ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
يجد الرئيس المنتخب دونالد ترامب نفسه قبل أقل من خمسة أسابيع على ادلائه بقسم اليمين أنه يحارب على أكثر من جبهة، وأن عدد خصومه ومنتقديه الذين يغطون الطيف السياسي والايديولوجي بأكمله سوف يزداد إذا واصل إصراره على التصرف بعد انتخابه كما كان يتصرف كمرشح، وكأنه يتمتع بحصانة لا تخترق، وغير خاضع لأي مساءلة أو محاسبة على سلوكه وقراراته. ومع اقتراب ترامب من دخول البيت الأبيض تزداد الانتقادات الموجهة له ولعائلته بسبب رفضه اتخاذ الإجراءات القانونية لتفادي “تضارب المصالح” بين مسؤولياته السياسية كرئيس للبلاد، وبين مصالحه الاقتصادية والمالية، ما يعني ابتعاده كليا عن إدارة أعماله وشركاته كما فعل كل أسلافه، وعدم إعطاء أولاده أي دور سياسي، خاصة وأنه يُفترض كما تعهد ترامب أن يواصلوا ادارتهم شركات واستثمارات والدهم. وكان من المتوقع أن يتم حسم المناوشات على هذه الجبهة، في الخامس عشر من كانون الأول/ديسمبر وهو موعد المؤتمر الصحفي الذي أعلن عنه ترامب قبل أسابيع حين وعد أنه سيقوم هو وأولاده بالكشف عن الإجراءات القانونية المطلوبة في هذا المجال. ولكن، ترامب قرر لاحقا “تأجيل” المؤتمر الصحفي إلى وقت لاحق في كانون الثاني/يناير، قبل تنصيبه في العشرين من الشهر المقبل.ويواصل ترامب إشراك أولاده في بعض اجتماعاته مع المسؤولين الأجانب أو مع شخصيات أمريكية تعمل في القطاع الخاص، كما حدث قبل بضعة أيام حين التقى ترامب بكبار المسؤولين في الشركات الالكترونية الهامة والمؤثرة في البلاد، وشارك في الاجتماع نجلاه دون جونيور وأريك، فضلا عن ابنته إيفانكا. وهناك قضايا كثيرة على ترامب حسمها قبل العشرين من الشهر المقبل، ومن بينها مسألة استئجاره للفندق الفخم الذي يحمل اسمه والواقع قرب البيت الأبيض، حيث ينص العقد بين الحكومة الأمريكية التي تملك المبنى (مبنى تاريخي كان يعرف باسم مبنى البريد) على أن المستأجر في حال انتخابه لمنصب حكومي لا يمكن أن يجني أي أرباحا مالية من المبنى.
التعيينات
أما الجبهة الثانية، التي تستمر فيها الاشتباكات، فهي جبهة التعيينات، حيث يواصل ترامب مفاجأة الطبقة السياسية والرأي العام من خلال تعيين رجال أعمال كبار وأثرياء، مثل تعيينه لريكس تيلرسون رئيس شركة إكسون-موبيل وزيرا للخارجية، والذي أثار جدلا حادا بسبب قربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وانعدام خبرته الدبلوماسية. اللافت هو أن ترامب تعرف على تيلرسون قبل أسبوعين حين أوصى به وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس، وكذلك وزيرة الخارجية الأسبق كونداليزا رايس، ومستشار الأمن القومي الأسبق ستيفن هادلي، وجميعهم مثلوا شركة إكسون في السابق. نشاط شركة إكسون في روسيا، قبل فرض العقوبات ضدها إثر غزوها لأوكرانيا في 2014 ما أدى إلى نشوء علاقات صداقة بين تيلرسون والرئيس بوتين الذي منحه في 2013 “وسام الصداقة” وهو أعلى تكريم يعطى لأجنبي. وعارض تيلرسون العقوبات التي فرضت على روسيا، لأنها أثرت سلبا على عمل إكسون في روسيا، وقال آنذاك “نحن لا نؤيد العقوبات بشكل عام لأننا لا نجد أنها تكون فعالة إلا إذا تم تطبيقها بشكل شامل وهذا أمر صعب”. هذا الموقف السلبي من العقوبات الأمريكية-الأوروبية ضد روسيا ينسجم مع موقف ترامب الذي شكك بجدوى هذه العقوبات. هذا الموقف من العقوبات يثير قلق مشرعين من الحزبين في الكونغرس من الذين يريدون إبقاء أو حتى تعزيز العقوبات ضد روسيا. ويقول منتقدو إكسون-موبيل التي تصل قيمتها المالية في أسواق البورصة إلى 390 مليار دولار أنها تتصرف ككيان مستقل عن الولايات المتحدة وأحيانا لا تبالي بمواقف ونصائح وزارة الخارجية كما حدث في 2011 حين وقعت إكسون اتفاقا نفطيا مع الحكومة الكردية المحلية في شمال العراق على الرغم من معارضة واشنطن وبغداد. ويمتلك تيلرسون شخصيا خبرة كبيرة في التعامل مع الدول العربية المنتجة للنفط ولدى شركة إكسون مصالح اقتصادية ونشاطات كبيرة في السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، وتيلرسون يعرف قادة هذه الدول ويتعامل معهم ويلتقي بهم منذ سنوات عديدة.
