في 18 يونيو/حزيران 2021، سوف تُعقد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في فترة مهمة من تاريخ الجمهورية الإسلامية، فترة يتعرض فيها النظام لضغوط محلية ودولية متزايدة. على الصعيد الدولي، أدت حملة “الضغوط القصوى” الأمريكية وتدهور العلاقات بين إيران وجيرانها العرب إلى زيادة الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية على طهران. وقد تفاقم هذا الأمر من خلال الاتفاقات الأخيرة لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل ودولتين عربيتين خليجيتين من خلال اتفاقيات إبراهام. وعلى الصعيد المحلي، فقد اتسع بشكل ملحوظ الصدع بين الدولة ومواطنيها مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في إيران.
وكانت الانتخابات البرلمانية التي جرت في فبراير/شباط قد شهدت أدنى نسبة إقبال منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، ويعود السبب الأهم في ذلك للاستياء الاجتماعي واسع النطاق والصعوبات الاقتصادية. إضافة لذلك، ستكون الانتخابات المقبلة أول انتخابات رئاسية منذ الاحتجاجات التي اندلعت في 21 مدينة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بسبب تقنين البنزين وزيادة الأسعار. وتعد القضية الأكثر تأججًا في الاقتصاد الإيراني هي تخفيض قيمة العملة. فقد انخفضت قيمة الريَال إلى مستوى قياسي (حوالي 260 ألف ريَال للدولار الواحد)، وهذا ما عزز التضخم المالي وسحق القوة الشرائية في إيران. أدت التداعيات الاجتماعية-الاقتصادية للتدهور الدرامي للريَال إلى انتشار اللامبالاة السياسية. وبالنظر إلى توسع الصدع ما بين الدولة والمواطن، والذي تجلى في الاحتجاجات الأخيرة وانخفاض مشاركة الناخبين، فليس من المستغرب أن تكون ثقة الجمهور الإيراني في قدرة الرئيس المقبل على حل هذه القضايا منخفضة.
في السنوات الأخيرة، وصل التضخم المالي في إيران إلى مستوى من الارتفاع لم يبلغه طوال تاريخه. وبحلول أواخر سبتمبر/أيلول، ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 34.4٪ عن السنة السابقة، كما ارتفعت تكاليف المواصلات بنسبة 80٪. كان للتضخم المالي تداعيات كبيرة على المعيشة والصناعات. وانخفضت القوة الشرائية نتيجة لانخفاض قيمة العملة. وقد اضطرت أغلبية الأسر الإيرانية إلى تعديل نمط حياتها وتخفيض النفقات، حتى على الأساسيات مثل المأكل والملبس. كما لم تعد الرعاية الصحية في متناول اليد بالنسبة للعديد من الإيرانيين بسبب ارتفاع التكاليف. وبحلول عام 2019، لم يكن لدى حوالي 8 ملايين إيراني أي تأمين صحي. يعبر الإيرانيون عن إحباطهم من الانخفاض المستمر في قيمة الريَال ويشاركون قصصهم على وسائل التواصل الاجتماعي: البازار شبه مغلق، وتقوم معظم المتاجر بتغيير أسعارها بناءً على سعر صرف الدولار.
أدى التضخم المالي إلى زيادة أسعار الإسكان بشكل مثير. وفقًا للبنك المركزي الإيراني، بلغ متوسط سعر شراء المساكن في طهران 190 مليون ريَال للمتر المربع (حوالي 700 دولار). ووفقًا لدراسة أجراها معهد أبحاث الدراسات الاستراتيجية في وزارة البحث العلمي والتكنولوجيا، يتم إنفاق ما يزيد معدله عن 66٪ من الدخل السنوي لكل أسرة على تكاليف السكن. في أغسطس/آب، بلغ معدل التضخم السنوي لتكاليف الإسكان 44.6٪. على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ازداد عدد العائلات الإيرانية التي تستأجر منازل في المناطق الحضرية بنسبة تزيد عن 70٪. وفي الوقت ذاته، يتم شراء أكثر من 70٪ من العقارات السكنية في إيران كعقارات استثمارية.
