قبل 15 عاما، في التاسع من نيسان/ أبريل سقطت بغداد بيد القوات الأمريكية بعد حرب قصيرة كان انتصار القوات الأمريكية والحليفة فيها مؤكدا. لحظات الاحتفال بالنصر كانت وجيزة، سجلتها صور إسقاط وتحطيم تماثيل صدام حسين، واقتحام قصوره، قبل أن تبدأ أعمال النهب والفوضى العارمة التي اجتاحت العاصمة العراقية والتي اخفقت القوات الغازية في توقعها أو السيطرة السريعة عليها.
منذ تلك الأيام الحاسمة، بدأت الولايات المتحدة تخسر تدريجيا معركة السلام في العراق. خسائر أمريكا البشرية بلغت 4,487 قتيلا، وأكثر من 32,000 جريح، أكثر من نصفهم اصيبوا بجراح بالغة، وبعضهم بإعاقات مستديمة، الأمر الذي يتطلب عناية جسدية أو نفسية طويلة الأمد. وبما أن أكثرية الجرحى هم دون سن الثلاثين، فإن العناية بهم سوف تستمر لعقود ما يعني أن قيمة هذه العناية سوف تكون بالمليارات، ومن هنا تسمية هذه العناية “الثمن الخفي للحرب”. ولا أحد يعلم بدقة عدد القتلى المدنيين في العراق منذ 2003، وإن يعتقد أن أدنى تقدير لهذه الخسائر هو 165,000 مدني. أما التكلفة المالية للحرب فهي تزيد عن تريليوني دولار، لا يزال المواطن الأمريكي يعيش في ظلها. هل تبرر هذه الخسائر البشرية والمالية الحرب وما تلاها؟ هذا سؤال سوف يكون من الأسهل على المؤرخين في المستقبل الإجابة عليه بدقة أكثر.
تتزامن الذكرى 15 لغزو العراق، مع النقاش المقلق والمتزايد في واشنطن، حول إمكانية انزلاق إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، هذه المرة ضد إيران، إذا انسحب ترامب كما يهدد باستمرار من الاتفاق النووي الدولي الموقع مع إيران في 2015. الحديث عن حرب جديدة في الشرق الأوسط، في الوقت الذي نحاول فيه استيعاب حقيقة أننا لا نزال نعيش في ظل مضاعفات غزو العراق، يجب أن يعيدنا إلى ما يمكن اعتباره اللحظة التاريخية المفصلية التي أوصلت أمريكا إلى غزو العراق وربما إلى حرب جديدة مع إيران. تلك اللحظة الكارثية جاءت في 22 من أيلول- سبتمبر 1980 حين أمر صدام حسين قواته المسلحة غزو إيران، مدشنا بذلك أطول حرب نظامية في القرن العشرين، حين انتهت في العشرين من آب – أغسطس 1988. تلك الحرب التي أدت إلى قتل أكثر من نصف مليون من مواطني البلدين، تعتبر الأكثر دموية من بين حروب القرن الماضي باستثناء الحربين العالميتين. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى استخدم الغاز السام في المعارك، إضافة إلى الصواريخ الباليستية التي أطلقت ضد أهداف عسكرية وضد المدنيين العزل في المدن، إضافة إلى مختلف أسلحة الدمار الشامل، باستثناء السلاح النووي. اللافت هو أن النظام البعثي في بغداد هو الطرف الذي كان يبدأ التصعيد النوعي في الحرب، مثل إطلاق الصواريخ المحملة بالغازات السامة ضد أهداف إيرانية عسكرية ومدنية، كما استخدم العراق أيضا الغازات السامة ضد شعبه، عندما قصف المدنيين الأكراد في حلبجة وغيرها بالغاز السام وقتل الآلاف من المدنيين.
عندما بدأ الغزو العراقي لإيران، كانت قيمة الاحتياط المالي للعراق تفوق 36 مليار دولار، وفقا لتقديرات وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) وهو مبلغ ضخم بمقاييس تلك الفترة. بعد انتهاء الحرب وصلت مديونية العراق إلى حوالي مئة مليار دولار اقترضها العراق خلال الحرب من المصارف الغربية ومن دول الخليج العربية، بمن فيها الكويت التي حصل منها العراق على 14 مليار دولار. وكان رفض الكويت مسامحة هذه القروض للعراق ( صدام حسين اعتبر مساعدات دول الخليج هبات لأنه كان يدافع كما كان يدعي عن “البوابة الشرقية” للعالم العربي ضد النظام الإسلامي التوسعي في طهران الذي كان يهدد منطقة الخليج بكاملها)، كان من بين الأسباب التي أدت إلى توتر العلاقات بين البلدين. بعد الحرب اتهم العراق الكويت بسرقة احتياطه من النفط من خلال التنقيب قرب حدود العراق. هذه المديونية الضخمة، إضافة إلى التكلفة الكبيرة لإعادة بناء البلاد بعد حرب طويلة، وتمويل أكبر جيش في المنطقة، هي التي دفعت بالدكتاتور العراقي ليرى في الكويت خزنة مالية هائلة وأنه لسارقها. أكثر من مرة وصفت الغزو العراقي للكويت بأنه الفصل الأخير في الحرب العراقية-الإيرانية. الغزو العراقي للكويت الذي بدأ في الثاني من آب – أغسطس 1990، وانتهى بعد سبعة أشهر في الثامن والعشرين من شباط- فبراير 1991، بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وضع الولايات المتحدة على الطريق الطويل لغزو العراق.
