يواجه الرئيس الأمريكي دونالد ج. ترامب موعدًا نهائيًّا لتجديد المصادقة على رفع العقوبات في 12 مايو/ آيار، كما هو مطلوب بموجب قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني (INARA). سيعتمد تجديد المصادقة على تقييم الهيئة التنفيذية المرفوع للكونغرس بأن إيران لا تزال ملتزمة بخطة العمل الشاملة المشتركة، وعلى القدر نفسه من الأهمية، أنه ما زال من مصلحة الولايات المتحدة تعليق العقوبات كجزء من تنفيذ الاتفاقية. إنه إنذار نهائي من صناعة أمريكية بحتة، وهو ما وضع الحلفاء الأوروبيين في حالة توتر، ودفع وزير الخارجية الإيراني إلى طرح قضيته (وتهديدات “عواقب” الخروج) إلى الجمهور الأمريكي هذا الأسبوع.
يبدو أن خرق صفقة خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) من جانب الولايات المتحدة، شأنه شأن العديد من قرارات إدارة ترامب الأخرى، لن يشكل سياسة استباقية، بل سيكون فرصة لإفساد الإستراتيجية الإقليمية للإدارة السابقة. إلى جانب كوريا الشمالية، ربما تكون هذه هي القضية الأهم في السياسة الخارجية التي يواجهها الرئيس ترامب.
هناك ندرة في الأفكار حول كيفية جلب المنطقة إلى المظلة الأمنية الأمريكية، ناهيك عن مضايقات الرئيس لانتزاع مبالغ مالية من الحلفاء العرب الخليجيين تحديدًا. وهناك حاجة ملحة داخل مجتمع السياسة الخارجية للولايات المتحدة لوضع إستراتيجية فعالة لمتابعة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط والإفصاح بشكل دقيق عن كيفية إحباط التوسع الإيراني ودعم الإرهاب. إن وضع سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران في إطار التحديات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقًا في المنطقة من شأنه أن يوفر لنا السياق المهم لكون التكامل الاقتصادي الإيراني يشكل تهديدًا لجيرانها، ولماذا سيكون للقيادة الأمريكية والمشاركة المتعددة الأطراف، وخاصة مع الجهات الإقليمية الرئيسية في الخليج، دور أساسي في الاستقرار الإقليمي. قد تكون واشنطن أخطأت في تحديد من المستفيد من مظلة الأمن الأمريكية وتشابك الخلافات بين دول الخليج العربية فيما بينها ومع جارتها إيران. إذا كان هناك أي “منتفع مجاني” بين الدول، فإنها الصين ومستثمرون آخرون من الدول الآسيوية ومستهلكون لمنتجات الطاقة الخليجية.
سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط ومواجهة إيران
إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في كانون الأول/ ديسمبر 2017 تعتبر إيران دولة مارقة وراعية للنشاط الإرهابي، وجزءًا من رابطة القوى الدافعة لعدم الاستقرار الإقليمي بما في ذلك “الأيديولوجية الجهادية”. ومع ذلك، فهي لا تقدم رؤية لهيكلية الأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، عدا عن ذكر “مجلس التعاون الخليجي القوي” كمنظمة إقليمية، ودعم هادئ لدولتين فقط تخضعان لإصلاحات في السوق، وهما مصر والمملكة العربية السعودية. وعلى وجه الخصوص، لا تربط إستراتيجية الأمن القومي NSS بين أسباب النشاط الإرهابي أو الأيديولوجية الجهادية وبين فشل نماذج الحوكمة في خلق الوظائف والنشاط الاقتصادي وإشراك المواطنين. هناك علاقة في طريقة معاناة دول المنطقة من تشوهات في اقتصاداتها السياسية، سواء كانت مدعومة بشكل مباشر من إيرادات النفط والغاز، والمساعدات الأجنبية، أم من الاضطهاد. ولا تهدف إستراتيجية الأمن الإقليمية إلى إصلاح مشاكل جميع البلدان، وإنما إلى تحديد طرق لوضع سياسة تعمل على تحويل النتائج لمصلحة الولايات المتحدة.
خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) هي اتفاقية بشأن الحد من قدرات إيران النووية. ولكنها أيضًا اتفاقية لوضع تصور للنمو الاقتصادي، من خلال تخفيف العقوبات وفتح إيران للتدفقات المالية العالمية، كآلية للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط. إنها استخدامٌ استراتيجي للتعددية التي شكلت جزءًا من إشراك المنطقة الأوسع في تحالف دولي (الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى ألمانيا). وهي تحدد مشكلة واحدة (قدرة إيران النووية) وتقدم حافزا يوفر فوائد ليس فقط لإيران، وإنما للمنطقة ككل، إذا تمكنت إيران من استخدام تخفيف عقوباتها من أجل النمو، ومن أجل تكامل الفرص الاستثمارية مع جيرانها.
دعمت JCPOA سياسة الولايات المتحدة لتشجيع جزء من التعددية القطبية أو التوازن داخل هيكلية الأمن الإقليمي، أو ما وصفته إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بـ “تقاسم الجوار” بين المتنافسين التقليديين في المنطقة، وخصوصًا المملكة العربية السعودية وإيران. وبدلاً من إستراتيجية “الركنين التوأم” في السبعينيات التي أبقت الولايات المتحدة في مركز توازن مناطق النفوذ السعودية والإيرانية المتنافسة في الشرق الأوسط، اعتمدت إستراتيجية “المشاركة” لأوباما على مفاهيم الليبرالية الاقتصادية التقليدية، وبذلك قد تعمل زيادة الروابط التجارية وتطبيع العلاقات على خلق حوافز للتعاون وتزيد من تكلفة الصراع.
السياسة الإقليمية لدول الخليج ومواجهة إيران
في حين أنه لدى دول الخليج العربية سبب وجيه للشعور بأنها مستبعدة من عملية خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أنها لم ترفض الصفقة. ولم تضع دول مجلس التعاون الخليجي أي موقف مشترك متماسك لمواجهة إيران. في الواقع، لم يتفاقم ضعف دول مجلس التعاون الخليجي إلا من خلال اعتماد مقاربة التباعد عن إيران، وبالتحديد إعاقة تكامل إيران الاقتصادي مع دول الخليج. وكان لعزلة قطر من قبل رباعية المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر منذ حزيران/ يونيو 2017 تأثيرٌ، ربما غير مقصود، أدى إلى مضاعفة التجارة بين قطر وإيران (معظمها في الواردات القطرية من المواد الغذائية). وبالمثل، لم نشهد في الشراكات الأمنية الثنائية الناشئة بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أي اهتمام أو إستراتيجية أمنية لتقاسم المنطقة مع إيران، ونادرًا ما يتم الاعتراف بعلاقاتها القوية عبر الخليج. على المدى القريب والمتوسط، ليس من الواضح كيف ستتعامل السعودية والإمارات العربية المتحدة مع إيران المعزولة والمزعزعة الاستقرار في ظل فرض عقوبات متجددة أو متزايدة. هل سيسعون لزيادة إضعاف إيران إلى حد انهيار النظام؟ في حين أن الخطاب كان عدائيًّا بشكل متزايد، إلا أنه لا توجد دعوة فورية لمواجهة إيران عسكريًّا من قبل دول الخليج العربية. حتى في إطار الصراع الوحشي في سوريا، لم تتفق دائمًا دول الخليج العربية على أفضل السبل لمواجهة الرئيس السوري بشار الأسد أو إيران، ولكن هناك إجماع حاليًّا على أن توجه الولايات المتحدة في نيسان/ أبريل إلى توجيه ضربات محدودة ضد النظام السوري (مع تجنب الأهداف الإيرانية أو الروسية) هو التوجه المفضل.
