أثار الارتفاع الملحوظ لمعدل البطالة في دولة الإمارات العربية المتحدة تساؤلاتٍ عديدة تنم عن استياء متزايد من قضية بدأت تؤرق الرأي العام. على الرغم من عدم وجود أعداد أو نسب رسمية للبطالة، بالإضافة إلى تفاوت الأرقام الصادرة عن مختلف المنظمات الدولية، إلا أن البنك الدولي رجح في أحد تقاريره أن معدل البطالة في دولة الأمارات قد ارتفع من حوالي 1.6٪ في عام 2016 إلى 5٪ في عام 2020.
لكي نفهم الرسم البياني أعلاه، علينا استعراض الأوضاع الاقتصادية التي سبقت الارتفاع المفاجئ في نسبة البطالة في الدولة. ففي في يناير/كانون الثاني 2014، فرضت دولة الإمارات التجنيد العسكري الإلزامي – أو الخدمة الوطنية – على الذكور ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا، ثم تلى ذلك إعلان الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية عن إعطاء الأولوية للمواطنين الذين أتموا خدمتهم الوطنية في التوظيف والترقية تحفيزًا لهم. إلا أن هذه الجهود تزامنت مع بداية انخفاض سعر النفط الخام في يونيو/حزيران 2014، والذي امتد إلى عام 2016. وعلى الرغم من الجهود المبذولة للدفع بالتنويع الاقتصادي في الدولة، انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات من 4.6٪ في عام 2014 إلى 2.1٪ في 2016. ونتيجة لذلك اعتمدت كلٌ من الإمارات والسعودية ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5٪، باعتبارها جزءًا من اتفاقية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لمساعدة اقتصاداتها على التعافي من العجز المالي الناجم عن انهيار أسعار النفط، والذي تعطلت على اثره العديد من المشاريع الإماراتية الطموحة، فما لبث منتسبو الدفعة الأولى للخدمة الوطنية – الموظفون منهم والعاملون لحسابهم الخاص كما المتعطلون عن العمل – من إنهاء مدة الخدمة حتى وجدوا أنفسهم في مجتمعٍ وسوق عملٍ جديد، يتعافيان ببطء من ركود اقتصادي بالكاد تم الإعلان عنه، وبدأت تبعاته تنعكس على الاقتصاد المحلي بشكل أوضح، حيث ارتفع معدل البطالة.
من هم المتعطلون عن العمل؟
تُعد دولة الإمارات من الدول الشحيحة بالأرقام والاحصائيات تمامًا كما هو الحال في بقية منطقة الخليج، حيث إن أحدث تعداد سكاني للدولة تم اجراؤه عام 2005 مما يجعل كافة البيانات الديموغرافية منذ ذلك الحين مجرد أرقام تقديرية. تُبين الأرقام التي نشرها المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء في عام 2020 في مسحه للقوى العاملة توزيعًا مبنيًا على الفئة العمرية والتحصيل العلمي. وتمثلت أعلى نسبة في المتعطلين عن العمل لدى حملة درجة البكالوريوس أو ما يعادلها، كما يبين الجدول التالي أن البطالة تؤثر بشكل أكبر على الإناث. ووفقًا لقوانين دولة الإمارات المعمول بها حاليًا، والتي تُعنى بتأشيرات الدخول والإقامة في الدولة، حيث تم الإعلان مؤخرًا عن تعديلاتٍ ستدخل حيز التنفيذ في سبتمبر/أيلول، منها أن كفالة الوالدين للوافدين الذكور تسقط تلقائيًا بعد بلوغهم سن الثامنة عشر، وبناءً عليه يصبح لدى تلك الفئة العمرية من المقيمين الذكور خياران فقط لتمديد الإقامة: فإما الالتحاق بجامعة محلية أو الانضمام إلى سوق العمل. ونظرًا لكون إقاماتهم تعتمد على قدرتهم على تأمين كفالة عمل، فمن المرجح أن تكون نسبة المتعطلين للذكور من حملة الشهادات الجامعية في الجدول التالي تمثل في أغلبيتها المواطنين الإماراتيين، مع انحراف نسبي بسيط بالنسبة للإناث نظرًا لأن كفالتهن تستمر حتى بعد بلوغهن سن الثامنة عشرة، وبالتالي يتم إدراجهن ضمن كافة الإحصائيات.
