عشية استئناف المفاوضات النووية في فيينا بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، بعد أن جمدتها طهران في شهر يونيو/حزيران الماضي، وعلى خلفية الشكوك الإقليمية بصلابة الالتزامات الأميركية بأمن المنطقة بعد الانسحاب الأميركي المضطرب من أفغانستان، أوفدت إدارة الرئيس بايدن مبعوثان أميركيان بارزان لطمأنة حلفائها بأنها لن تتخل عنهم، وأن تخفيض عديد وعتاد قواتها في المنطقة لا يعني أنها ستترك فراغًا استراتيجيًا خطيرا تملأه إيران أو أي طرف خارجي. هذه هي الرسائل العريضة التي حملها وزير الدفاع لويد أوستن، ومنسق مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، خلال مشاركتهما في “حوار المنامة 2021” في البحرين، وفي لقاءاتهما مع المسؤولين الخليجيين وغيرهم من الذين شاركوا في المؤتمر.
ولكن تأكيدات أوستن وماكغورك، كما يتبين من الأسئلة المشككة التي طرحت على المسؤولين الأميركيين ومواقف العديد من المشاركين في المؤتمر، أبرزت عمق مخاوف قادة المنطقة مما يعتبرونه الانسحاب الأميركي التدريجي العسكري، وحتى الديبلوماسي من المنطقة، وفي المقابل تركيز الاهتمام الاستراتيجي الأميركي على مواجهة التحدي الصيني للولايات المتحدة وحلفائها، وردع الإجراءات الاستفزازية لروسيا تجاه أوكرانيا، وانشغال إدارة بايدن بإصلاح العلاقات مع أوروبا، والتي أُصيبت بأكثر من نكسة خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
منذ استلام الرئيس بايدن لمهامه الدستورية، في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، تركز اهتمامه وفريقه على المعالجة الملحة لتحدي جائحة كورونا في الداخل وفي العالم، وعلى تحفيز الاقتصاد الأميركي، والتعجيل بإخراجه من الأزمة التي تسببت بها الجائحة، وذلك عبر اقرار خطتين طموحتين في الكونغرس لإعادة بناء البنية التحتية، وإعادة بناء ما سمي بالبنية التحتية البشرية، أي توسيع شبكة الضمانات الاجتماعية والطبية، وتخصيص مئات المليارات لمعالجة واحتواء أخطار التغير البيئي. منطقة الشرق الأوسط، بأزماتها القديمة والمتجددة والمستعصية على الحلول، لم تكن بين هذه الأولويات الملحة.
منذ البداية، تفادى الرئيس بايدن إلزام إدارته باتخاذ أي مبادرات جذرية في المنطقة، (كما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي تعهد أنه سيعمل على إحياء مفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية في ولايته الاولى) باستثناء السعي الحثيث لإحياء المفاوضات النووية مع إيران. وإحياء الاتفاق الذي وقعته إيران مع مجموعة الخمسة زائد واحد في 2015، والذي انسحب منه الرئيس السابق ترامب في 2018. كما ألزم بايدن نفسه بالاتفاق الذي وقعه سلفه ترامب مع حركة طالبان، والقاضي بسحب القوات الأميركية من أفغانستان. أعلن بايدن أن القوات ستنسحب من أفغانستان قبل الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول الارهابية، ولكن الانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام حملة قوات طالبان، أرغم بايدن على التعجيل بالانسحاب، الذي انتهى في أعقاب هجوم ارهابي مكلف بشريًا ومحرج سياسيًا.