يمكن القول إن وقف إطلاق النار المبهم في 1991، لم ينه الدور العسكري الأمريكي (والبريطاني) في العراق، لأن قمع النظام العراقي الانتفاضتين الشيعية والكردية في نهاية الحرب، أدى إلى إقامة مناطق حظر الطيران العراقي في شمال البلاد وجنوبها، حيث واصل الطيران الأمريكي دورياته الجوية عمليا إلى حين بدء الغزو الأمريكي للعراق في 19 آذار – مارس 2003. الهدف الأول لمناطق حظر الطيران العراقي كان حماية الشيعة والأكراد من الطيران العراقي. ولكن مع مرور الوقت تم استخدام الطيران الأمريكي والبريطاني كوسيلة للضغط على نظام صدام حسين للتعاون مع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل والانصياع لقرارات مجلس الأمن الدولي. وهذا ما حدث على نطاق واسع في كانون الأول – ديسمبر 1998 حين شنت الولايات المتحدة وبريطانيا عملية “ثعلب الصحراء” وهي أربعة أيام من القصف المكثف من الجو وصواريخ كروز التي أطلقتها السفن الحربية ضد أهداف عسكرية عراقية كان يعتقد أنها تساهم في تصنيع أسلحة الدمار الشامل. هذا الهجوم جاء مباشرة بعد توقيع الرئيس بيل كلينتون على ما سمي حينها بـ “قانون تحرير العراق” الذي أقره الكونغرس، والقاضي بتوفير الدعم المالي للمعارضة العراقية، بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين.
عمليا “حرب” مناطق الحظر الجوي في العراق التي بدأت عقب وقف إطلاق النار في 1991 وانتهت في اذار 2003، أي لحظة بدء حرب الخليج الثالثة، أي الغزو الأمريكي للعراق، والمعروفة رسميا باسم “عملية حرية العراق”. التبرير الرسمي لغزو العراق الذي طرحته إدارة الرئيس جورج بوش كان التخلص من ترسانة العراق من أسلحة الدمار الشامل. طبعا عدم العثور على هذه الاسلحة كان كارثيا على سمعة وصدقية الولايات المتحدة، وأضعف من فعالية الحكومة الأمريكية في العراق. الرئيس العراقي صدام حسين الذي لم يفتح منشآته العسكرية بشكل شفاف لفرق التفتيش، كان يهدف لاقناع أعدائه الإقليميين وأبرزهم إيران بأنه يملك أسلحة دمار شامل لردعهم. معارضو الحرب آنذاك قالوا إن النظام العراقي كان في قفص ومحاصر ويعاني من وقع العقوبات الدولية وبالتالي فهو لا يشكل خطرا إقليميا إو خطرا على الولايات المتحدة، باستثناء الخطر الذي يمثله لشعبه. ولكن الرئيس بوش ومساعديه الكبار – باستثناء وزير الخارجية كولن باول- كانوا يسعون في الأجواء المشحونة التي أعقبت هجمات 2001 الإرهابية التي تسببت بأكبر خسائر مدنية في تاريخ الولايات المتحدة، إلى تأديب خصم لأمريكا، بالغوا في قوته في دولة متقدمة نسبيا، وليست متخلفة مثل أفغانستان، وتقع في قلب الشرق الأوسط. طبعا، هناك تفسيرات أخرى للحرب من بينها رغبة الرئيس جورج بوش الابن في “إكمال” المهمة الناقصة التي بدأها والده الرئيس بوش في 1991، حين قبل بوقف إطلاق النار دون الإطاحة بنظام صدام حسين. إضافة إلى ما رآه البعض رغبة الرئيس بوش الابن في “الثأر” من صدام حسين المتهم بمحاولة اغتيال الرئيس بوش الأب خلال زيارة له للكويت. وقبل الغزو قال بوش “هذا هو الرجل الذي حاول قتل والدي في السابق”.
وليس من المبالغة القول إن هناك خيط طويل من الدم وسببية واضحة بين هذه الحروب من غزو العراق لإيران، إلى غزو العراق للكويت وحرب تحرير الكويت في 1991، وحرب مناطق الحظر الجوي، وصولا إلى غزو العراق في 2003. حرب تلد حربا أخرى. الحرب العراقية-الإيرانية ولدّت حرب الخليج الثانية، التي ولدّت بدورها غزو العراق.
