في 13 و14 شباط/فبراير، اجتمع مسؤولون من أكثر من 60 حكومة في العاصمة البولندية وارسو من أجل حضور المؤتمر الوزاري لتعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط الذي تنظمه الولايات المتحدة. وكان جليًا منذ البداية أن واشنطن والعديد من حلفائها قد وضعت تصوّرًا للحدث باعتباره مصممًا في الدرجة الأولى من أجل تمتين التحالف الدولي بغية مواجهة إيران حول مسائل عدة – لا سيما تطوير إيران للصواريخ واعتمادها سياسات تزعزع استقرار المنطقة – لم يتمّ التطرق إليها في الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة، والذي انسحبت منه واشنطن عام 2018. ومن بين الرسائل الكامنة القوية أيضًا كانت المساعي من أجل إرساء أساس دبلوماسي لخطة سلام إسرائيلية-فلسطينية جديدة يصيغها كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، ومن أجل السعي إلى التقريب بين إسرائيل ودول الخليج العربية. وبناء على طلب حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، على غرار بريطانيا، تمّت إضافة مسائل تتعلق بالحروب التي تشهدها كل من سوريا واليمن في نهاية المطاف إلى الأجندة. ولكن وفي ظل انتهاء المؤتمر، تمّ التشكيك إلى حدّ كبير في ما إذا تحققت أي من أهدافه الطموحة. وبالفعل، يبدو أنه بطريقة أو بأخرى أظهر الحدث ضعفًا وانقسامًا أكثر مما أظهر قوةً وتضامنًا.
ومنذ أن سحب ترامب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، كانت واشنطن تحاول تشكيل تحالف دولي واسع النطاق من أجل الضغط على إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات والاتفاق في نهاية المطاف على فرض قيود أكثر صرامة على أنشطتها النووية وبرنامجها لتطوير الصواريخ وسياساتها في المنطقة. وكانت إسرائيل وعدد من دول الخليج العربية، بما فيها السعودية والإمارات والبحرين، تشجع إدارة ترامب بشدة للسعي وراء تحقيق هذه المساعي. وقد شاركت هذه الحكومات بحماسة كبيرة إلى درجة أن إسرائيل أرسلت رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى المؤتمر. لكن الهدف الفعلي لهذا القسم من الأجندة كان الدول الأوروبية التي تواصل مساعيها الرامية إلى ضمان استمرارية خطة العمل الشاملة المشتركة في العمل رغم المعارضة الأمريكية. وقد تجلى عزمها هذا مؤخرًا من خلال إنشاء “أداة دعم التبادل التجاري”، وهي “آلية محددة الهدف” لتيسير الدفعات من إيران إلى الشركات الأوروبية وغيرها من الشركات المتعددة الجنسيات بعملات غير الدولار الأمريكي، في تجاوز للنظام المصرفي الأمريكي وتجنّب للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة.
لكن هذه الدول الأوروبية – بخاصةٍ بريطانيا وفرنسا وألمانيا – إضافةً إلى إدارة الاتحاد الأوروبي أظهرت فتورًا صريحًا إزاء أجندة وارسو. وحدها بريطانيا أرسلت وزير خارجيتها جيريمي هانت إلى المؤتمر وقد أوضح أنه حضر في المقام الأول من أجل المشاركة في اجتماع “اللجنة الرباعية حول اليمن” – أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات – لمناقشة الصراع في اليمن. ووسط رفض روسيا وتركيا حضور المؤتمر واستثناء نظام الرئيس السوري بشار الأسد عمدًا، كانت أي مشاورات حول الشؤون السورية شكلية فعليًا وغير مهمة. كما أنه ما من دليل على إحراز الولايات المتحدة أو إسرائيل أو دول الخليج العربية أي تقدّم في إبعاد الدول الأوروبية عن مساعيها الرامية إلى إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة أو اعتماد موقف أكثر تحديًا إزاء إيران.
