منذ وصوله إلى البيت الأبيض، والرئيس دونالد ترامب يقوم بإعادة تحديد علاقات الولايات المتحدة مع الدول الحليفة والمعادية على السواء. وفي هذه العملية التي لا تضبطها قواعد واضحة أو موضوعية، لأنها تعكس ميول ورغبات ترامب الشخصية، معظم دول العالم معرضة، نظريا على الأقل، لتلقي الضربات العقابية الأمريكية. هذه الضربات تتراوح بين تعريض هذه الدول لعقوبات اقتصادية موجعة، أو للسان ترامب اللاذع، الذي أثبت مرارا أنه لن يتردد في استخدامه ضد قادة الدول الحليفة والصديقة ذات الأنظمة الديمقراطية، والتي تعتبر في طليعة الدول التي تتعامل معها واشنطن اقتصاديا، مثل كندا، وألمانيا وفرنسا والمكسيك.
وفي الأيام والأسابيع الأخيرة، تعرضت ثلاثة دول مختلفة، تربطها علاقات متباينة جدا مع الولايات المتحدة لسيف العقوبات الأمريكي، وهي إيران، وروسيا وتركيا. وحدها العقوبات المفروضة على روسيا، مفروضة بفعل ضغوط فرضها الكونغرس أو البيروقراطية الأمريكية (في وزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي، وأجهزة الاستخبارات) التي لا تزال تعتبر ورسيا الإتحادية خطرا على الأمن القومي. هذه الأجهزة لا تزال تصرّ – بعكس ترامب- على أن روسيا تدخلت بشكل سافر في الانتخابات الأمريكية في 2016 لمساعدة المرشح ترامب، وتتوقع تدخلا روسيا في انتخابات 2018 النصفية، وانتخابات الرئاسة في 2020.
وشاءت الصدف أن تكون هذه الدول متورطة بشكل مباشر ونافر في الحرب السورية حيث يمكن اعتبار روسيا وإيران الطرفان الأساسيان المسؤولان عن بقاء بشار الأسد في السلطة. أما تركيا التي ساعدت القوى الجهادية المتطرفة خلال معظم سنوات الحرب، فقد تدخلت عسكريا في شمال سوريا لمنع الأكراد من تحقيق أي مكاسب سياسية وعسكرية بعيدة المدى. اللافت في هذا المشهد السوري المعقد ودور هذه الدول الخارجية الثلاثة في محاولة تقرير مصير سوريا في المستقبل، هو أنها يمكن، بشكل مباشر وغير مباشر، أن تتعاون فيما بينها لتقويض أو تحدي السياسة الأمريكية في سوريا، إن كان في ما يتعلق بردع أو تقليص نفوذ إيران في تقرير مستقبل سوريا السياسي، أو في ما يتعلق بضرب التحالف التكتيكي الأمريكي-الكردي. ما هو واضح هو أن الدول الثلاثة تطالب الولايات المتحدة بالانسحاب من شمال شرق سوريا.
العقوبات ضد إيران
العقوبات التي فرضها ترامب قبل أيام تمثل الجزء الثاني من سياسة التصعيد ضد إيران التي اعتمدها ترامب في مايو-آيار الماضي حين انسحب من الاتفاق النووي الدولي مع إيران وأعاد فرض العقوبات الأمريكية الشاملة التي فرضت في السابق على طهران، قبل توقيعها على الاتفاق النووي في 2015، والتي قرر ترامب إعادة فرضها على ثلاث مراحل، آخرها وأقساها في نوفمبر-تشرين الثاني المقبل. أن يعاقب ترامب النظام الإيراني، ليس مستغربا، ولكن المعضلة في هذه العقوبات الأمريكية، هي أنها تشمل فرض عقوبات من الدرجة الثانية، تستهدف أي شركة بغض النظر عن هويتها، يثبت تجاهلها للعقوبات الأمريكية من خلال مواصلة التعامل التجاري والاقتصادي مع إيران، وهذا يعني عمليا استهداف الشركات الأوروبية الألمانية والفرنسية والبريطانية وغيرها التابعة لدول الاتحاد الأوروبي، التي عادت أما للاستثمار في إيران، أو استأنفت التعامل الاقتصادي معها بعد إقرار الاتفاق النووي. وتعتبر دول الإتحاد الأوروبي الشريك التجاري الثالث لإيران، بعد دولة الإمارات العربية المتحدة، والصين. وكان ترامب بعد قرار فرض الجزء الثاني من العقوبات قد قال “وأي طرف يتعامل تجاريا مع إيران لن يستطيع التعامل تجاريا مع الولايات المتحدة”.
