من المرجح أن تتبع إدارة ترامب الجديدة نظرة قائمة بشكلٍ أكبر على المقايضة المادية في السياسة الخارجية الأمريكية نحو الشرق الأوسط، ولاسيما نحو دول الخليج. وفي ما يمكن اعتباره تحذيرًا من التغيرات التي ستطرأ، وجّه وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر رسالة واضحة في حوار المنامة في البحرين في 10 كانون الثاني/ديسمبر، فقال بصراحة للحضور المؤلف من صانعي السياسات والمحللين والعسكريين الخليجيين إن الولايات المتحدة تتوقع من الدول الخليجية أن تبذل جهدًا أكبر للمحافظة على السلام والأمن الإقليميين. وباختصار، يتعيّن على دول الخليج أن تتحضّر لزيادة تدخلاتها في الشرق الأوسط، أي أنه يتعيّن عليها أن تتفاوض على التسويات السياسية للنزاعات ولتقديم الدعم الاقتصادي الضروري لإعادة بناء سوريا واليمن ولإعادة الاستقرار إلى مصر.
ولقد ركّز النهج الأمريكي الإقليمي في ظل حكم الرئيس باراك أوباما على المبيعات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، فيما كان القادة في الخليج يحاولون جاهدين من أجل صياغة استراتيجية سياسية إقليمية متماسكة. ويزيد انعدام الوحدة الأمنية والسياسية في مجلس التعاون الخليجي من احتياجات وممارسات العلاقات الثنائية ضمن الدول الخليجية ولاسيما في ما يتعلق بتجارتها العالمية وشركائها في الاستثمار، علمًا أن إقامة الصفقات ذات الأهداف السياسية والاقتصادية تقليدٌ خليجي تاريخي متجذّر في ثقافة التاجر. وتشير العلاقات الثنائية الحالية أو الاقتران السياسي الحاصل إلى تباين وجهات النظر في كنف الدول الخليجية بشأن مصادر الازدهار والاستقرار المستقبلية.
بالإضافة إلى ذلك تواجه حكومات دول الخليج العربية مطالب ملحّة للأداء الاقتصادي. فإن النماذج التي تعتمدها بقيادة الدولة لتطوير اقتصادها تقوم على استراتيجية استثمارية تركّز كثيرًا على الشق الخارجي. ولقد موّلت عائدات تصدير الموارد الطبيعية استثمارات الدولة في الخارج، التي ضاعفت بدورها ثروات البلاد. وفي الواقع، إن إدخال الصناديق السيادية الخليجية وانتشارها في أسواق الأسهم في نيويورك ولندن وهونغ كونغ – وكذلك الأمر لشركات العقارات وشركات الامتيازات – قد نقل بمجلس التعاون الخليجي من الهامش الإقليمي إلى زيادة الأدوار التي يؤديها في أمن الشرق الأوسط وأسواق رؤوس الأموال الدولية. ولقد باتت هذه الثروة تلقي مسؤولية كبرى على كاهل السياسة الخارجية الإقليمية إذ تُعلَّق الآمال حول إمكانية تحفيز الحكومات للنمو الاقتصادي بما يعود بالفائدة على المواطنين الأفراد وليس على الدولة أو الأسر الحاكمة فحسب.
ويظهر توجهان متصلان: ترتكز استثمارات ضخمة مع شركاء جدد على نطاق إقليمي وتقتصر على القطاعات الرئيسية. وتتضمّن هذه القطاعات التكنولوجيا والبنية التحتية والطاقة.
بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، إن المملكة العربية السعودية هي مركز العلاقات الثنائية في ما يتعلّق بالأمن والاستثمار. وتستثمر الإمارات سياسيًا في جدول أعمال الإصلاح الاقتصادي السعودي، فيما تأمل السعودية أن تحصل على بعض من الازدهار التجاري في دبي. وتشكل التجارة الإلكترونية إحدى القطاعات التي توفّر نموًا واعدًا، ويعود ذلك إلى أن الإنترنت والهواتف الذكية مستخدمة بشكل شائع في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ يستخدم أكثر من ثلثي السكان الإنترنت وتفوق نسبة مستخدميه 90 بالمئة في الإمارات العربية المتحدة وقطر، ومن المنطقي بالتالي أن تتمثل الخطوة القادمة بزيادة التجارة الإلكترونية. أما العوائق فتتمثّل بإيلاء الأولوية على الصعيد المحلي للمعاملات النقدية فضلا عن وسائل إيصال الطلبات ومشاكل إنتاج وتوزيع المنتجات، لربّما بالإضافة إلى احتمال أن تقوّض المعاملات الإلكترونية نماذجَ مركز التسوق العقاري التي تهيمن حاليًا على الأماكن العامة الخليجية والأنماط الاستهلاكية. ووفقًا لتقرير صادر عن شركة “آت كيرني“، لا تشكّل التجارة الإلكترونية حاليًا سوى نسبة 0.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويساوي حجمها في السوق 5.3 مليار دولار، إلا أنها قد تزيد أربعة أضعاف بحلول العام 2020.