هذه الحروب، إضافة إلى المآسي الانسانية التي جلبتها، والدمار المادي الذي الحقته باقتصاديات العراق وإيران والكويت والسعودية، عمقت الاستقطابات السياسية بين دول المنطقة، والأهم من ذلك تسببت بنزاعات مذهبية مروعة بين الشيعة والسنّة غير معهودة في تاريخ الشعوب المسلمة – على الرغم من اندلاع حوادث دموية بين وقت وآخر- ولكن ليس بهذا الحجم الكارثي. في السنوات الماضية رأينا جبهة قتال سني – شيعي تمتد من البصرة على فم الخليج إلى بيروت على المتوسط. معظم – وليس كل – الأسباب الحديثة لهذا الاقتتال، تعود إلى الغزو العراقي لإيران حيث سعى كل طرف إلى استغلال الدين كوسيلة لتعبئة الجماهير. الرئيس صدام حسين بدأ باستخدام رموز وأحداث عربية كوسيلة للتعبئة مثل وصف حربه ضد إيران “قادسية صدام”، نسبة إلى معركة القادسية في سنة 636 والتي انتصر فيها جيش عربي ضد جيش ساساني فارسي. وعندما لم تنجح الرموز العربية بتعبئة الجماهير “اكتشف” صدام حسين جذوره المسلمة، وبدأ يتنافس مع آية الله الخميني في التلويح بالدين، وبدأت “الصحافة” العراقية بالاشارة إلى صدام حسين بصفته “حفيد الرسول” الذي أدعى كتابة القرآن بدمه. في إيران كان المسؤولون يستغلون الشباب وصبيان لا تتعدى أعمارهم 12 من العمر ليرموهم في جبهة عسكرية ضد العراق كانت تلتهمهم الواحد تلو الآخر، بعد أن اقنعتهم بأن صور القدس التي وزعت عليهم سوف تحميهم أو تدخلهم إلى الجنة إذا استشهدوا.
ولكن الغزو الأمريكي للعراق كان من أبرز العوامل التي عمقت الاستقطابات المذهبية في العراق، بعد أن شعر السنّة بأن العراق الحديث الذي حكموه معظم سنوات القرن العشرين يفلت من أيديهم ليقع في أيدي الأكثرية الشيعية. وبعد تفجير مسجد شيعي في مدينة سامراء في 2006 بدأت حلقة جديدة من الاقتتال المذهبي اتسمت بعنف مروع هز المجتمع العراقي في الصميم. على الصعيد السياسي اعتمد الدستور المحاصصة الطائفية في توزيع مقاعد البرلمان العراقي.
قبل الغزو الأمريكي للعراق، كان العراق يقوم بدور موازن لإيران في المنطقة. ولكن الإطاحة بصدام حسين، وبروز مراكز قوى متنازعة في بغداد، وتردي الأوضاع الأمنية، وانفتاح المجال أمام إيران لتزيد من نفوذها، ومساعدتها لفصائل وشخصيات سياسية عراقية. وفي الوقت الذي كان يعاني فيه العراق من الانقسامات، كانت إيران تعزز من نفوذها السياسي والأمني في داخل العراق وفي المنطقة. بروز إيران كقوة اقليمية استخدمت بفعالية مذهلة حروب الوكالة المتورطة فيها في اليمن وسوريا والعراق، وسعيها الحثيث لتطوير برامج للصواريخ الباليستية، وبناء المفاعل النووية وإنتاج اليورانيوم، كلها عوامل جعلتها تصبح القوة الأساسية المناوئة لأمريكا في المنطقة. المرشح دونالد ترامب رفض بشدة الاتفاق النووي الذي وضعه سلفه باراك أوباما، والرئيس ترامب صّدق ولكن بتردد كبير على أن إيران ملتزمة بالاتفاق وفقا لمتطلبات الكونغرس. ولكن ترامب ألزم نفسه بالانسحاب من الاتفاق، إذا أخفقت الدول الأوروبية المعنية مباشرة بالاتفاق (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) والكونغرس الأمريكي في تعزيز نشاطات فرق التفتيش وفتح القواعد العسكرية الإيرانية أمامها، وإخضاع البرنامج الصاروخي للتفتيش. ولكن وفقا لآخر المعلومات والمؤشرات، من المستبعد جدا التوصل إلى صيغة تلبي الحد الأدنى من مطالب الطرفين، قبل الثاني عشر من آيار – مايو، موعد التصديق الدوري على التزام إيران ببنود الاتفاق. ويرى مراقبون أن احتمالات حدوث مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران وتشارك فيها إسرائيل، ستزداد بعد انسحاب الحكومة الأمريكية من الاتفاق. هل يمكن أن يلد الغزو الأمريكي للعراق قبل خمسة عشر عاما، حربا جديدة ضد إيران؟