فيما عدا البحر نفسه، ليس هناك ما يميز ثقافة حوض المتوسط وتراثه أكثر من شجرة الزيتون. ففي حين أن رواد الأعمال والمهاجرين من مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط، الذين ذهبوا إلى أماكن ذات مناخ مماثل، مثل كاليفورنيا وأجزاء من أستراليا، قد زرعوا بساتين الزيتون، وأنشأوا صناعات صغيرة، إلا أن زيت الزيتون من خارج حوض المتوسط يظل منتجًا خاصًا ونادرًا ما يحظى بالكثير من التقدير. ولكن السعودية تتحدى سيطرة منطقة حوض البحر المتوسط على صناعة زيت الزيتون القائمة منذ ستة آلاف عام على نطاق واسع.
وفي الوقت الذي تمتلك فيه إسبانيا أكبر عدد من أشجار الزيتون في العالم، فقد تقدمت السعودية بطلب لموسوعة “جينيس للأرقام القياسية العالمية” للحصول على لقب خاص بها في عام 2018. تعد شركة الجوف الزراعية “أكبر مزرعة زيتون حديثة في العالم”، بوجود 5 ملايين شجرة زيتون على مساحة 7730 هكتارًا فقط (19101 فدان). كما تتمتع المزرعة بطاقة إنتاجية تبلغ 15 ألف طن من زيت الزيتون.
سُميت هذه المزرعة المملوكة للحكومة، والمطروحة للتداول العام، نسبة لموقعها في محافظة الجوف شمال المملكة، على الحدود مع الأردن، والتي تنتج الكثير من زيت الزيتون منذ آلاف السنين، ولكن كل ما لديها هو فقط 11 مليون شجرة في جميع أنحاء البلاد.
يقول أحمد العلي، وهو صانع محتوى مرئي من محافظة الجوف، ويقوم بإخراج ثاني فيلم وثائقي له عن أشجار الزيتون مع زميله المخرج السعودي محمد العوبثاني، “خلال الثلاثين عامًا الماضية، قدمت الحكومة السعودية دعمًا كبيرًا لزراعة الزيتون من خلال توفير التمويل، وتقديم المساعدة الفنية للمزارعين. ولقد أجرت الجامعات ومراكز الأبحاث في السعودية دراسات مكثفة لتحسين أساليب زراعة الزيتون وزيادة الإنتاجية. وقد شملت هذه الأبحاث تحسين التربة، واستخدام الأسمدة المناسبة، وتطوير أساليب الحصاد”.
كما يوجد أيضًا مزارع زيتون خاصة في محافظة الجوف. “لقد بدأنا بزراعة أشجار الزيتون في عام 1992″، طبقاً لإبراهيم سعد الحمد، الذي تنتج أسرته زيت زيتون، يُطلق عليه اسم “جوفال”، مضيفاً، “لدينا اليوم مليونا شجرة، وتختلف كمية الزيت التي ننتجها من عام إلى آخر، لكن المعدل يتراوح بين 1800 و2300 طن. والدي هو الذي غرس أشجارنا الأولى، ولكننا نمتهن الزراعة على مدى أجيال، بدءًا من أشجار النخيل والقمح والأعلاف، والآن الزيتون”.
غالبًا ما يُطلق على محافظة الجوف سلة خبز المملكة. بالنسبة للحكومة السعودية، تعد الجوف أكبر منتج للقمح في البلاد، وواحتها الزراعية الخصبة تعد من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في البلاد، حيث يعود تاريخها إلى 6000 عام وفقًا للنقوش الصخرية التي عُثر عليها في عام 2018. كانت الجوف محطة رئيسية على طريق القوافل التجارية التي تربط الحجاز بشرق البحر الأبيض المتوسط، ومن هناك، إلى أوروبا. ولا تزال حتى يومنا هذا تضم ثالث أكبر ميناء بري في السعودية، حيث يمر الحجاج من بلاد الشام عبر الجوف في طريقهم إلى مكة. قد يكون هؤلاء الحجاج هم من جلبوا الزيتون معهم أثناء رحلتهم. وينظر أهل الجوف، كما هو الحال لدى حجاج منطقة البحر الأبيض المتوسط، إلى شجرة الزيتون على أنها مباركة، ويعزى ذلك جزئيًا لذكرها في القرآن ست مرات.
يقول العلي “إن شجرة الزيتون تعني الكثير بالنسبة لأهالي الجوف”، مضيفاً “لقد تغذى عليها الناس منذ القِدم. واستخرجوا منها الزيت، واستخدموه كوقود للإنارة، كما استخدموا أغصان الزيتون لإشعال النار للتدفئة والطهي. ولذلك، فقد كانت ولا تزال جزءًا من الحياة اليومية للناس، سواء في الجوف أم في غيرها من المناطق التي تتواجد فيها أشجار الزيتون”.
في حين يتبع جميع العرب في بلاد الشام وشمال أفريقيا نظامًا غذائيًا يعتمد على زيت الزيتون، إلا أن هذا الزيت لم يكن جزءًا من مائدة أهالي شبه الجزيرة العربية. لكن بعد اكتشاف النفط في الخليج، جاء عرب حوض المتوسط للعمل، وما يزالوا على هذا الحال منذ عدة أجيال، وقد جلبوا معهم طعامهم، وحُبهم لكل ما يتعلق بزيت الزيتون، بما في ذلك الصابون والعلاجات الطبية والتجميلية. يقول الحمد، “نعم، لقد كانت في الماضي ثقافة زيت الزيتون في هذه المنطقة ضعيفة، ولكن مع الإعلانات ومقاطع التوعية، ازدادت ثقافة المستهلك”.
