يشير إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي، صاحب النزعة الانفصالية، الذي صدر في 25 أبريل/نيسان، والمتضمن عزمه إقامة حكم ذاتي في جميع أنحاء جنوب اليمن، إلى أن شبح الانسحاب السعودي من الحرب في ذلك البلد يدفع أطراف النزاع إلى تعزيز مواقعها، سواء كانت عسكرية أم سياسية أم إقليمية. يبدو أنهم يتوقعون أن انتهاء التدخل السعودي سيعمل على إعادة تشكيل معالم الصراع بشكل كبير، ومن المرجح أن يزيل آخر عقبة كبيرة أمام انتصار أنصار الله، الميليشيات المسلحة التي يشار إليها عادة باسم الحوثيين.
بدأت الجهود السعودية الجادة لإخراج المملكة من اليمن في أعقاب هجوم سبتمبر/أيلول 2019 على منشآت شركة أرامكو، ليس لأن الرياض تعتقد أن الحوثيين هم المسؤولون عن الهجوم، ولكن لأن الحرب في اليمن وفرت الذريعة لهذا الهجوم، وللهجمات بالصواريخ الباليستية التي يقوم بها الحوثيون ضد المدن السعودية والبنية التحتية المدنية بشكل منتظم.
يبدو أن الإمارات العربية المتحدة، الشريك الرئيسي الآخر في التحالف العسكري بقيادة السعودية الذي تدخّل في حرب اليمن في عام 2015، قد توصلت إلى الاستنتاج نفسه في صيف عام 2019 بشأن مواطن الضعف المتوقعة جراء تورطها في الصراع. ومن المدهش للجميع تقريبًا، بما في ذلك الرياض، أن الإمارات قد أعلنت عن سحب الجزء الأكبر من قواتها لأن اتفاقية ستوكهولم في ديسمبر/كانون الأول 2018 وضعت البلاد على مسار السلام، من خلال إنشاء إطار لفض الاشتباك بين القوات، وإشراف الأمم المتحدة على ميناء الحديدة على البحر الأحمر. أبقت الإمارات العربية المتحدة على بعض قوى مكافحة الإرهاب في اليمن، لكن الأهم من ذلك أنها تركت وراءها قوات المجلس الانتقالي الجنوبي الفاعلة والمخولة بالكثير من الصلاحيات، ما أظهر عداءً واضحًا تجاه الحكومة اليمنية، برئاسة عبد ربه منصور هادي، المعترف بها دوليًا. وساءت الأمور في عام 2019 لدرجة أن السعودية شعرت بأنها مضطرة للتدخل والوساطة في اتفاقية الرياض، التي كان من المفترض أن تنهي الأعمال العدائية بين الجانبين. وبعد أن تمت صياغة اتفاقية الرياض على عجل، لم تحقق الاتفاقية أهدافها قط، وذلك مرهون بالعديد من التفسيرات، ويوحي إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في نهاية الأسبوع بأن الاتفاقية قد فقدت كل صلاحيتها.
في غضون ذلك، تم الترحيب باتفاقية ستوكهولم آنذاك كونها تظهر إمكانية قيام المتمردين الحوثيين وحكومة هادي بإجراء مفاوضات ناجحة، ولكنها تترنح أيضًا وعلى شك الانهيار. وبعد أن قتل قناص حوثي ضابطاً يمنيًّا في 11 مارس/آذار، أعلنت حكومة هادي أنها لن تشارك بعد الآن في اللجان التي شكلتها الأمم المتحدة للإشراف على تنفيذ الاتفاقية. ووصف ناطق باسم الحكومة اليمنية الاتفاقية بأنها وهم، مؤكدًا أنها “لم تحقق شيئًا”.
ومع تغير المشهد في اليمن، لا يزال المتمردون الحوثيون يسيطرون بقوة على المرتفعات الاستراتيجية في البلاد، بما في ذلك العاصمة صنعاء. وتشير المكاسب الأخيرة التي حققها الحوثيون في المناطق الواقعة شرق العاصمة، والتي طالما كان يُعتقد أنها بعيدة المنال، إلى أنهم يتطلعون أيضًا إلى تعزيز موقعهم التفاوضي في أي وقت تُستأنف فيه المفاوضات لإنهاء حرب اليمن. وليس من المرجح أن يكون هنالك مفاوضات في هذه الأثناء، على الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن جريفيث، الذي كان يجري محادثات غير مباشرة مع الأطراف المتحاربة بشأن وقف إطلاق النار في جميع أرجاء البلاد، والإجراءات الاقتصادية والإنسانية، واستئناف المباحثات السياسية. وفي 16 أبريل/نيسان، قام جريفيث بإبلاغ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، “نتوقع منهم الموافقة على هذه الاتفاقات واعتمادها رسميًا في المستقبل القريب”.
