بعد سنة من القتال الضاري في غزة، ما أدى إلى تحويلها إلى أرض يباب، نقلت إسرائيل آلتها العسكرية التدميرية إلى لبنان، وصعّدت من حرب الاستنزاف المحدودة بينها وبين حزب الله، والتي بدأت عقب هجوم حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وخلال أقل من عشرة أيام شنّـت إسرائيل غارات جوية نوعية، وعمليات تخريب وإرهاب غير مسبوقة ضد مواقع وعناصر حزب الله، ألحقت بالحزب وبنيته التحتية العسكرية والاستخباراتية والقيادية نكسات وخسائر بشرية وعسكرية ونفسية مهينة، لن يستطيع الحزب تخطيها في أي وقت قريب. الهجمات الإسرائيلية استهدفت مرابض الصواريخ ومخازن الأسلحة وشبكة اتصالات الحزب وسلسلة قياداته العسكرية. كما شملت الهجمات عمليات اغتيال للقيادات العسكرية للحزب، كان آخرها اغتيال قائد منظومة العمليات العسكرية الخاصة إبراهيم عقيل، إضافة إلى 14 مسؤول عسكري بارز في وحدة الرضوان الخاصة.
وخلال يومين دمويين، فجرت إسرائيل بشكل منظم آلاف أجهزة البيجر وغيرها من الآلات اللاسلكية المحمولة من قبل عناصر تابعة لحزب الله، ما أدى إلى مقتل العشرات، من بينهم مدنيين وجرح وتشويه حوالي ثلاثة آلاف شخص، في عملية اعتبرها الكثير من المحللين إرهابية، لأنها طالت مدنيين من بينهم أطفال أو عناصر غير عسكرية في حزب الله، وكانت تخطط لها إسرائيل بالتعاون مع أجهزة وشخصيات غربية لسنوات عديدة، تضمنت جهود معقدة وتقنية واستخباراتية سمحت للاستخبارات الإسرائيلية اختراق أجهزة حزب الله. عملية اغتيال القيادي في حركة حماس إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران قبل أسابيع أكدت أيضاً نجاح إسرائيل في اختراق الأجهزة الإيرانية. وعقب ذلك، شنت إسرائيل غارات مكثفة ضد مئات المواقع العسكرية التابعة لحزب الله في جميع أنحاء الأراضي اللبنانية، أدت إلى قتل خمسمئة لبناني في يوم واحد.
استمرار وتصعيد الغارات الإسرائيلية، ومواصلة حزب الله لقصفه الصاروخي لشمال إسرائيل، وحتى إطلاق صاروخ باليستي وصل للمرة الأولى إلى تل أبيب، قرّب الطرفين من الانزلاق إلى حرب شاملة. وفي منتصف الأسبوع، قال رئيس هيئة الأركان العسكرية الإسرائيلية هيرزي هاليفي للعسكريين الإسرائيليين أن يحضروا أنفسهم لاجتياح بري محتمل للأراضي اللبنانية لتدمير البنية التحتية لحزب الله، مستخدما لغة مشابهة للغة التي استخدمها القادة الإسرائيليون قبيل غزوهم للبنان في 1982، حين تحدثوا عن ضرورة تدمير البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا التوتر العسكري النوعي دفع بالرئيس جوزيف بايدن لأن يقول في برنامج تلفزيوني إن “الحرب الشاملة ممكنة”، مع أنه كرر القول إن التوصل لاتفاق شامل يؤدي إلى وقف إطلاق النار، ويمهد الطريق لإقامة دولة فلسطينية لا يزال ممكناً. ولكن الرئيس بايدن ووزير خارجيته انتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جايك ساليفان يرددون الكلام ذاته منذ فترة طويلة، والتمنيات ذاتها حول اقترابهم من تحقيق وقف اطلاق النار في الحرب في غزة بعد أشهر من دعم أهداف إسرائيل العسكرية، مثل القضاء على حركة حماس، ورفض البحث في وقف إطلاق النار خلال الأشهر الأولى للحرب. وكما يتبين من رد الفعل البارد لخطاب الرئيس بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد تخطى العالم الرئيس بايدن وحقبته، الذي أصبح رئيس تصريف أعمال خلال الأشهر الأربعة المتبقية من ولايته.