إن إستراتيجية الأمن القومي إزاء إيران في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تغلي في الغالب على نار هادئة. وقد وصف خبراء السياسة الخارجية السعوديون السياسة بكونها “حفاظًا على الوضع الراهن”. والمشكلة هي أن البيئة الإقليمية الحالية لا يمكن أن تكون مستقرة. فالغليان هو الكناية الأنسب. ولا يمكن للحروب في سوريا واليمن وليبيا أن تكون أبدية.
هناك جهود ناشئة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لصياغة رؤية إستراتيجية للشرق الأوسط، تتمحور حول الحفاظ على أنظمتهم السلطوية في الحكم وحفظ النظام، ولكنها تقدم أيضًا نموذجًا للتنمية الاقتصادية بقيادة الدولة، وهو النموذج الرأسمالي. التفاوض على مكانة الإسلام في الحكم يعتبر من الأمور الحاسمة للنموذج الإماراتي الناشئ، وعلى نطاق أوسع، وكجزء من دستورهم، كيفية ضمان فكرة المساواة بموجب القانون دون الانحياز إلى المعتقد الديني أو العرقي أو المركز الاجتماعي. وقد وصفت الإمارات العربية المتحدة رؤيتها بأنها “الحكم العلماني”، على الرغم من أن الشريعة الإسلامية هي مصدر كل القوانين في البلاد. يطغى دور الدولة على دور الإسلام في المجتمع والاقتصاد. إن التحول الاقتصادي السعودي الذي تحدده الرؤية 2030 لا يذهب بعيدًا في معالجة دور الإسلام، وإنما يفكر مليًا في الدور المناسب للدولة في استحداث النمو والفرص (لا تزال الدولة هي المهيمنة).
وتظهر هنالك معضلتان أساسيتان في المنطقة: الأولى، تحديد دور الدين في السياسة؛ والثانية، الحد من دور الدولة، والنخب والأُسر الحاكمة التي تسيطر عليها اقتصاديا؛ باختصار، معالجة الشمولية والنشاط الاقتصادي. هل من الممكن أن نتوقع أن تبقى المنطقة معلقة، في حين أنها تجيش بالاستياء إلى حد كبير بشأن القضايا الاقتصادية التي اندلعت في الربيع العربي عام 2011 وبقيت دون حل؟ في هذه الأثناء، تحاول دول الخليج العربية، بقيادة عضوَيها الرياديَّين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن تشكل نموذجًا، نوعًا من الرأسمالية السلطوية التي من المفترض أن يتم تصديرها وتكرارها، باستثناء إيران، التي يتم احتواؤها بطريقة أو بأخرى في بؤسها. معضلتهم الأمنية في أنه يجب الإثبات بأن النموذج الإيراني، في اعتناقه للإسلام السياسي الراديكالي والنمو الذي تغذيه الطاقة، غير ملائم، بل وحتى مأساوي. ولكن لنزع الشرعية عن إيران، اشتركت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في سياسة خارجية عالية الخطورة: وذلك ببدء صراع داخل دول مجلس التعاون الخليجي من أجل وضع حد للإسلام السياسي، مع اعتماد سياسة إعاقة أسواق الطاقة الخاصة بهم للتقليل من قدرة الخصم على النمو، ودخول الحرب الأهلية في اليمن، مع خطر التصعيد الإقليمي.
المكاسب النسبية: قبول الخسارة لعرقلة إيران
خطر الحرب الإقليمية واضح. والأقل وضوحًا هو التهديد بتدفق الاستثمار والفرص اللازمة لاستراتيجيات التنويع والنمو الخاصة بدول الخليج العربية. أظهرت السعودية والإمارات العربية المتحدة استعدادهما لقبول تقليص الفرص الاقتصادية من أجل تقليص مكاسب خصمهما إيران. وكان لقطر دور مهم في هذا الحساب. من الواضح أن روسيا هي المستفيدة.