تعمل مجموعة من المؤسسات المملوكة للحكومة وشبه المملوكة للحكومة (بما في ذلك 17 مصرفاً عاماً وخاصاً) على الاستثمار بشكل فعال في سوق العقارات في إيران. فمع انخفاض قيمة الريَال خلال السنوات الأخيرة، أصبحت الاستثمارات العقارية، والتي هي في الأساس مضاربة، من أكثر أشكال الاستثمار جاذبية في إيران. وأدى تدفق رأس المال لسوق العقارات إلى ارتفاع أسعار المساكن بشكل كبير، وحرم الأسر الإيرانية من الحصول على مساكن بتكاليف ميسرة – 30٪ من السكان لا يستطيعون توفير المساكن الملائمة. أصبح نصب حاويات الشحن أو الخيام على الأسطح من الخيارات السكنية الشائعة للإيرانيين ذوي الدخل المنخفض. ووفقاً لتقرير معهد أبحاث الدراسات الاستراتيجية، “بعد 40 عاماً من الثورة الإسلامية، ليس فقط الوعد بحماية الفقراء والمحرومين لم يتحقق، وإنما حُرم العديد من الإيرانيين أيضاً من السكن كإحدى الحاجات الأساسية للإنسان”. وقد حظي الإحباط المتجذر بين الإيرانيين بشأن عدم الحصول على السكن بأسعار معقولة بتغطية إعلامية واسعة النطاق في وسائل التواصل الاجتماعي والإذاعات.
لم يقتصر تأثير انخفاض الريَال على معيشة الإيرانيين العاديين فحسب، بل تسبب ذلك أيضاً بارتفاع أسعار المنتجات المصنعة والخدمات، ما أدى بدوره إلى تدهور النشاط الصناعي. لقد انخفض مؤشر مدراء المشتريات، وهو استطلاع للتوجهات في الأنشطة التجارية الأساسية، من 47.58٪ في يوليو/تموز إلى 43.51٪ في أكتوبر/تشرين الأول، ما يعكس انخفاضاً في ناتج الأعمال التجارية والطلبيات الجديدة وارساليات الموردين ومخزونات المواد الخام والتوظيف.
لمواجهة التضخم المالي، تدرس الحكومة تغيير اسم العملة الوطنية وإزالة الأصفار من قيمتها الاسمية. ورغم أن مثل هذه الإجراءات قد يكون لها آثار إيجابية محدودة ومؤقتة، إلا أنها تعجز عن تقديم حل مستدام لأسباب التضخم المتجذرة. وسيكون تخفيض قيمة الريَال أكبر عقبة اقتصادية يترتب على الإدارة المقبلة معالجتها.
ومع الصعوبات الاقتصادية الأشد عبر التاريخ الإيراني، يشعر الإيرانيون بخيبة أمل رهيبة من حكومة الرئيس حسن روحاني، وقد فقدوا الثقة في وفاء النظام بوعود الحملة. وأدى سوء الإدارة الاقتصادية ومقاومة التغيير من قبل الأنظمة المتعاقبة على مدى العقود الأربعة الماضية، بالإضافة إلى سياسات القمع المتواصلة داخلياً والعدوان خارجياً إلى إحباط مؤيدي المحافظين، والإصلاحيين، والبراغماتيين على حد سواء.
قبل انتخابه رئيساً في عام 1997، وعد محمد خاتمي بالإصلاح السياسي، وأعرب عن استعداده لتطبيع العلاقات الإيرانية مع بقية دول العالم. وقد اجتذبت دعوته “للحوار بين الحضارات” اهتمام قادة العالم آنذاك. وعملت خطط الإنفاق الاقتصادي الشعبوي لمحمود أحمدي نجاد خلال فترة رئاسته (مثل الإعانات، والمنح النقدية، ومشاريع الإسكان الحكومية الضخمة) بالإضافة للفساد المستشري والعقوبات المتزايدة على وضع الاقتصاد في حالة من الركود. كان الإيرانيون يعتريهم الأمل في أن يعمل روحاني على حل هذه القضايا، وأن يحقق الوعود التي لم يفِ بها الرؤساء السابقون. ووعد روحاني في حملته الانتخابية الأولى بإعادة الاعتبار “لجوازات سفر الإيرانيين وعملتهم الوطنية”. وقد لقيت هذه الرسالة صدى لدى كل من مواطني الريف وذوي الدخل المنخفض إضافة إلى سكان الحضر من الطبقة المتوسطة والعليا. في ولايته الثانية، خاض روحاني الانتخابات ضد إبراهيم رئيسي، الحليف المقرب للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والمرشح المحتمل لخلافته. في تلك الانتخابات، حصل روحاني على الأصوات المحتجة على مرشح خامنئي المفضل، إضافة إلى أصوات من كانوا يعتقدون صدقًا أن روحاني يمكنه حل أزمة البلاد الاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة. مع اقتراب نهاية ولاية روحاني الثانية كرئيس، أصبحت إيران في عزلة دولية أكثر مما كانت عليه في أي وقت منذ نهاية الحرب الإيرانية العراقية، وانخفضت قيمة عملة البلاد الوطنية إلى أدنى مستوى لها منذ ثورة 1979، وأصبح نصف البلاد يعيش في حالة من الفقر. ومن أكثر الشعارات شعبية خلال الاحتجاجات الأخيرة كان “الإصلاحيون الأصوليون، هذه نهايتكم”.