على العكس، كانت الانقسامات الحادة ضمن الحلف الغربي حول كيفية التعامل مع إيران جلية للغاية، لاسيما نظرًا إلى انخفاض رتب ممثلي معظم البعثات الأوروبية نسبيًا. وبهذه الطريقة، كان الأوروبيون، بمن فيهم البريطانيون، يبعثون برسالة مهذبة ولكن حادّة بأنهم لا يزالون غير موافقين على حملة “الضغط الأقصى” من العقوبات وغيرها من وسائل النفوذ على طهران وأنهم سيستمرون في العمل مع إيران من أجل المحافظة على الاتفاق النووي. فضلًا عن ذلك، شكّل غياب روسيا والصين تذكيرًا بأن طهران تحظى بدعم عالمي ملحوظ أيضًا.* في موازاة ذلك، عبّرت كل من روسيا وتركيا وإيران عن استخفافها بمسعى وارسو من خلال عقد قمة منافسة خاصة بها في سوتشي الروسية، تتمحور ظاهريًا حول سوريا (علمًا أنّ هذه الدول الثلاث تتمتع بوجود عسكري كبير في سوريا). وقد حضر القمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني. وعليه، كانت الانقسامات العالمية والإقليمية المتعلقة بإيران واضحة للعلن في وارسو، ومن المرجح أن تكون طهران قد استنتجت أن التحالف ضدّ إيران في حالة فوضى جدية وبأن فرص التعاون مع العديد من الدول المجتمعة في وارسو قائمة وكذلك مع تلك التي رفضت المشاركة أو تمّ إقصاؤها.
وتتشارك إسرائيل المخاوف حيال أنشطة إيران وطموحاتها في الشرق الأوسط إلى حدّ كبير مع دول الخليج العربية، على غرار السعودية والإمارات والبحرين. ومنذ سقوط حلب مطلع عام 2016 في يد القوات الموالية للنظام في سوريا، تبدّل منظور إسرائيل من تركيز على برنامج إيران النووي إلى مخاوف ملحة حول أنشطة إيران على الأرض ووكلائها المتعددين من الميليشيات غير التابعة للدولة، بما فيها حزب الله. باختصار، لا تنظر إسرائيل والكثير من دول الخليج العربية إلى إيران كمصدر تهديد أساسي فحسب، بل أصبحت تتشارك الآن أيضًا تعريفًا متبادلًا لما هو عليه التهديد الإيراني الوشيك بالتحديد. ومن الناحيتين العامة والخاصة، تقلّصت الآن الفجوة بين هذه القوى في ما يتعلق بطبيعة التهديد الذي تطرحه طهران ودرجته. لكن على الرغم من الاتفاق شبه الكامل بأن إيران تمثّل مصدر التهديد الأكبر في المنطقة، لا تزال إسرائيل وهذه الدول العربية منقسمة إلى حدّ كبير بشأن الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية والذي يعود تاريخه إلى العام 1967.
ومنذ أيامها الأولى، أملت إدارة ترامب في أن تشكّل وجهة النظر المشتركة هذه أساس علاقة استراتيجية جديدة بين إسرائيل ودول الخليج العربية، إلى جانب الدول العربية التي يربطها تعاون قائم أساسًا مع إسرائيل، على غرار مصر والأردن. مع ذلك، ونظرًا إلى غياب العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول والرفض العربي المطلق المستمر لاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية الذي بدأ عام 1967، كان أي تعاون بين إسرائيل ودول الخليج العربية محدودًا وتكتيكيًا وخلف الكواليس عمومًا. ويتفق الطرفان على أنه لا بدّ نظريًا من وجود علاقة أكثر متانةً وانفتاحًا. لكن مدى الخلاف حول شروط إقامة علاقة مماثلة أصبح واضحًا على نحو متزايد في 2018 كما أنه تجلى بدوره بالكامل في وارسو.
وتتمثل وجهة النظر الإسرائيلية أساسًا في أنه لا ضرورة لوجود أي عائق فعلي مبني على الاحتلال المستمر. وبالفعل، تحدّث مسؤولون إسرائيليون لسنوات بشكل ودّي عن “حلفائنا من العرب السنّة” ومبالغات مماثلة. غير أنه في الوقت الذي تعبّر فيه العديد من دول الخليج العربية عن اهتمام واضح في السعي إلى إقامة شراكة وطيدة مع إسرائيل لمواجهة إيران إلى جانب اهتمامات في التنمية الاقتصادية وغيرها من الاهتمامات، يُعتبر إحراز التقدّم حول المسألة الفلسطينية أساسيًا لأي خطوة رئيسية في المستقبل. وفي حين تمّ إحراز بعض التقدّم الخجول وغير الرسمي، كان المسؤولون السعوديون، وعلى رأسهم الملك سلمان بن عبد العزيز، واضحين للغاية، بخاصةٍ خلال الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية، بأن الموقف السعودي والعربي لا يزال قائمًا في الأساس على مبادرة السلام العربية المعلنة في 2002. ومن الواضح أنه ثمة احتمالًا جديدًا لمبادرات متبادلة لبناء الثقة بين الأطراف، على أن تشمل إحراز تقدّم في المسألة الفلسطينية.