وتأتي ثروة قطر وبروزها في السياسة الإقليمية من حقلها الشمالي، وهو خزان ضخم يتألف من 1800 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي و50 مليار برميل من الغازات المكثفة، أي أكثر من الغاز في كافة حقول العالم الأخرى مجتمعة. وبدأت قطر التصدير من الحقل في عام 1997 وبلغ إنتاجها المحلي الإجمالي أكثر من ثلث المجاميع العالمية في عام 2010. وفي غضون ذلك، أصبحت قطر في غاية الثراء، وناتجها المحلي الإجمالي الحالي 17 ضعف ما كان عليه في عام 1996. تشترك قطر في الحقل مع إيران وأعلنت عن تعليق الإنتاج في عام 2005، ثم أعادت فتح الإنتاج في نيسان/ أبريل 2017. كما أعلنت إيران في 2017 أنها ستزيد الإنتاج في الحقل المشترك (جنوب فارس/ الحقل الشمالي)، رافعة صادرات الغاز إلى 365 مليون متر مكعب في اليوم بحلول عام 2021، والتي وفقا لإحصائيات ميد (MEED)، ستكون أكثر من إجمالي صادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال لهذا العام. ومن شأن الإنتاج المشترك أن يتحدى روسيا، وحتى يحل محلها كمُصَدر عالمي رائد للغاز.
تحتاج كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى الغاز الطبيعي لتزويد استهلاكهما المحلي من الطاقة. وتشتري دولة الإمارات الغاز الطبيعي من قطر عبر خط أنابيب دولفين، لكنها لم تضاعف وارداتها إلى أقصى حد (جزئيًّا بسبب الاعتراضات السعودية على مسار خط الأنابيب عبر مياهها الإقليمية الخاصة) ولأنه سيكون لديها وفرة في الإنتاج المحلي للكهرباء من خلال منشآتها النووية الجديدة. بتخفيضها لتعاملاتها مع قطر، تتطلع الإمارات العربية المتحدة إلى الولايات المتحدة كمُورد بديل. وتتطلع المملكة العربية السعودية إلى روسيا للمشاركة في الاستثمار في إنتاج الغاز الطبيعي من الدائرة القطبية الشمالية، بالإضافة إلى التنسيق الوثيق مؤخرًا بشأن إنتاج النفط عبر أوبك (OPEC). وفي كلتا حالتي سياسة الطاقة المحلية الإماراتية والسعودية، هناك دافع أساسي للتقليل من الإمكانيات الاقتصادية لإيران، وأثر ثانوي، لتقويض الثروة القطرية ونفوذها الإقليمي. تتغاضى هذه الخيارات عن التعاون الروسي مع إيران في سوريا وحتى عن الاستثمار الروسي في إيران. كما أن الصين قادرة على أن تمتطي الخليج، من خلال حصولها على استثمارات ملائمة في الطاقة والبنية التحتية والقروض المصرفية في كل من دول الخليج العربية وإيران، دون تحمل أي تكاليف للتدخل العسكري في سوريا.
ومن المفارقات الساخرة، أن العديد من الأهداف المشتركة في استثمارات البنية التحتية والتنمية المحلية في دول الخليج العربية وإيران تعتمد على مستثمرين مشتركين، معظمهم من آسيا. وتسعى كل من المملكة العربية السعودية وإيران إلى خصخصة وبناء مطارات جديدة. وتسعى كلتاهما إلى زيادة السكك الحديدية والقدرة على الشحن. ويذهب نحو 60 في المئة من صادرات إيران من النفط وحجم السوائل المكثفة إلى آسيا، حيث الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان هم أكبر مستهلكيها. منذ رفع العقوبات في عام 2016، يشكل المشترون الأوروبيون حوالي 25 في المئة من صادرات النفط الإيرانية، وفقًا لبحث أجرته مؤسسة جولدمان ساكس. وإذا تمت إعادة فرض العقوبات من قبل الولايات المتحدة، فإنه من غير المتوقع أن تتغير أغلبية التجارة مع آسيا كثيرًا، فقط الصادرات إلى أوروبا. من المرجح أن تزداد تكلفة تأمين صادرات النفط الإيرانية، لكن توقعات انخفاض الصادرات محدودة. المستفيدون الواضحون من سياسات دول الخليج العربية تجاه إيران هم روسيا والصين وبلدان آسيا التي تشتري الطاقة من المنطقة وتستثمر فيها. يكشف التداخل بين سياسات الطاقة والأمن والتنمية في دول الخليج العربية عن بعض التناقضات، أو على الأقل بعض الخيارات الصعبة للغاية في السعي لتحقيق مكاسب نسبية.