إن الإعلان عن إطلاق شركة “نون” للتجارة الإلكترونية التي أسسها محمد العابر، رئيس مجلس إدارة شركة “إعمار” العقارية العملاقة في الإمارات العربية المتحدة ودبي، يشير إلى أن الحكومات الخليجية تعتزم الحفاظ على حصّة مهمة تخولها التحكم في تنويع اقتصاداتها. وشركة “إعمار” هي شركة للتداول العام في بورصة دبي، إلا أن حكومة دبي قد استخدمت ذراعها الاستثمارية، أي مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية، لتستحوذ على حصة كبيرة (ما يقارب 30 بالمئة) من الشركة. وغالبًا ما تتقاطع مصالح العابر التجارية مع الاستثمارات السياسية الفيدرالية لإمارة دبي والإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك الدور الذي يضطلع فيه في المشاريع العقارية في مصر، التي تدعمها الحكومة الفيدرالية لدولة الإمارات العربية المتحدة. تعود ملكية شركة “نون” للقطاع الخاص، ولكن من منظار الدول الخليجية، فإنها قد تأسست على أيدي مستثمرين من القطاع الخاص تربطهم صلة متينة أو مباشرة بموارد الدولة. وفي هذا السياق تشمل مجموعة المستثمرين حصّةً بقيمة 500 مليون دولار مصدرها صندوق الاستثمارات العامة السعودي.
وعلى غرار ذلك، يتطلّع بنك “إنفستكور“، الذي يتخذ من البحرين مقرًا له، إلى الاستثمار في المملكة العربية السعودية، دعمًا لجدول أعمال الإصلاح الاقتصادي التي وضعته المملكة. وتعتبر مشاركة الصندوق في السوق السعودية نفعيّة، إلا أنها دليل على ثقة المستثمر بالقطاع الخاص السعودي. و”إنفستكور” شركة يملكها القطاع الخاص، مع استثمارات ثنائية إضافية بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين، مما يؤكد، وبشكل مباشر أكثر، على الالتزامات بالتطور الاقتصادي المتبادل. وكان قد أعلن صندوق أبوظبي للتنمية في أوائل العام 2016 أنه سيسدد معظم التكاليف التي تترتب عن توسيع مطار البحرين، أي ما يقارب المليار دولار، كجزء من صندوق أكبر للاستثمار في البنية التحتية لدعم البحرين، على غرار ما أعلنت عنه المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة.
وعندما تؤمن الدول الخليجية شركاء لها في الاستثمار من خارج المنطقة، تبدو الحسابات الجديدة متمحورًة حول قطاعات بعينها فضلا عن هدف تحقيق المنفعة السياسية، مع تشكيل التكنولوجيا والطاقة هدفين رئيسيين. فلقد اتفق صندوق الاستثمارات العامة في السعودية مع مصرف “سوفت بنك” الياباني على بناء صندوق للتكنولوجيا بقيمة 100 مليار دولار. وتعتبر اليابان شريكًا رئيسيًا للمملكة العربية السعودية في المبادرة التي اتخذتها لصياغة رؤية السعودية 2030، كمستثمر في البنية التحتية، ومصدر تمويل وأكبر مشتر لصادرات النفط. ومن المرجح أن يستهدف هذا الصندوق بعض الاستثمارات داخل الخليج، إلا أن تأثيره سيكون عالميًا.
هذا واشترى صندوق الثروة السيادية القطري وجهاز قطر للاستثمار وشركة تجارة السلع الدولية “جلينكور” حصة بقيمة 19.5 بالمائة من الخصخصة الجزئية الحديثة لشركة الغاز الروسية العملاقة “روسنفت”. فإن احتمال تعاون قطر مع دول مجلس التعاون الخليجي المجاورة حول شؤون النمو الاقتصادي الداخلي أو الشراكات الأمنية الإقليمية أقل من احتمال دخولها في شراكة مع منافس في أسواق الغاز العالمية. إذ يعتبر استثمار “روسنفت” وسيلة للقطريين للمحافظة على موقف تفاوضي في مواجهة سياسة خارجية روسية مغايرة في الشرق الأوسط، فيما يضمنون هوامش أرباحهم من حصّة كبيرة يمتلكونها في شركة منافسة. هذا وسارع القطريّون إلى الإعلان عن استعدادهم للدخول في شراكة مع إدارة ترامب القادمة وجدول أعمالها الاستثمارية في البنية التحتية.
وبالنسبة إلى عُمان، على غرار قطر، فتميل إلى النظر خارج مجلس التعاون الخليجي للشراكات الاستثمارية. فمساهمة عُمان المالية في إيران، في التعدين، والصناعات التحويلية والبنية التحتية للنقل، تشير إلى أنها باتت تعتمد طريقة حسابية مغايرة للبحث عن مصادر النمو الاقتصادي المستقبلية.
مبدأ المقايضة المادية لن يكون حقًا حصريًا للرئيس المنتخب دونالد ترامب، حيث أن الظاهرة الجديدة العالمية لفوز الشعوبيين والقوميين في الانتخابات في الولايات المتحدة وغيرها من الدول ستقوّض الجهود المتعددة الأطراف الرامية إلى إحلال الاستقرار الاقتصادي في الشرق الأوسط وإعادة إعماره في مرحلة ما بعد النزاعات. وبات القادة الخليجيون يدركون أنه، وفي ظل فوز الحركات الشعوبية في الغرب، من غير المرجح أن يشهدوا على تدخل تام للقوى الخارجية في نزاعات المنطقة. وبالتالي، ستولي دول الخليج الأولوية إلى رفع مستوى التعاون الاقتصادي الإقليمي في ما يخص الشؤون الأمنية والسياسية الثنائية. قد يأتي عام 2017 بعصر جديد من إقامة الصفقات في السياسات الاقتصادية والخارجية، مما سيضعف الشراكات الطويلة الأمد والالتزامات الأمنية المتعددة الأطراف التي بنيت في الماضي.