اضافةً إلى ذلك، تم اعتماد تصريح عمل جديد يسمح للباحثين عن العمل في الدولة على غرار الدول الأخرى المستقطبة للمواهب. ويأتي ذلك ضمن عدد من القوانين الجديدة الخاصة بالتأشيرات والتي تم اصدارها في أبريل/نيسان المنصرم، وستسمح تأشيرة البحث عن عمل لمن تخرجوا من أفضل 500 جامعة حسب التصنيفات العالمية بالإقامة في الإمارات لمدة تصل إلى ستة أشهر كي يتسنى لهم البحث عن وظيفة في الدولة. إلا أنه وفي بلد يشكل فيه المواطنون أقلية متضائلة، عبّر الإماراتيون عن قلقهم إزاء هذه السياسة ولأسباب واضحة، لا سيما أن أغلب الجامعات الاتحادية التي يلتحق بها الإماراتيون لا تصنف ضمن أفضل 500 جامعة عالمية، وهو الأمر الذي سيضع مهاراتهم تحت الاختبار مقابل أولئك الباحثون عن عمل ممن تدربوا وصُقلت مهاراتهم في مؤسسات تعليمية ذات جودة أعلى. إن دعوة الساعين للحصول على عمل لتجربة حظهم في دولة الإمارات سوف تنعكس على معدل البطالة، والتي أصبحت تثير قلقًا شديدًا، مما حث الحكومة على اعتماد نوعٍ من التأمين الاجتماعي الذي سيوفر المساعدة المالية للأفراد المتعطلين عن العمل لفترة وجيزة لم تحدد مدتها. ومع ذلك، لم يُفصّل الإعلان معايير الأهلية للتأمين الاجتماعي، وما إذا كان سيتم توفيره للمواطنين فقط، وهو السيناريو الأرجح بالنسبة لدولة تحاول الابتعاد تدريجيًا عن نموذج الدولة الريعية.
البطالة تحت المجهر
عندما وقعت دولة الإمارات مؤخرًا صفقات تجارية بقيمة 20 مليار دولار مع كلٍ من تركيا وإسرائيل، تساءل الإماراتيون بأسلوبهم الدعابي المعتاد عن سبب التجاوب البطيء الذي تتلقاه قضية البطالة المتزايدة بالرغم من توفر المبالغ التي يمكن استثمارها محليًا. إضافة إلى ذلك، تسبب إعلان وكيل وزارة المالية في شهر يناير/كانون الثاني الماضي حول وصول إيرادات ضريبة القيمة المضافة (VAT) إلى 26 مليار دولار في مزيد من الارتباك لدى فئةٍ تنظر لأي نوع من الضرائب التي تؤثر على دخلها الإجمالي على أنها “ضريبة دخل”.
ثم تصاعدت أسعار النفط – والتي كانت في الأصل مرتفعة- بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وارتفعت على إثرها أسعار السلع الأولية، وفي حين يتم التخفيف من حدة التقارير التي تتحدث عن انخفاض أسعار النفط وتأثيره على الاقتصاد المحلي تجنبًا لنقل الأخبار التي قد تعكر الصفو العام، احتفلت افتتاحيات الصحف المحلية بأخبار ارتفاع أسعار النفط، إلا أن الإماراتيون وأشقاءهم في دول الخليج لم يلمسوا أي تأثير إيجابي لارتفاع أسعار النفط على دخولهم الشهرية. على عكس ذلك، فقد استمرت أسعار البترول في الارتفاع، فتباينت ردود أفعال المواطنين ما بين الفكاهة الساخرة والتذمر العاجز، فأصبحت دعوات الإنفاق بحكمة والاستغناء عن الكماليات وتقنين الاستهلاك بمثابة البلسم الذي يُرجى أن يهدئ من توترات الانتقال المشهود إلى حقبة ما بعد النفط – وهي عملية انتقالية تحدث آنيًا على خلفية مليئة بالتغيرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة.
تتصف الفترات الانتقالية للشعوب بكونها فترات حرجة ومضطربة مما يتطلب اختيار التوقيت المناسب لإدارتها، وبالتالي تصبح فترات الازدهار الاقتصادي هي الأمثل لتخفف من وطأة التغييرات التي قد لا تستحسنها الشعوب. وقد ناقش المقال الذي نُشر في عام 2011 في صحيفة محلية ناطقة باللغة الإنجليزية، الفائدة المؤملة من اعتماد برنامج “للحرس الوطني التطوعي”، وتطرق بشكل عابر إلى الآثار الاقتصادية السلبية المحتملة للتجنيد الإلزامي والذي من شأنه أن يعزل بعض الأفراد عن سوق العمل أو يؤخر دخولهم إليه، ما سيسفر عن عجز في القوى العاملة، وهو الأمر الذي قد حدث بالفعل لتعول على أثره البلاد بشكل أكبر على المواهب الأجنبية التي باتت الدولة تسعى جاهدةً لاستقطابها. أما الأمر الذي لم يتمكن المقال من التنبؤ به – أو لربما تعمد التقليل من شأنه – هو أن لنقص القوى العاملة تبعاتٌ ستظهر بشكل سريع وستؤثر بالأخص على الأقلية الإماراتية.