كما أثار تعيين ترامب للمدعي العام لولاية أوكلاهوما سكوت برويت لإدارة “وكالة حماية البيئة” عاصفة من الغضب والاستهجان لأن برويت يشكك بالتغيير المناخي والدراسات العلمية التي تقول إن الإنسان مسؤول عن الاحتباس الحراري. وكان برويت قد رفع دعاوى قضائية ضد الوكالة لارغامها على تعديل بعض إجراءات حماية البيئة التي فرضتها. كما أن تعيينه سيشجع شركات الطاقة التي تريد التنقيب عن الغاز والنفط والتي تشكو من القيود التي تضعها الحكومة على أعمال التنقيب.
ومن المتوقع أن يثير قرار الرئيس المنتخب ترامب تعيين مستشاره ومحاميه ديفيد فريدمان سفيرا في إسرائيل جدلا كبيرا في الولايات المتحدة وأيضا في العالمين العربي والإسلامي، بسبب مواقفه المتشددة، مثل تأييده للاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وحتى ضمها إلى إسرائيل، وكذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وفور تعيينه قال فريدمان في بيان له إنه يتطلع إلى العمل من “السفارة الأمريكية في العاصمة الأبدية لإسرائيل، القدس”. وكان ترامب قد تعهد خلال الحملة الانتخابية بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس في حال انتخابه. ورأت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن مواقف فريدمان تجعله يبدو “متشددا أكثر من بنيامين نتنياهو”.
الجبهة الروسية
ولكن الجبهة الثالثة، والأكثر عنفا وضراوة هي الجبهة الروسية والتي يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى إلحاق أكبر ضرر بالرئيس المنتخب ترامب. لم يعد هناك أي شك في الأوساط السياسية والإعلامية أن روسيا قد شنت حربا الكترونية للتأثير على الانتخابات الأمريكية شملت اختراق الاتصالات الالكترونية للحزب الديمقراطي والبريد الخاص لجون بوديستا رئيس حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وفي السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي وبموافقة من البيت الأبيض أصدر مدير الاستخبارات الوطنية بيانا جاء فيه أن هناك إجماعا بين جميع وكالات الاستخبارات الأمريكية وعددها 17 جهازا أن موسكو كانت وراء هذه الحملة الالكترونية، وأنها كانت بإيعاز من المسؤولين الروس البارزين. وفي الأيام الأخيرة برزت معلومات جديدة سربتها مصادر استخباراتية تقول إن هذه الاستخبارات لديها ثقة عالية من أن الرئيس فلاديمير بوتين كان شخصيا وراء الحملة. وهناك عدد متزايد من المشرعين الأمريكيين من بينهم عدد من فعاليات الحزب الجمهوري مثل المرشح السابق لمنصب الرئاسة السيناتور جون ماكين، والسيناتور ليندسي غراهام يعدون لإجراء تحقيقات في الكونغرس ينظر في التدخل الروسي في الانتخابات.