عمليا تقف الولايات المتحدة الآن في مواجهة اقتصادية مع حلفاؤها القدامى في أوروبا لأن هذه الدول رفضت العقوبات الأمريكية التي تستهدف شركاتها وتعهدت علنا بحماية هذه الشركات، لا بل هددت بمعاقبة أي شركات أوروبية تنصاع لأوامر واشنطن، كما تعهد الاتحاد الأوروبي “بمنع” أي شركة أوروبية من الانصياع للعقوبات الأمريكية. ومع ذلك فقد أعلنت شركة دايملر الألمانية المتخصصة في صناعة السيارات قبل أيام “تعليق” عملياتها في إيران. وقبل شهرين بدأت شركتا رينو وبيجو الفرنسيتان لتصنيع السيارات بتقليص عملياتهما في إيران. العقوبات الأمريكية ضد الشركات الأوروبية التي تواصل العمل في إيران، تأتي بعد أن فرض ترامب في مايو-آيار الماضي عقوبات ضد استيراد الصلب والالومنيوم من أوروبا وكندا، ما يعني أن المعارك الاقتصادية السابقة من المرجح أن تتحول إلى حرب تجارية مفتوحة بين الحلفاء الغربيين.
العقوبات ضد تركيا
العقوبات التي فرضها ترامب ضد تركيا في الأيام الأخيرة، تأتي في سياق التدهور التدريجي وعلى مدى سنوات للعلاقات الأمريكية-التركية. هذا التوتر يعتبر تطورا غير معهود على علاقات كانت متينة خلال الحرب الباردة بين واشنطن وأنقرة، التي كانت ولا تزال تملك ثاني أكبر جيش في حلف (الناتو)، حيث كانت الولايات المتحدة تعبر دوما وبقوة عن تأييدها لدخول تركيا في الإتحاد الأوروبي. (الأزمات السابقة: غزو تركيا لقبرص في 1974، ورفض تركيا استخدام أراضيها لغزو العراق في 2003، تم احتوائها دون أن تترك اثارا سلبية بعيدة المدى على العلاقات). ولكن العلاقات بدأت بالتدهور بشكل نوعي خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما بسبب السلوك النافر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بسبب ميوله الأوتوقراطية ضد منافسيه في الداخل، وتعاطفه مع الجهاديين الإسلاميين خلال الحرب السورية، وتسامحه مع الأصوات المعادية لأمريكا في المجتمع التركي ووسائل الاعلام التركية. السنوات الأخيرة للرئيس أوباما، شهدت تدهورا ملحوظا في العلاقات وخاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بعد الاتهامات التركية التي لا أساس لها بضلوع واشنطن أو مواطنين أمريكيين في الانقلاب، وأصرار تركيا على أن تسلم واشنطن الداعية الديني فتح الله غولن، الذي يقيم بولاية بنسلفانيا الأمريكية والتي تتهمه تركيا بأنه الدماغ المخطط للانقلاب الفاشل. ولحقت هذه العلاقات مزيدا من التدهور بعد التدخل التركي العسكري في سوريا، وازدياد المواقف العدائية التركية لأمريكا بسبب تعاونها العسكري مع قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد عمودها الفقري. وجاءت صفقة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات S-400 لتركيا، والتي لا تنسجم مع منظومة الأسلحة التي يستخدمها حلف الناتو، لتشكل نقلة نوعية إلى الأسوأ في العلاقات. وفي الأسابيع الماضية، وبعد لقاء ترامب وأردوغان في مؤتمر حلف الناتو، حيث تم التفاهم بينهما على إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برانسون المعتقل في تركيا بتهم التجسس، إذا اطلقت إسرائيل – بعد تدخل ترامب- سراح مواطن تركي. ولكن تركيا لم تطلق سراح برانسون، الأمر الذي أغضب ترامب ودفعه ونائبه مايك بنس إلى تهديد تركيا بعقوبات مؤلمة إذا لم تفعل ذلك. وسارعت واشنطن إلى فرض عقوبات غير مسبوقة ضد وزيرين تركيين، وعقبت ذلك قبل أيام بفرض رسوم حماية جديدة (تعريفات) ضد الصادرات التركية، وبعدها تدهورت الليرة التركية إلى مستويات جديدة بعد أن كانت قد انخفضت قيمتها أمام الدولار بنسبة عشرين بالمئة منذ بداية السنة. وفي خطوة غير معهودة منذ تعليق صادرات الأسلحة الأمريكية إلى تركيا عقب غزوها لقبرص، قرر الكونغرس الأمريكي تعليق تسليم تركيا أول دفعة من الطائرات المقاتلة من طراز F-35 الأكثر تقدما في الترسانة الأمريكية، إلى أن تقرر وزارة الدفاع الأمريكية ما إذا كانت العلاقات التركية-الروسية المتنامية تشكل خطرا على علاقات تركيا بحلف الناتو.
