عاد الرئيس دونالد ترامب من جولته العالمية الأولى، ليجد نفسه أمام موجة أكبر من مضاعفات فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات وعلاقة مقربين منه بمسؤولين روس قبل وبعد الانتخابات، وإنها ستتفاقم في الأيام والأسابيع المقبلة، مع استمرار الكشف عن المزيد من الاتصالات السرية، وعن معلومات جديدة أكدت أن ترامب ومساعديه بدأوا فور وصولهم إلى البيت الأبيض بالعمل على إلغاء العقوبات التي فرضها الرئيس السابق باراك أوباما ضد روسيا. وطلبت لجنة الاستخبارات في مجلس النواب لوثائق بهذا الشأن من مستشار الامن القومي السابق مايكل فلين، ومن مايكل كوهين، المحامي الخاص للرئيس ترامب. ولكن الأنظار سوف تتركز على الشهادة المهمة التي سيدلي بها مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) السابق جيمس كومي أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ يوم الخميس المقبل، حيث من المتوقع أن يؤكد فيها علنا وللمرة الأولى ما كانت قد ذكرته تقارير صحفية مبنية على معلومات من مقربين منه، من أن الرئيس ترامب كان قد طلب منه وقف التحقيق باتصالات مايكل فلين مع المسؤولين الروس، وهو طلب رفضه كومي. وإذا لم تكن هذه المتاعب كافية لترامب، فقد زج نفسه في معركة جديدة ضد خصوم كثر في الداخل والخارج حين أعلن بشكل درامي عن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، مكملا بذلك مواجهته مع حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا والدول الصناعية والتي برزت بشكل نافر خلال اجتماعاته الأخيرة مع قادة حلف الناتو في بروكسيل، وقادة الدول الصناعية السبعة في صقلية.
بوتين يقف في صف ترامب
قوبل قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بانتقادات قوية وسريعة جاءت من قطاعات واسعة سياسية واقتصادية وعلمية، أظهرت مدى عمق الخلاف بين البيت الأبيض والمجتمع الأمريكي حول سبل حماية البيئة وتخفيف الاحتباس الحراري ومستقبل الطاقة البديلة للنفط والفحم الحجري. وأكدت أكثر من ثلاثين مدينة وثلاث ولايات أمريكية فضلا عن عشرات الشركات الكبيرة اصرارها على الالتزام باتفاقية باريس. وبرر ترامب قراره بأنه يعكس سياسته المترادفة مع شعار “أميركا أولا” ولكن ردود الفعل العالمية السلبية وضعت واشنطن في مواجهة العالم بأسره عدا دولتين هما نيكاراغوا (التي عارضت الاتفاقية لأنها لا تتضمن إجراءات جذرية أكثر لتعزيز الانتقال إلى الطاقة البديلة) وسوريا.
وسارع المعلقون إلى القول إن الانسحاب من الاتفاقية يمثل نكسة كبيرة لسمعة ومكانة وقيادة الولايات المتحدة في العالم، وانتقدوا الرئيس ترامب الذي تصرف وكأنه لا يبالي إلا بإرضاء قاعدته الشعبية الضيقة، وخاصة شركات إنتاج الفحم الحجري في بعض الولايات الصغيرة مثل ويست فيرجينيا وكنتاكي، حيث حظي بتأييد عمال المناجم في الانتخابات. كما فند منتقدو ترامب استخدامه لإحصائيات خاطئة ولمبالغاته الكبيرة وتشويهه للسجل البيئي لدول أخرى مثل الصين والهند والتي اتهمها بأنها تعتزم الاعتماد أكثر على الفحم الحجري، بينما الواقع هو العكس تماما.
ورحب خصوم ترامب بالاحراج الذي سببه لنفسه حين قال في خطابه – الذي كان بشكله ومضمونه خطابا انتخابيا – إن ناخبيه يسكنون في مدينة بيتسبيرغ وليس في مدينة باريس. ولكن عمدة مدينة بيتسبيرغ بيل بيدوتو سارع للتغريد ردا على ترامب، مذكرا إياه بأن 80 بالمئة من سكان المدينة صوتوا لمنافسته هيلاري كلينتون، وأن مدينته تؤيد اتفاقية باريس وسوف تلتزم بأهدافها. المفارقة أن بيتسبيرغ التي كانت قبل أربعة عقود من أكثر المدن الأمريكية التي تلوث البيئة، أصبحت اليوم في طليعة المدن التي تعتمد على مصادر الطاقة البديلة والنظيفة.