في الأشهر والأسابيع الماضية، واصل المسؤولون دعمهم التقليدي لإسرائيل في حربها مع حركة حماس وحزب الله، وإن بدأوا بمناشدة إسرائيل، والتمني عليها، قبول وقف إطلاق نار مؤقت لتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، في الوقت الذي واصل فيه نتنياهو والقائد العسكري لحماس يحيى السنوار وضع العقبات أمام اتفاق نهائي. ولكن لا صوت يعلو على أصوات الأسلحة الأميركية، التي يستمر تدفقها المجاني إلى إسرائيل دون انقطاع. وكانت إدارة الرئيس قد طلبت من الكونغرس في شهر أبريل/نيسان تخصيص 14 مليار دولار لتزويد إسرائيل بالأسلحة، وفي الشهر الماضي طلبت تخصيص 20 مليار دولار للغرض ذاته.
وبينما يقول قادة حزب الله أنهم مستعدون لوقف إطلاق النار من جانبهم، إذا توصلت إسرائيل وحركة حماس (عبر الوساطة الأميركية-القطرية-المصرية) إلى وقف لإطلاق النار، يواصل نتنياهو مقاومة الضغوط الأميركية (المعتدلة) عليه، وحتى الضغوط من بعض العسكريين الإسرائيليين البارزين. في شهر يونيو/حزيران الماضي، قال الرئيس بايدن في لحظة صريحة إن هناك “أسباب عديدة” لكي يستنتج الناس أن نتنياهو يطيل أمد الحرب لأسبابه السياسية الخاصة. ولكن لاحقاً، تراجع البيت الأبيض عن هذا النقد في خطوة غير مفاجئة.
خلال سنة من الاشتباكات المحدودة نسبياً، ألحقت إسرائيل بحزب الله خسائر كبيرة تشمل قتل 500 عنصر عسكري، من بينهم قادة بارزون مثل فؤاد شكر ووسام الطويل وغيرهما. كما أن مواقع الحزب ومنشآته جنوب نهر الليطاني قد تعرضت لأضرار جسيمة. وفي الأسابيع والأيام الماضية، وسعّت إسرائيل من قائمة أهدافها لتشمل سهل البقاع وشمال لبنان وجبل لبنان. في المقابل ظل رد حزب الله محدوداً وليس مصمماً لاختراق الحدود الحمراء، وحصر هجماته بضرب أهداف في شمال إسرائيل، وليس بالعمق، وتفادى ضرب المدنيين. وتصرف الحزب كما تصرفت إيران في إبريل/نيسان الماضي حين أوضحت مسبقاً أنها ستقصف إسرائيل بالصواريخ، ونفذت هجومها غير المفاجئ بطريقة لا تؤدي إلى مقتل المدنيين وحتى العسكريين الإسرائيليين، ولذلك جاء الرد الإسرائيلي بعد مناشدات عديدة من واشنطن محدوداً وغير دموي.
حتى الآن، يبدو أن قراءة نتنياهو لإيران وحزب الله صحيحة، أي أن طهران ووكيلها في لبنان لا يريدان المجازفة بحرب شاملة. نتنياهو يدرك أيضا أن إدارة الرئيس بايدن، الضعيفة أصلاً، سوف تزداد ضعفاً وتصبح هامشية أكثر مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/كانون الثاني المقبل، والفترة الانتقالية التي تعقبها، خاصة وأن المرشحين الجمهوري دونالد ترامب والديموقراطية كامالا هاريس متعادلان تقريبا في مختلف استطلاعات الرأي. وهذا يعني أن إدارة الرئيس بايدن لن تكون قادرة أو مستعدة لفرض أي قيود جدية، إذا قرر نتنياهو شن عمليات عسكرية برية محدودة تقوم بها القوات الخاصة، أو حتى شن هجوم بري لتدمير القدرات العسكرية لحزب الله جنوب وشمال الليطاني يتبعه انسحاب سريع.