وإذا نفّذت تركيا تهديدها بفرض عقوبات مضادة، وإذا استمرت بممارسة “سياسة الرهائن” من خلال مواصلة اعتقال 19 مواطنا أمريكيا إضافة إلى القس برانسون، فإن ذلك سيضعها في مواجهة خطيرة وغير مسبوقة مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي تواجه فيه أزمة اقتصادية ومالية خانقة.
العقوبات ضد روسيا
في السابق كانت روسيا تستخف – علنا على الأقل – بالعقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب. ولكن رد الفعل الروسي المتمثل بتشديد استيراد بضائع أمريكية ردا على العقوبات المحدودة التي فرضتها وزارة الخارجية الأمريكية بسبب محاولة تسميم جاسوس روسي سابق، جاء مختلفا نوعيا. وإذا نفّذت واشنطن تهديدها بفرض سلة أخرى من العقوبات المتوقعة في الأشهر المقبلة، والتي تستهدف الاقتصاد الروسي في العمق، مثل معاقبة المصارف التابعة للدولة، أو منعها من التعامل بالدولار، وفقا لمشروع قرار بهذا الشأن في مجلس الشيوخ، فإن ذلك سيؤدي إلى تدهور أكثر في العلاقات حيث سترى موسكو هذه الخطوة وكأنها “إعلان حرب اقتصادية”، كما قال رئيس وزراء روسيا ديميتري ميدفيديف.
العقوبات السابقة التي فرضها الكونغرس بسبب تدخل روسيا في الانتخابات أو انتهاكاتها لحقوق الإنسان أو تدخلها العدائي في شرق أوكرانيا وسوريا، طالت مسؤولين روس مقربين من الرئيس بوتين، أو الاقتصاد الروسي بشكل عام، ولكن استهداف القطاع المصرفي، سوف يكون له وقع أقسى على الاقتصاد الروسي بمجمله. استمرار الكونغرس على موقفه المتشدد تجاه موسكو وسلوكها الدولي النافر، يعني عمليا تقويض آمال وطموحات الرئيس ترامب بإقامة علاقات جيدة مع روسيا، وعلاقات شخصية حميمة مع الرئيس بوتين.
ومن المرجح أن يتدخل الرئيس ترامب في مرحلة لاحقة، لوقف تسونامي العقوبات الأمريكية ضد روسيا، ولكن إذا أدت الانتخابات النصفية في نوفمبر-تشرين الثاني المقبل إلى فوز الديمقراطيين بالأكثرية في مجلس النواب، وهو أمر مرجح، فإن قدرته على تحدي الكونغرس سوف تنخفض بشكل كبير.
ولكن ذلك، لن يغير من حقيقة أن حقبة ترامب سوف تؤدي إلى إدخال تغييرات وتعديلات، معظمها، إن لم نقل كلها، سلبية على علاقات الولايات المتحدة بالعالم.
هشام ملحم هو زميل غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.