عدم التسامح الكامن
تحدث ديفيد جودهارت (David Goodheart)، في مقاله الذي نشره في عام 2004، عن ظاهرة التماسك والتآلف في المجتمعات المتعددة الثقافات، وقال أنه “يمكن لمفاهيم المشاركة والتضامن أن تتعارضا مع التنوع [الثقافي”، وبشكل خاص في الحالات التي يُنظر فيها للتنوع على أنه يقوض “مجموعة من القيم والفرضيات المشتركة التي يتمسك بها السكان الأصليون” بحيث يهدد الوفاق الاجتماعي. يتجلى هذا الأمر في دولة الإمارات اليوم، حيث يتم الاحتفاء بالفردية والتنوع الثقافي واحتضانها تحت راية التسامح المضياف، إلا أن التنازلات المتزايدة والمقدمة للوافدين الجدد باتت تؤرق المضيفين، وتثقل كاهلهم وتنتهك قيمهم الاجتماعية، الأمر الذي يهدد بفض أواصر التعايش المتسامح التي تحاول الدولة جاهدة تعزيزها.
كان عام 2020 مليئًا بالتحديات بالنسبة للإماراتيين، ليس بفعل الجائحة العالمية فحسب، إنما لكونه عام التغيرات الجذرية التي طرأت بشكل مفاجئ على نواحي سياسية واجتماعية عديدة لم يجد الإماراتيون أي متنفس منها بعد. فقد باغتت التغييرات المتتالية الإماراتيين بشكلٍ غير متوقع، بدءًا بقرار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ثم بعد فترة وجيزة، تم الإعلان عن تغييرات اقتصادية تلغي أحدها حاجة المستثمرين الأجانب للكفيل المواطن – وهو إجراء كان في السابق يوفر عائدًا محفزًا للتسامح. ولم يمضِ وقت طويل حتى كشفت الإمارات أنها بصدد اعتماد حزمة جديدة من الإقامات طويلة الأمد، بما في ذلك التجنيس للمستثمرين والمهنيين الأجانب. وبالإضافة إلى ذلك، شرعت الإمارات في استحداث بعض الإصلاحات القانونية لإلغاء تجريم استهلاك الكحول والمساكنة لغير المتزوجين. وبالرغم من أن الإماراتيين يميلون لعدم الانتقاد العلني للقرارات التي تتخذها القيادة السياسية، إلا أن الكثيرين منهم عبروا عن استيائهم لما ارتأوه انتهاكًا للقيّم الوطنية والأعراف المرتبطة بمجتمع إسلامي ومحافظ. ومع ذلك، فقد رحّب عدد متزايد من الإماراتيين بهذه التغييرات، فهي تمثل بالنسبة لهم تحولاً نحو مجتمع مدني أكثر انفتاحًا من شأنه أن يحمي حرياتهم الفردية بطرق تتماشى مع توجهاتهم المنفتحة، إلا أن حماسهم كثيرًا ما يُثبّط نتيجة للشعور المتفاقم بعدم الأمان الوظيفي، والمزاحمة التي قد تعطلهم من دخول سوق العمل.
أصبح مسؤولو التوطين في الإمارات هم كبش الفداء الذين يُصَب عليهم جم الغضب العام إزاء تقاعسهم المزعوم عن حل مسألة البطالة. وعلى الرغم من النقص الواضح في الوظائف، فإن الدعوات المتكررة الموجهة إلى “المواهب الأجنبية” والتي تحثهم على اتخاذ الإمارات مسقط رأسٍ لهم قد دفعت بالإماراتيين إلى التساؤل عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن سبب عدم اعتبارهم مؤهلين بما يكفي لملء تلك الوظائف التي تبدو متوفرة ولكن لم يتم الإعلان عنها رسميًا.
أعلنت سلطنة عُمان أنها تعتزم اعتماد ضريبة الدخل في عام 2023، وهو الخبر الذي تصدر عناوين الصحف مؤخرًا مما دفع بالعديد من مواطني دول الخليج، بمن فيهم الإماراتيون، للإعراب عن مخاوفهم على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن تبعات هذه السابقة، وما إذا كانت ستُتبع بمزيد من الشفافية وإمكانية المشاركة السياسية. كما أسفرت المخاوف حيال قضية البطالة عن تفاقم القلق بشأن تأثير ضريبة الدخل المحتملة، وقدرة الدولة على أن تكفل العيش الكريم لمواطنيها.
ولأن قضية البطالة أصبحت من أهم القضايا وأكثرها إلحاحًا في الأوساط الإماراتية، خاصة في الوقت الذي ارتفع فيه معدل التضخم وتُستحدث فيه الضرائب ويزداد كذلك اهتمام الدولة بجذب العمالة الأجنبية الماهرة، فهو أمر يشير إلى أن قضية البطالة هي مسألة يتفق عليها المجتمع الإماراتي بكافة أطيافه مما دفع بالكثيرين إلى نبذ سلوك التعفف وعدم المساءلة. وفي ظل غياب القنوات الآمنة والفعالة التي يمكن للإماراتيين إيصال مظالمهم عن طريقها باتت وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأبرز التي يمكن للإماراتيين من خلالها التنفيس عن قضاياهم. ويبدو أن الامان الوظيفي يمثل الحد الأدنى لامتيازات المواطنة التي يرفض مواطني دول الخليج التضحية بها، إلا أنه ومع تزايد البطالة وتنوع الضرائب، بدأ المواطنون الخليجيون يتساءلون حول مستقبلهم الاقتصادي.