وقد عزز من جهود جريفيث الأخيرة إعلان المملكة العربية السعودية في الثامن من أبريل/نيسان أنها ستبدأ وقف إطلاق النار من جانب واحد لمدة أسبوعين، وذلك استجابة لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة بوقف الأعمال العدائية في اليمن وأماكن أخرى، ليتم تكريس الموارد النادرة لمواجهة التفشي المأساوي المرتقب لفيروس كورونا. وانطلاقًا هذه الدعوة، يعمل جريفيث على تشجيع أطراف النزاع في اليمن على إلقاء مظالمهم جانبًا، ودعم إنشاء غرفة عمليات مشتركة لمواجهة فيروس كورونا من أجل إعداد نظام الصحة العامة المحاصر في البلاد لمواجهة تفشي الجائحة المرتقب.
كان وقف إطلاق النار الأولي الذي أعلنته الرياض لمدة أسبوعين قائمًا بالاسم فقط. فقد استمر العنف عندما أصدر الحوثيون خريطة طريق لوقف الأعمال العدوانية. وحاولت الرياض مرة أخرى عشية شهر رمضان المبارك، معلنةً تمديد فترة وقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا أخرى. وبعد يومين، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي الحكم الذاتي في الجنوب، وهي خطوة “بددت كل الجهود التي بذلت منذ أشهر لتنفيذ اتفاق الرياض” على حد ادعاء حكومة هادي.
تم توقيع اتفاقية الرياض تحت رعاية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، وكان الهدف منها نزع فتيل التوجهات الانفصالية الجنوبية، من خلال إضفاء الشرعية على المجلس الانتقالي الجنوبي، والاستماع إلى صوتهم في أي مفاوضات سياسية مستقبلية. وبدوره، وافق المجلس الانتقالي الجنوبي على انضمام ميليشياته المسلحة، التي تم تدريبها وتجهيزها بالمعدات من قبل الإمارات العربية المتحدة، وتحت قيادة سعودية، للقوات الموالية للرئيس هادي. كان الهدف هو توحيد شركاء التحالف اليمنيين، الذين عكس عداؤهم لبعضهم بعضًا تباينًا كبيرًا في وجهات النظر بين الرياض وأبو ظبي حول ما قد يبدو عليه اليمن في المستقبل. وأشار البيان الصادر عن حكومة هادي بوضوح إلى هذه المخاوف، “نجدد دعوتنا للإخوة في التحالف لدعم الشرعية لتحمل مسؤولياتهم التاريخية تجاه وحدة وتكامل أراضي الجمهورية اليمنية”.
من جانبها، أصدرت الرياض بيانًا عبر وكالة الأنباء السعودية دعت فيه إلى “إنهاء أي أعمال تصعيدية… والعودة إلى اتفاقية الرياض”. وقام وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، رجل أبو ظبي الأول في السياسة اليمنية، بتكرار الدعوة إلى عدم اتخاذ إجراءات تصعيدية، وأصدرت وكالة أنباء الإمارات نشرة اقتبست فيها كثيرًا من البيان السعودي، ومن الملاحظ أنها لم تبدِ إشارة واضحة بالدعم من جانب القيادة الإماراتية.
مع إلغاء المجلس الانتقالي الجنوبي لاتفاقية الرياض، ورفض حكومة هادي اتفاقية ستوكهولم، يبدو أن الوثيقتين، اللتين تم وصفهما مرارًا وتكرارًا بأنهما الركيزتان اللتان تقوم عليهما جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة، قد تم التعامل معهما بالضربة القاضية. استمرت جهود جريفيث، ورحب بإعلان الرياض الذي جاء فيه أن السعودية ستمدد وقف إطلاق النار من جانب واحد. ولكن هناك حدود لما يمكن لمبعوث الأمم المتحدة أن يفعله دون ممارسة ضغوط على جميع أطراف الصراع من أكبر عدد ممكن من أركان المجتمع الدولي. ولو لم يكن مجلس التعاون الخليجي متورطًا في نزاع داخلي خاص به، لتمكن من الرد بشكل أكثر تماسكًا على هذه الأزمة. ولو لم تكن إدارة ترامب عازمة على تركيع إيران من خلال “الضغوط القصوى”، لأصبح النظام في طهران أكثر ميلًا لاستخدام كل نفوذه تجاه الحوثيين لإقناع المتمردين بإسقاط المطالب المبالغ فيها.
لقد طالت حرب اليمن لفترة كبيرة لأنها دارت بشكل أساسي بعيدًا عن الأنظار، وغطت عليها أزمات وصراعات عالمية أخرى. وفي نقطة تحول حقيقية في الصراع، يبدو أن اليمن الآن معرض للمعاناة من المصير نفسه على يد جائحة عالمية، مستحوذة على اهتمام المجتمع الدولي، تهدد بإضافة عدوى جماعية إلى سلسلة المحن التي ألـمَّت بالشعب اليمني.