لعل أكبر تحدٍ للنظام في الانتخابات القادمة سيكون تسمية مرشح يمكنه الحصول على دعم حقيقي من بين المواطنين الإيرانيين. أغلبية الأسماء الواردة في قائمة المرشحين المحتملين المتداولة في وسائل الإعلام الإيرانية لها صلات عسكرية قوية: حسين دهقان، ضابط سابق في الحرس الثوري الإيراني ووزير الدفاع السابق؛ سعيد محمد قائد قاعدة خاتم الأنبياء في الحرس الثوري الإيراني؛ عزت الله ضرغامي، ضابط سابق في الحرس الثوري الإيراني والمدير السابق لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية المملوكة للدولة.
يمكن لانتخاب جوزيف بايدن كرئيس قادم للولايات المتحدة أن يعطي إيران بصيصاً من الأمل، حيث من المتوقع أن ينهي حملة “الضغوط القصوى”. ومع ذلك، فمن المرجح أن تستمر التحديات الاقتصادية المحلية طالما أن القضايا التي لا تتعلق بالعقوبات (مثل سوء الإدارة المالية، والفساد، والسياسات النقدية والمالية السيئة، وتنظيم السوق) لا تزال دون حل.
سوف تُثقل كل هذه التحديات كاهل الرئيس الإيراني المنتخب القادم. ففي مقابلة مع مجموعة مختارة من الطلبة في مايو/أيار عام 2019، حدد خامنئي مزايا المرشح الرئاسي المثالي كشخص “شاب” وقادر على تشكيل “حكومة تقية راشدة”. في عام 2014، دعا إلى “جهاد اقتصادي” تدار فيه أنشطة البلاد الاقتصادية بمعزل عن القوى الغربية. بالنظر إلى أن أغلبية المرشحين الذين تداولتهم وسائل الإعلام المحلية حتى الآن، هم أعضاء حاليون أو سابقون في الحرس الثوري الإيراني، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، فمن المرجح أن يبقى تركيز النظام بعد الانتخابات القادمة على تطوير قدرته الدفاعية لحماية نفسه من الانتفاضات الداخلية المستقبلية، التي قد تندلع نتيجة تصاعد المظالم الاقتصادية، واحتمالية الأعمال العدوانية الخارجية.
على مدار السنوات الأخيرة، زاد النظام من ضغوطه على المعارضة في حين فشل في تقديم أي حل ذي مغزى لمعالجة الظروف الاقتصادية المتردية والفقر المتزايد. وعلى المدى القصير، عملت هذه الاستراتيجيات لصالح النظام. أما على المدى الطويل، فستعمل هذه الاستراتيجيات على تفكك المجتمع، ما سيؤدي إلى حالة من الزعزعة الاجتماعية الرهيبة. من المرجح أن تكون الانتخابات الرئاسية القادمة لحظة تاريخية للجمهورية الإسلامية. يُعد المرشح الذي يسميه النظام هو الذي سيضمن الفوز بالرئاسة وسوف يشكل حكومة تبدو أكثر ميلاً لمواصلة الاستراتيجيات الاقتصادية الحالية، ما يؤدي إلى مزيد من الفقر والمعاناة للإيرانيين، وذلك بدلاً من الخروج عن الاهتمامات الراسخة من خلال محاولة إجراء إصلاحات لإنهاء عقود طويلة من سوء الإدارة في الاقتصاد الإيراني.