جذور الفوضى في الاقتصاد السياسي في المنطقة
يواجه الشرق الأوسط الكثير من المشاكل، بما في ذلك حربان، إن لم تكن ثلاثة حروب أهلية فظيعة. لكن المنطقة لا تتسم بفشل الدولة الواسع الانتشار أو الفقر المدقع. إنها منطقة الشباب الذين تلقوا تعليمًا جيدًا وفقًا للمعايير العالمية، وهم قادرون على الحصول على الرعاية الصحية، ومرتبطون بعالم من الأفكار. إنهم مرهقون من فساد حقيقي ويقاومون عراقيل أمام تحركاتهم الاجتماعية والاقتصادية. ويتزايد الجدال حول كيفية مواءمة عدم المساواة مع لغز الاستياء وتحديات الحكم في المنطقة. وقد أكدت دراسات البنك الدولي وأعمال إيلينا إيانتشوفيشينا على كيفية مواجهة المنطقة مصيدة الدخل المتوسط، وكيفية توقف خطى التنمية الاجتماعية الاقتصادية عن إيجاد مسارات للعمل والنشاط الاقتصادي، وغالبًا بسبب هيكلية الأنظمة الاقتصادية غير الفعالة والمعتمدة على الدعم بشكل كبير، والمثقلة بالنماذج التجارية المملوكة للعائلات، والتي ليس من المرجح أن تعمل على توظيف وتنمية المواهب الجديدة.
تعرض الأعمال الجديدة لـ فاكوندو ألفريدو، وليديا أسواد، وتوماس بيكيتي الشرق الأوسط على أنه أكثر مناطق العالم افتقارًا للمساواة، حيث يحصل عشرة في المئة من المواطنين على أكثر من 60 في المئة من إجمالي الدخل. وكما يزعم كيفان هاريس، فإن مسار الشرق الأوسط يختلف عن تجربة أمريكا اللاتينية، التي اتسمت بالتحررية التي أفضت إلى أزمات الديون وعقود اجتماعية متجددة، غالبًا على شكل ديمقراطيات يسارية. في الشرق الأوسط، عمل الميثاق الاجتماعي لقطاع عام كبير وتكاليف الطاقة المدعومة بدرجة كبيرة، مع القليل من الحوافز على التصنيع الفعال أو التكنولوجيا الحديثة، على جعل الدولة هي العامل الاقتصادي المركزي والمُحكم في النمو، والذي تشوه إلى حد كبير بسبب البترودولارات والمساعدات. كما يزعم هاريس:
إن التراكم المركز لدخل الخليج متجذر في ما تبقى من مسار الشرق الأوسط الكئيب. كانت نتيجة أربعة عقود من الحروب المتعاقبة في المنطقة هي دفع القيادة السياسية والاقتصادية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو ممالك الخليج. ويروج النموذج الخليجي لرأسمالية مقننة وغير مكلفة: المواطنة الاجتماعية للأقليات من النخبة وذوي القربى، استيراد الطبقات العاملة والمهنيين، وإحالة أمن المنطقة بالتعاقد الباطني إلى القوة الأمريكية العظمى.
هناك حاجز زجاجي، وليس سقفًا زجاجيًّا، للشباب في الشرق الأوسط، وخاصة الشابات، حيث تكون الثروة والسلطة السياسية مرئية، لكن يتعذر على الأغلبية الوصول إليها بشكل كامل. إنها أزمة الفرص الضائعة والمواهب المهملة. لقد تجاوبت الحكومات مع الدعوات المتزايدة إلى القومية، حيث تحول العقبات الخارجية دون الإدماج والنمو- وعلى وجه الخصوص، التهديدات الأمنية من المتطرفين السُنة العنيفين أو دولة إيران المنبوذة. لا يوجد تغيير على هياكل السلطة في الخليج، ما يبقي الدولة في محور النموذج الاقتصادي، حتى ضمن الإصلاحات المقترحة، كما هو الحال في الحالة السعودية. حتى إن دور التعاقد المبطن مع الأمن الأمريكي غير مؤكد، مع زيادة الإشارات المختلطة من إدارة ترامب.