لا يعترض الخبير الزراعي والمؤلف الإيطالي كوزيمو داميانو جواريني (Cosimo Damiano Guarini)، وهو من المناصرين المتحمسين للفوائد الصحية لزيت الزيتون، على زراعة شجرة الزيتون خارج منطقة حوض المتوسط، ولكن لديه بعض التحفظات. يقول، “يبلغ استهلاك زيت الزيتون في العالم اليوم حوالي 3٪ من إجمالي استهلاك الزيوت، وبالتالي فإن زراعة الزيتون التي تستهدف المستهلكين يمكنها حقًا أن تحدث فرقًا. فأشجار الزيتون تحتاج لكمية مياه أقل من معظم أشجار الفاكهة، ولديها قدرة كبيرة على التأقلم والتجاوب بسهولة مع تزايد المتطلبات “الخضراء” لإنتاج الأغذية الزراعية، مع الإشارة بشكل خاص إلى عملية احتجاز الكربون. لكن ما يزال ينبغي علينا أن نفهم ما إذا كان هذا المسار سيوفر الاستدامة الاقتصادية والبيئية على المدى المتوسط إلى المدى الطويل، ولا بد من إيلاء قدر كبير من الاهتمام بضوابط الجودة وحساسية الشركات الكبرى للمنتج الرئيسي في النظام الغذائي لمنطقة حوض المتوسط”.
وأشار جواريني إلى أن الاستثمار السعودي واسع النطاق في زراعة أشجار الزيتون تمثل في نظام “الزراعة فائقة الكثافة” الذي تم تطويره في منطقة الأندلس الإسبانية على مدى السنوات الـ 25 الماضية. تنتج أشجار النظام فائق الكثافة الزيتون في سن أصغر بكثير، عادة بعد أربع سنوات، تقريبًا نصف الوقت في الزراعة التقليدية. كما يتم أيضًا زراعة الأشجار في أماكن أقرب لبعضها بعضًا، ما يؤدي إلى تحطيم الأرقام القياسية لأعداد الأشجار في المكان الواحد، كما هو الحال في مركز الجوف الزراعي. وعلى سبيل المقارنة، تمتلك تونس، التي تعد أكبر منتِج عربي لزيت الزيتون، والتي لم تطبق النظام فائق الكثافة إلا على نطاق محدود، حوالي 82 مليون شجرة زيتون، تغطي 1.84 مليون هكتار (4.55 مليون فدان) – أي حوالي 30٪ من الأراضي المزروعة في البلاد – ما يعنى أن المساحة المتاحة لكل شجرة أوسع بكثير مما هو الحال في الجوف.
زرعت أسرة الحمد في البداية أصناف الزيتون الشامية التقليدية، وتحديدًا السوري والنبالي، والذي يعتبر موطنه الأصلي فلسطين، مهد زيت الزيتون. يقول الحمد، “اليوم، ننتج أيضًا أصنافًا فائقة الكثافة للغاية مثل أربكينا وأربوزانا من إسبانيا، وكورونيكي من أصول يونانية”.
يقول لويس رالو، أستاذ الهندسة الزراعية الفخري في جامعة قرطبة، وأحد رواد نظام الزراعة فائق الكثافة، “هناك ما يزيد على 1300 صنف من الزيتون، ولكننا لم نتمكن حتى الآن من تطوير سوى هذه الأنواع الثلاثة للنظام فائق الكثافة. هذا النظام يحد من نكهة زيت الزيتون، لذلك فإننا نخاطر بفقدان الأصناف القديمة. ولكن سيكون من الصعوبة بمكان أن تحافظ على القدرة التنافسية دون استخدام هذا النظام”.
أمضت ناتالي كوش (Natalie Koch)، عالمة الجغرافية السياسية في جامعة سيراكيوز، سنوات في دراسة تاريخ السعودية الزراعي. “إن ما يقلقني هو عدم توفر المياه الكافية لتنفيذ الجهود الرامية لإدخال أشجار الزيتون على نطاق واسع من أجل الحفاظ على ازدهار هذه الصناعة على المدى الطويل”، على حد قول كوش، مضيفة، “حتى لو توفرت المياه الكافية على المدى القريب، فهناك خطر أن هذا المشروع قد يهدد مشاريع زراعية أخرى صغيرة الحجم يحتاجها السكان المحليون لازدهار المنطقة”.
يقول الحمد إن صغار المزارعين لا يستطيعون حتى الآن تصدير زيوتهم للخارج، على الرغم من مشاركتهم في معارض الغذاء وغيرها من المعارض التجارية في المنطقة، وخاصة في الإمارات العربية المتحدة. فالسعودية في الواقع لا تزال تستهلك زيت زيتون أكثر مما تنتج.
ولكن الحمد لا يزال متفائلاً. ويقول، “إن إنتاج زيت الزيتون يعد عملية صحية ومفيدة اقتصاديًا، وتعمل في الوقت ذاته على تعزيز الأمن الغذائي في البلاد”.