وفي وجه الانتقادات الصادرة عن قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول التي رفضت طروحات ترامب غير العملية لفتح المفاوضات لاتفاقية “عادلة” أكثر، هبّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنجدة ترامب رافضا انتقاد قرار الانسحاب، وقال خلال مشاركته في مؤتمر دولي لرجال الأعمال في روسيا شارك فيه أمريكيون، ” ساعدونا على استعادة الحوار السياسي العادي، وأنا أطلب منكم نيابة عن روسيا، واحض الجانب الأمريكي (المشارك في المؤتمر) مساعدة الرئيس المنتخب حديثا، وإدارته في الولايات المتحدة “. وكان بوتين قد قال للصحفيين في مناسبة أخرى إنه معجب بشخصيات صريحة مثل ترامب لأنه مستعد للدفاع عن نفسه ضد البيروقراطيات الحكومية. ورأى أن ترامب “مباشر ومنفتح، ولا يمكن وضعه في خانة السياسيين التقليديين. وأنا أرى فوائد كبيرة في ذلك لأنه رجل يتحلى برؤية جديدة”.
سيف الفضيحة الروسية
ونظرا للتحقيقات المستمرة في واشنطن بالتدخل الروسي في الانتخابات، فإن آخر ما يحتاجه ترامب الآن هو أن يدافع عنه الرئيس بوتين، الذي اثار استهجان المعلقين والسياسيين الأمريكيين حين ادعى مؤخرا احتمال ضلوع “وطنيين روس” في حادثة الاختراق الإلكتروني للانتخابات الأمريكية، وهو موقف يتناقض مع نفيه السابق لأي مسؤولية روسية في عملية اختراق البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي. تشبيه بوتين للمخترقين الإلكترونيين بالوطنيين يظهر بوضوح مدى استخفافه بردود فعل الأمريكيين على فضيحة التدخل الروسي في انتخاباتهم.
وتبين مختلف المؤشرات وآخر المعلومات بأن هذه الفضيحة سوف تبقى سيفا مسلطا فوق رأس ترامب، وسوف تستحوذ على معظم وقته، وتحد من قدرته على إقناع الكونغرس بإقرار بعض خططه وتنفيذ بعض وعوده الانتخابية مثل إلغاء قانون الرعاية الصحية الذى أقره الرئيس السابق والمعروف باسم “أوباماكير” أو تعديل القوانين الضريبية وغيرها من الأهداف الجمهورية. هذه الضغوط على البيت الأبيض، والإحباط الذي يعاني منه ترامب يفسر استقالة مدير الاتصالات في البيت الأبيض مايك دابكي يوم الثلاثاء الماضي بعد ثلاثة أشهر من توليه هذه المسؤولية، والتي تعتبر مقدمة لتغييرات في هيكلية موظفي البيت الأبيض وتحديدا قسم الاتصالات والإعلام. ويمكن لهذه التغيرات أن تشمل إقالة الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر، وربما أيضا مدير موظفي البيت الأبيض راينس بريبوس، وتعويضه بمنصب السفير لدى اليونان، وهو المتحدر من أصل يوناني.
ولكن الاعتقاد السائد في واشنطن، حتى في أوساط مؤيدي ترامب هو أن الرئيس نفسه هو المسؤول الأول عن الفوضى التي تحيط بإدارته، وأن مواقفه وخاصة تغريداته الاعتباطية هي مصدر الكثير من المشاكل، وأن أي تعديلات في جهاز موظفي البيت الأبيض لن تؤد إلى أي تغييرات جذرية لصالح الرئيس، كما أن استمرار البيت الأبيض في التغطية على طبيعة الاتصالات مع المسؤولين الروس، سوف تُبقي الشكوك في الكونغرس وفي المجتمع باحتمال تورط مقربين من الرئيس ترامب – وربما الرئيس ترامب ذاته – في ممارسات وعلاقات وترتيبات غير مناسبة أو ربما غير قانونية مع مسؤولين روس.
