطوير العلا. وتعمل هذه الاتفاقيات، بالإضافة إلى المزيد من الاستثمارات الخارجية (مثل التركيز الجديد على الرياضة الدولية التي يجسدها شراء فريق كرة القدم الإنجليزي نيوكاسل يونايتد)، على توفير الوسائل لإبراز القوة الناعمة من خلال المناشدات الشعبية ومواءمة المصالح المالية والمؤسساتية.
ما وراء الاقتصاد السياسي الديني
كان لتنويع الاقتصاد في السياحة والترفيه أثرٌ عميق على الحياة الاجتماعية في المملكة. لقد تبددت القيود التي فرضتها المؤسسة الدينية السعودية ذات يوم – العقوبات المفروضة على مواقع ما قبل الإسلام وإحياء المناسبات التاريخية، بالإضافة إلى الحظر المفروض على الموسيقى والرقص، والاختلاط بين الجنسين – تماشيًا مع الانفتاح الأوسع. ومن المؤكد أن تأتي المزيد من عمليات التحرر حيث تتواصل السياحة والرحلات الشاطئية المباشرة، مع وجود شائعات مستمرة بأنه سوف يتم السماح بتناول الكحول في جيوب محددة. لقد حيّر هذا التغيير الاجتماعي السريع الكثيرين، ويتم تطبيقه بشكل متفاوت، لكن هناك القليل من التساؤلات حول هذا التوجه لكون المملكة تسعى لخلق بيئة أكثر انفتاحًا لجذب الاستثمار الأجنبي والزوار. كما أن التغييرات تستهدف كذلك السكان السعوديين أنفسهم، بالاستفادة من الطاقة والمواهب وعادات الإنفاق للجيل الجديد.
تقوم الآن وزارة الثقافة، التي تستأثر أيضًا بحقيبة التراث، بتنمية فعالة للفنون التي كانت تتعرض للاستخفاف أو الإهمال. كما أنشأت القيادة السعودية 11 لجنة مختلفة في السينما والأزياء والمسرح وفنون الطهي، إلى جانب أمور أخرى، لخدمة الاستراتيجية الثقافية الوطنية لتعزيز الثقافة كأسلوب حياة، وتمكينها من المساهمة في الاقتصاد، وإيجاد فرص للتبادل الدولي. وتعمل هذه اللجان على تنمية مخرجات ثقافية سعودية متميزة تساهم في عروض سياحية أكثر محلية. إن الترويج لقصور الدرعية كأيقونة وطنية تحاكي الأكروبوليس اليوناني والكولوسيوم الروماني، وتوجيه الناس لمطاعم المملكة ومقاهيها ومحامصها لتمييز القهوة السعودية عن القهوة العربية – يشير إلى هذا النهج الجديد المفعم بالوطنية.
تساؤلات وتوجهات
عند النظر إلى مستقبل هذه الصناعة، تبقى هناك أسئلة مهمة لم تتم الإجابة عليها. هل ستستمر الدولة السعودية في إيجاد رأس المال لتطوير هذا القطاع والالتزام به؟ وهل سيستجيب القطاع الخاص والمستثمرون الأجانب؟ هل ستكون العروض السعودية مميزة وجذابة بما فيه الكفاية لتنافس في سوق السياحة الإقليمي والعالمي؟ كيف ستتعامل القيادة السعودية مع التناقضات المتأصلة في التغيير الاجتماعي السريع واندماج مغريات السياحة الجديدة مع أُسس السياحة الدينية؟ هل ستتعاون البيئة الأمنية المحلية والإقليمية؟ تجدر الملاحظة للسؤال الأخير بشكل خاص، نظرًا لغارات الحوثيين بالطائرات المسيرة على مطار أبها، والتفجير الذي لا تفسير له والمقلق لعبوة ناسفة، والذي أسفر عن إصابة أحد أعضاء فريق فرنسي في رالي دكار.
مع ذلك، وفي حين لا تزال الشكوك قائمة، فإن الترويج للسياحة والترفيه كعناصر رئيسية في استراتيجية التنويع في المملكة يشير، حقيقة، إلى تغييرات جوهرية داخل المملكة. إن الميول الغربية في الجغرافيا والجغرافيا السياسية، والانفتاح على العالم والمواقف الوطنية، والتبني الجديد للفنون والترفيه، تشير إلى توجهات أوسع في الوقت الذي تخوض فيه المملكة في غمار مستقبلها لمرحلة “ما بعد النفط”. وهذا كله يمثل خطوة بعيدةً كل البعد عن الاقتصاد الديني-السياسي، وعن مكانتها المميزة في العالم الإسلامي عمومًا، والتي كانت تسعى إليها الدولة السعودية في السابق.