بدأ بايدن ولايته بعد انتقادات قوية وجهها خلال حملته الانتخابية ضد بعض حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، وأبرزهم السعودية ومصر وتركيا، لأسباب عديدة، من بينها انتهاكات هذه الدول لحقوق الانسان، وفي حالة السعودية بسبب دورها في حرب اليمن وفي اغتيال الصحفي جمال خاشقجي. وسارع بايدن للإعلان عن وقف تزويد السعودية ودولة الإمارات بالأسلحة الهجومية لكي لا تستخدم في حرب اليمن، وتجميد صفقات الأسلحة التي وقعتها إدارة الرئيس السابق ترامب مع السعودية والإمارات، إلى حين الانتهاء من “مراجعة” السياسة الأميركية تجاه الرياض. لاحقًا، وفي ضوء اضطرار إدارة بايدن للاعتماد على دعم حلفائها في الخليج، وتسهيلهم لعملية اجلاء الرعايا الأميركيين واللاجئين من مطار كابول، وخاصة الدعم من قطر ودولة الإمارات، أنهى بايدن معارضته لصفقات الاسلحة للإمارات، ومن بينها صفقة هامة لشراء طائرات إف-35 المتطورة، والموافقة على صفقة بقيمة 650 مليون دولار للسعودية لتزويدها بمختلف انواع الصواريخ وقطع الغيار، على الرغم من المعارضة المتزايدة في الكونغرس لهذه الصفقة من الحزبين.
بايدن لم يتجاهل كليًا الأزمات السياسية والأمنية في المنطقة، ولكنه سعى إلى تعيين مبعوثين أميركيين لحل هذه الأزمات، أو ربما الأصح، معالجتها وإدارتها دون أن يضع ثقله الشخصي والمباشر وراء أي منها، ربما باستثناء احياء الاتفاق النووي مع إيران. وهكذا تم تعيين مبعوثين لمعالجة حروب وأزمات اليمن وليبيا والقرن الأفريقي. لم يقم بايدن بإلغاء قرارات سلفه ترامب بالاعتراف بضم اسرائيل للقدس العربية وهضبة الجولان السورية أو نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولكنه ألغى قرارات ترامب العقابية ضد الفلسطينيين، واستأنف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية والاتصالات الديبلوماسية معها، وتعهد بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس لخدمة العلاقات الأميركية-الفلسطينية. ولكن حتى الاشتباكات الدموية في شهر مايو/أيار الماضي بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، التي أرغمت بايدن ووزير خارجيته انتوني بلينكن على التحرك ديبلوماسيًا، وبشكل مباشر، لوقف إطلاق النار، لم تعّدل من موقفه الاصلي بعدم استثمار أي جهود ديبلوماسية على مستوى البيت الأبيض لمحاولة احياء مفاوضات السلام بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية.
استئناف تسليح دول الخليج العربية لم يقلص من قلق وشكوك قادة هذه الدول بصلابة وثبات الالتزامات العسكرية الأميركية بأمنهم واستقرار الخليج، وهي الالتزامات التي كررها الوزير أوستن والمنسق ماكغورك لأن هذه التأكيدات اللفظية جاءت بعد سلسلة من التطورات الأمنية المقلقة، والتي بدو أنها تركت آثارًا سلبية عميقة لدى بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وإسرائيل. هذه التطورات السلبية بدأت خلال ولاية الرئيس ترامب، واستمرت خلال ولاية الرئيس بايدن، وهي تشمل:
أولًا: اسقطت الصواريخ الإيرانية، في التاسع عشر من شهر يونيو/حزيران 2019، طائرة استطلاع مسيرة، تعتبر من أكثر طائرات الاستطلاع دون طيار المتطورة في الترسانة الأميركية في أجواء منطقة مضيق هرمز. وعلى الرغم من تأكيدات وزارة الدفاع الأميركية أن الطائرة كانت في الاجواء الدولية، فإن إدارة ترامب لم ترد عسكريًا (على الأقل علنًا) على هذا الاستفزاز.
ثانيًا: في منتصف شهر سبتمبر/أيلول 2019 تعرضت منشآت النفط السعودية الضخمة في أبقيق والخريص إلى هجوم بالصواريخ والطائرات المسيرة أحدث فيها أضرارًا بالغة. فور حدوث هذه الهجمات اتهمت الولايات المتحدة إيران بشنّها، وهو ما أكدته لاحقًا التحقيقات الأميركية بالهجوم. وبقي الهجوم دون رد أميركي أو سعودي.
ثالثًا: الهجمات الإيرانية ضد الملاحة الدولية في مياه الخليج وبحر العرب، والتي استهدفت سفن وناقلات نفط دولية وخليجية في السنوات الماضية بقيت حتى الآن دون عقاب.