الوقت من أجل نموذج إقليمي جديد، مضطلع محليًّا على الدعم المتعدد الأطراف
التصدي لإيران، إذا كان هذا بالفعل هدف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، سيتطلب فهمًا لموقف إيران على أنه نقيض فكري بالمقارنة مع مراكز السلطة الإقليمية الطموحة الأخرى مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وللتحديات الاقتصادية المشتركة التي تواجه المنطقة. والاتفاق النووي مع إيران ليس غير مقيد بمراكز القرار الأخرى.
يؤيد خصوم إيران الإقليميون والولايات المتحدة حرب استنزاف تضعف إيران لانتشارها في سوريا، والتي تعتبر منبوذة بسبب دعمها لحزب الله والحوثيين في اليمن، ومرهقة من الداخل، نتيجة لاقتصاد فاشل، ونظام مالي فاسد، ورجال الدين ليسوا على تواصل مع الديموغرافية الشابة (خاصة من النساء) التي لا ترى في الأفق سوى فرصة ضئيلة. لكن إيران المنهارة والغاضبة بعناصرها المدمِرة في سوريا واليمن، دون أي قدرة على التعهد بالنمو الاقتصادي، ليس فيها أية فائدة للمنطقة ولا لمصالح الولايات المتحدة. قد تكون إستراتيجية التهديد، التي تواصل فيها الولايات المتحدة وضع إحدى أقدامها على خطة العمل الشاملة المشتركة والقدم الأخرى على دعسة زيادة العقوبات المفروضة على إيران، قد أخذت مفعولها. إذا لم يعد ترامب المصادقة على تخفيف العقوبات، فستكون الولايات المتحدة على مسار تصادمي مع إيران، وفي الوقت نفسه تقوض مصداقيتها في التوصل إلى اتفاقية مع كوريا الشمالية. وبالمثل، فإن إستراتيجية الوضع الراهن التي تفضلها دول الخليج العربية ليست مستدامة. في مرحلة ما، لا بد من ظهور نماذج بديلة للحكومات السياسية والاقتصادية. حتى وإن تجنبنا المواجهة مع إيران، فهناك مطالب فورية لاستراتيجيات التنمية الإقليمية.
إن عدم وجود رؤية إستراتيجية لدى الولايات المتحدة بشأن المنطقة مكن السياسات القصيرة الأمد التي نشرت الحروب الأهلية وجذبتها عناصر فاعلة خارجية مثل روسيا التي وجدتها فرصة لتغيظ الولايات المتحدة ولتُقيم أسواقًا جديدة لكل من أسلحتها وموارد الطاقة التي تخصها. البيئة الإقليمية الحالية في نقطة حاسمة، على حافة صراع هائل، ولكن في لحظة إعادة الحساب أيضًا. إن فهم المظالم المحلية، والتوجهات الاجتماعية الاقتصادية الواسعة، وسبب رؤية جيران إيران لمثل هذه المخاطر، يفترض أن ينعكس على سياسة الولايات المتحدة للأمن الإقليمي والمساعدات. كما قد يشجع الولايات المتحدة على القيام بدور قيادي في توسيع نطاق التفاوض، مثل خطة العمل الشاملة المشتركة، أو أي شيء جديد يظهر إلى جانبها، وقد تندمج بشكل أفضل بالديناميكيات الإقليمية وتقدم لدول الخليج العربية، وللشرق الأوسط على نطاق أوسع، بديلاً عن الخصومات التي تحمل بذور هزيمتها والتي تحرك العلاقات الإقليمية في الوقت الراهن.