ويرى العديد من المحللين إن نتنياهو، الذي قضى عملياً في المستقبل المنظور على حركة حماس كقوة قتالية فعالة، يريد أن يحقق هدف مماثل ضد حزب الله. نتنياهو يدرك إن وقف إطلاق النار في غزة، يعني أن ماكينة المحاسبة والمسائلة السياسية داخل إسرائيل وداخل المؤسسات القضائية والسياسية سوف تفتح أبواب التحقيق في الإخفاقات الاستخباراتية والسياسية التي سبقت هجوم حماس في السابع من أكتوبر/كانون الأول الماضي، وأن هذه المحاسبة سوف تطاله. لذلك فإن نقل الحرب إلى الجبهة الشمالية، وإلحاق خسائر جسيمة بحزب الله وقدراته هو هدف يحظى بدعم شريحة واسعة من الإسرائيليين، على الرغم من أن الموقف المُبارِك للحرب قد يتغير وينقلب رأسا على عقب، تماماً كما حدث خلال الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في 2006، حين ألحق حزب الله بالجيش الإسرائيلي خسائر محرجة.
مضى على آخر حرب نظامية بين إسرائيل والعرب (حرب أكتوبر 1973) أكثر من خمسين سنة. حروب إسرائيل التي تلت تلك الحرب كانت ضد قوى مثل منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله وحركة حماس. والطريقة التي تخوض فيها إسرائيل هذه الحروب، مثل استخدام أسلوب الأرض المحروقة ضد المدنيين والمسلحين والبنى التحتية، تضمن بقائها في حالة حرب دائمة. حزب الله خرج من ركام الغزو الإسرائيلي في 1982. أدت هزيمة منظمة التحرير وتهميشها إلى قيام حركة حماس لوراثتها.
السؤال الصعب الذي يلح على أمين عام حزب الله حسن نصر الله هو إلى أي مدى هو وإيران مستعدان لتحمل الخسائر البشرية والمادية الفادحة، إذا استمرت الضربات العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يتوقعه المراقبون والمسؤولون في واشنطن قبل أن يلجأ إلى تصعيد عسكري مضاد للتوصل إلى وقف لإطلاق النار مماثل لما حدث في 2006. حتى الآن، لم يستخدم حزب الله الصواريخ الموجهة والمتطورة الموجودة في ترسانته، لأنه يريد تجنب رد إسرائيلي مدمر. ولكن ماذا إذا قررت إسرائيل قصف مرابض هذه الصواريخ وحاولت تدميرها؟ هل يستبق نصر الله هذا السيناريو بضربة وقائية؟ ما هو واضح من إدارة نتنياهو للحرب ضد غزة هو أنه لا يبالي بردود الفعل العالمية بعد الخسائر المدنية الفلسطينية الضخمة التي تسببت بها قواته، طالما بقيت المظلة الأميركية تحميه من الإدانات السياسية والقانونية الموجعة.
تشير تصرفات نتنياهو إلى اقترابه من تصعيد نوعي يشمل توسيع رقعة الأرض المحروقة لتشمل اجتياح مناطق جديدة في لبنان. في المقابل يواجه حسن نصر الله وإيران خيارين صعبين: القبول العملي بوقف لإطلاق النار مع إسرائيل بغض النظر عما سيحدث في الجبهة مع حركة حماس، أو المجازفة بهدر واستنزاف قدراته العسكرية، وخاصة الترسانة الصاروخية المتطورة التي تريد إيران صيانتها واستخدامها فقط في حال تعرضها هي لهجوم إسرائيلي أو أميركي في المستقبل؟ كل المؤشرات تبين أن قيادة حزب الله تدرك مدى وعمق رفض اللبنانيين بمن فيهم جزء من قاعدته، لحرب عبثية لن تجلب إلى لبنان، الذي ينهار ببطء منذ سنوات، إلا المزيد من الألم والدماء والضحايا والأنقاض.