رابعًا: الهجوم الذي شنته مسيرات إيرانية، في العشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول، ضد قاعدة التنف الأميركية في سوريا، والذي بقي دون رد أميركي، وإن أوحى المنسق ماكغورك أن القول بأن واشنطن لم ترد على الهجوم “غير دقيق”، لأنه ليس من الضروري الكشف عن كل رد أميركي.
إضافة إلى هذه التطورات، أعلن الرئيس بايدن أن القوات الأميركية في العراق سوف تنهي مهامها القتالية مع نهاية السنة الراهنة، وصاحب ذلك الانسحاب من ثلاثة قواعد أميركية صغيرة في سوريا. وطلب الرئيس بايدن من وزارة الدفاع، قبل أشهر، تخفيض عديد القوات الأميركية وعتادها في منطقة الخليج في سياق إعادة تموضع القوات الأميركية حول العالم، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ الصيني. هذه الاجراءات شملت سحب ثلاث بطاريات لصواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت من الخليج، من بينها بطارية صواريخ من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية، إضافة الى سحب حاملة طائرات وغيرها من أجهزة الاستطلاع.
ما يجعل تخفيض هذا الوجود العسكري مقلقًا أكثر للسعودية، وغيرها من دول الخليج، هو أنه يأتي في سياق ازدياد وتيرة الاستفزازات والهجمات الحوثية بالصواريخ والمسيرات ضد العمق السعودي، وما صاحبه من تصلب سياسي حوثي، أدانته، ولا تزال تدينه، واشنطن، وتعتبره العقبة الرئيسية أمام حل ديبلوماسي للحرب في اليمن.
هذه الاجراءات الأميركية العسكرية، واستمرار الفتور السياسي بين البلدين بسبب انعكاسات اغتيال جمال خاشقجي ساهمت في إإلغاء السعودية لزيارة كان من المقرر أن يقوم بها وزير الدفاع لويد أوستن في سبتمبر/أيلول الماضي خلال وجوده في منطقة الخليج. وزارة الدفاع الأميركية قالت إن الالغاء يعود لأسباب تتعلق بجدولة برنامج الوزير. ولكن مصادر اخرى ألمحت إلى أن الرياض هي التي ألغت الزيارة. وكان من اللافت أن زيارة الوزير أوستن إلى الخليج في الأسبوع الماضي (الثانية خلال أشهر) شملت البحرين والإمارات، ولم تشمل السعودية. بعض المراقبين وضعوا اتفاق التعاون العسكري الموقع في أغسطس/آب السابق بين موسكو والرياض في سياق العلاقات الفاترة بين السعودية وإدارة بايدن.
في أعقاب هذه المؤشرات والإجراءات التي تؤكد رغبة الولايات المتحدة بتخفيض “بروفيلها” الاستراتيجي، وحتى السياسي، في الشرق الأوسط، وفي أعقاب استئناف المفاوضات النووية مع إيران، واحتمال وصولها الى تجديد اتفاق 2015 أو تطويره، بدأت دول المنطقة بالتحضير لمرحلة ما بعد انحسار الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، ومعه انحسار الاهتمام السياسي بها، من خلال تعزيز تنسيقها السياسي والأمني، كما رأينا في “اتفاقات أبراهام” الذي رعتها إدارة الرئيس السابق ترامب بين إسرائيل ودولة الإمارات ومملكة البحرين، واحتمال تحسن العلاقات بين تركيا ودول خليجية عربية، من بينها الإمارات والبحرين، بعد توترها لسنوات.
في حال توصل مفاوضات فيننا النووية إلى اتفاق يؤدي إلى رفع العقوبات ضد إيران، فإن ذلك سيعتبر انتصارًا سياسيًا واقتصاديًا لإيران، وسوف يعمق من شكوك وخيبة دول الخليج العربية وإسرائيل بسياسات ونوايا الولايات المتحدة بعيدة المدى في المنطقة، وسوف يساهم أكثر في وتيرة تخفيض البروفيل الاستراتيجي الأميركي في مجمل المنطقة.