وحتى الآن لا يزال الرئيس المنتخب ترامب يرفض قبول اتهام روسيا، أو يسخر منها، كما انتقد في أكثر من مناسبة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وتحديدا وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي أي.” ودفع هذا التصرف الغريب بعض المراقبين للقول إن ترامب الذي قال إبنه أريك أن لدى شركات ترامب مصالح اقتصادية كبيرة في روسيا، ربما حصل على قروض من رجال أعمال روس من الأوليغارشية الجديدة المقربة من بوتين، وأن هذا من بين الأسباب التي تدفعه للدفاع الحار عن بوتين، وابداء الاعجاب به منذ بداية حملته، والذي يفسر أيضا تشكيكه بشرعية ملكية أوكرانيا لشبه جزيرة القرم، أو رفضه التنديد بالغارات الجوية الروسية ضد المدنيين في حلب وغيرها من المدن السورية. ولا يمكن الجزم بوجود مثل هذه المصالح الاقتصادية لترامب وعائلته في روسيا، طالما بقي الرئيس المنتخب على رفضه الكشف عن سجلاته الضريبية، والتي ستكشف بيقين طبيعة نشاطات ترامب الاقتصادية والمالية في روسيا. وسوف تبقى أضواء الكونغرس مسلطة على البعد الروسي في الانتخابات الأمريكية ومستقبل العلاقات بين موسكو وواشنطن، خلال التحقيقات التي ستقوم بها لجان الكونغرس وخلال جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ والتي ستنظر في تعيين تيلرسون وزيرا للخارجية.
ترامب يواصل حملته ضد الإعلام
نستطيع الآن أن نقول بيقين أكثر، أن الرئيس المنتخب ترامب يتصرف كما كان يتصرف كمرشح خلال حملته الانتخابية، بمعنى أن الذين تمنوا أو توقعوا أن يتغير بعد انتخابه وأن يتصرف بحذر وأن يتفادى ردود الفعل العفوية والسريعة التي تصل إلى حدود التهور، عليهم الآن أن يتأقلموا مع حقيقة أن ترامب لن يتغير. وينعكس ذلك بالدرجة الأولى على ولع ترامب باستخدام وسائل الاتصال الاجتماعي وتحديدا “التغريد” في تويتر للتواصل مع الملايين من اتباعه، أو في معاركه السياسية والشخصية.
هذا الأسبوع واصل ترامب توجيه ضرباته لوسائل الإعلام، شملت تصفية حسابات قديمة والتشكيك بتأكيدات البيت الأبيض حول الاختراقات الروسية خلال الانتخابات. وردا على تقرير سلبي نشرته مجلة “فانيتي فير” لمطعم في برج ترامب، هاجم ترامب في تغريدة في الساعة الثامنة صباح الخميس مدير المجلة بالاسم قائلا إنه يفتقر إلى الموهبة، وسوف يطرد من منصبه. ولحق ذلك تغريدة صباحية أخرى، ولكنها بموضوع مختلف حيث شكى ترامب من أن الإعلام يعمل بجهد لجعل انتقاله إلى البيت الأبيض أكثر تعقيدا بالنسبة لمصالحه المالية. وأطلق ترامب تغريدة صباحية ثالثة جاء فيها أنه إذا قامت روسيا أو كيان آخر بالاختراقات الالكترونية، لماذا انتظر البيت الأبيض وقتا طويلا قبل أن يتحرك؟ لماذا شكوا فقط بعد خسارة هيلاري كلينتون؟ وكعادته لم يبال ترامب بالحقائق، لأن البيت الأبيض وعبر أجهزة الاستخبارات اعلن في تشرين الأول/أكتوبر الماضي وقبل شهر كامل من الانتخابات عن الحملة الالكترونية الروسية. يمكن القول إن حروب ترامب على جبهاتها المختلفة سوف تزداد شراسة في الأسابيع والأشهر المقبلة، وسوف يكون من الصعب عليه، إلا إذا غيّر بشكل جذري من سلوكه، وهذا أمر مستبعد للغاية، أن يحسم أي من هذه الحروب لصالحه.