وتركز الاهتمام الإعلامي في الأسبوعين الماضيين على نشاطات وتحركات صهر الرئيس جاريد كوشنر، وهو من أبرز مستشاري ترامب، وخاصة لقاءاته التي لم يكشف عنها من قبل مع شخصيات روسية. وهناك أسئلة كثيرة لا تزال دون إجابة واضحة أو مقنعة، حول لقاء تم بين كوشنر وسيرغي غوركوف مدير مصرف تملكه الحكومة الروسية في أوائل كانون الأول/ديسمبر، بعد أسابيع قليلة من انتخاب ترامب. واللافت في الاجتماع الذي لم يكن معلنا عنه في السابق هو أنه محاط بتفسيرات متناقضة. ويقول المسؤولون في المصرف إن الاجتماع تم مع كوشنر بصفته الشخصية كرجل أعمال لبحث استراتيجية المصرف الجديدة. ولكن البيت الأبيض كان قد أكد أن الاجتماع تم مع كوشنر بصفته مسؤولا في فريق الرئيس ترامب. الاجتماع مع مدير البنك، الذي تقول التقارير الصحفية إن له خلفية استخباراتية، جرى بعد اجتماع كوشنر، برفقة مايكل فلين، مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك في نيويورك، وهو الاجتماع الذي طلب فيه كوشنر من كيسلياك إقامة شبكة اتصال مباشرة مع موسكو.
وفي اليومين الماضيين كشفت تقارير صحفية مبنية على تأكيدات مسؤولين حكوميين سابقين، أن مساعدي الرئيس ترامب في الأسابيع الأولى التي تلت وصولهم إلى البيت الأبيض بدأوا باتخاذ الإجراءات البيروقراطية الأولية اللازمة لإلغاء العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا في 2014 عقب غزوها لأوكرانيا، وفي 2016 عقب كشف الاستخبارات الأمريكية عن تورط روسيا بالتدخل في الانتخابات من أجل مساعدة المرشح ترامب. وأدت محاولات إدارة ترامب هذه إلى ردود فعل عكسية وسريعة من قبل المسؤولين في إدارة الرئيس باراك أوباما من خلال مقاومتها واللجوء إلى الكونغرس لاستصدار قوانين تزيد من صعوبة إلغاء بعض هذه العقوبات بقرارات تنفيذية، وارغام البيت الأبيض على الرجوع إلى الكونغرس لإلغاء العقوبات بما فيها العقوبات الأخيرة. وجاء في تحقيق خاص لمؤسسة ياهو للأخبار قال فيه دانيال فريد، الذي استقال من منصبه كمنسق لتطبيق العقوبات في وزارة الخارجية في شباط/فبراير الماضي بعد خدمته فيها لأربعين سنة إنه “كان هناك تفكير جدي من قبل البيت الأبيض بإلغاء العقوبات”، بطريقة غير مشروطة بتغيير روسيا لسلوكها في أوكرانيا. وكشف فريد أنه تعاون مع زميله توم مالينوسكي الذي كان مساعدا لوزير الخارجية جون كيري لشؤون حقوق الإنسان للاتصال بالسيناتور الديمقراطي بن كاردن عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ للتحرك لمنع إدارة ترامب من إلغاء العقوبات بشكل أحادي الجانب. بعدها قام السيناتور كاردن بالتعاون مع السناتور الجمهوري ليندسي غراهام لطرح مشروع قرار يمنع إدارة ترامب إلغاء العقوبات دون العودة إلى الكونغرس. وقال مالينوسكي لموقع ياهو إن المسؤولين في البيت الأبيض كانوا يفكرون في البداية بمحاولة ترتيب اجتماع قمة بين ترامب وبوتين كجزء من جهود تهدف إلى التوصل إلى “صفقة ضخمة” بين البلدين. هذه المعلومات المبنية على تصريحات علنية لمسؤولين اختاروا الكشف عن هوياتهم في الصحافة، سوف تزيد من إلحاح الأسئلة حول هاجس ترامب و مساعديه بروسيا ورغبتهم بتحسين العلاقات معها، ورفض انتقادها ومحاولة مكافأتها من خلال إلغاء العقوبات، وذلك بعد تأكيد جميع اجهزة الاستخبارات الاميركية ضلوع مسؤولين روس وعلى أعلى المستويات بالتدخل السافر في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
ويقول مسؤولون في البيت الأبيض إن الرئيس ترامب وبعض كبار مساعديه يعتقدون أنه ضحية “مؤامرة” يديرها الحزب الديمقراطي وخصومه الآخرون الذين يريدون حرمانه من الحكم بفعالية، وأنه يعتزم مقاومة مختلف التحقيقات بفضيحة التدخل الروسي في الانتخابات، والتي كرر وصفها بعد عودته إلى واشنطن بأنها خدعة. وتحدث مسؤولون عن توظيف مستشارين وموظفين ومحامين جدد مستعدين للتصرف “كمقاتلين في الشوارع”، ما يعني أن ترامب ومساعديه سوف يحولون البيت الأبيض إلى قلعة بمواجهة ما يرون أنهم برابرة عازمون على إطباق حصارهم ضد الرئيس الأمريكي وزيادة عزلته، ربما تمهيدا لعزله في وقت لاحق.