غير أن الحكومة الإسرائيلية لا تبدو قادرة على تقديم أي تنازلات ملحوظة إلى الفلسطينيين أو حتى مهتمة بخطوة مماثلة. ومن جهتهم، كان الفلسطينيون مبعدين تمامًا جراء حرب سياسية ودبلوماسية واقتصادية شنّتها إدارة ترامب ضدهم وكانت تطوّرت فصولها منذ أن عارضوا بشدة اعتراف الولايات المتحدة بالقدس “عاصمةً لإسرائيل”. واستنادًا إلى هذه الوقائع، يبدو أن طموح الولايات المتحدة باستخدام الاجتماع الوزاري في وارسو من أجل جمع إسرائيل ودول الخليج العربية معًا وإرساء أسس إطلاق خطة ترامب-كوشنر للسلام بعد الانتخابات الإسرائيلية المقرر إجراؤها في نيسان/أبريل، قد باء بالفشل. ولم تتحقق الآمال بالتقاط صور للقاء نتنياهو مع القادة العرب، باستثناء ذلك الذي جمعه بوزير خارجية عُمان (البلد الذي زاره مؤخرًا). فنتنياهو لم يقف إلى جانب أي من القادة العرب الرئيسيين في الصور الجماعية، ويبدو أنه لم يتمّ إحراز أي تقدّم سواء على صعيد ضمان قناعة عربية بخطة السلام المحتملة أو تطوير وسائل أخرى لتعزيز الحوار الإسرائيلي-الخليجي العربي وترويجه.
في المقابل، وفي حين كرّر وزير الخارجية البحريني أنه يتوقّع أن تقيم بلاده وغيرها من الدول علاقات كاملة مع إسرائيل “في نهاية المطاف”، أدلى الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العامة في السعودية وفعليًا المتحدث غير الرسمي باسم المملكة الأمير تركي الفيصل خلال مقابلة مع الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد بملاحظة تنطوي على حذر أكبر بكثير. فقد حذّر الإسرائيليين من أن نتنياهو “يخدعهم” من خلال التلميح بأن السعودية مستعدة لتوطيد الروابط مع إسرائيل من دون اتخاذ أي خطوة كبيرة نحو التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. وأصرّ الأمير تركي على عدم وجود أي فجوة بين موقف الملك سلمان بشأن هذا الموضوع وبين موقف نجله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وشدّد الأمير تركي على أنه كان على تواصل وثيق مع الحكومة بشأن هذه المسائل وأشار إلى أنه مخوّل بالإدلاء بهذه التصريحات. ووصف بدقة المعادلة الدبلوماسية والسياسية قائلًا: “من وجهة نظر إسرائيلية، يريد منا نتنياهو أن نقيم علاقات معه قبل حل القضية الفلسطينية، وهو أمر ترفضه المملكة العربية السعودية وتريده مقلوبًا”.
وبالطبع ثمة حل وسط بين الدولتين من شأنه أن ينطوي على اتخاد خطوات صغيرة متبادلة تحقق في نهاية المطاف سلامًا واعترافًا كاملين. لكن ما من مؤشرات على أي حلقة مبادرات إيجابية مماثلة بين إسرائيل والفلسطينيين في هذه المرحلة. بل على العكس، قاطعت منظمة التحرير الفلسطينية مؤتمر وارسو بدورها بغية التعبير عن معارضتها الشديدة لسياسات الولايات المتحدة. وعليه، ما من إشارة إلى أن الاجتماع الوزاري في وارسو ساهم فعليًا في تمهيد الطريق أمام إطلاق ناجح لاقتراح سلام أمريكي جديد أو كان ساحة سواء لتقدّم خاص أو عام مُحرز بين إسرائيل ودول الخليج العربية. لا بل إنه سلّط الضوء على الصعوبات العميقة المتبقية التي تواجه أي جهود مماثلة.
أخيرًا، لم يكن الجميع في وارسو على توافق من الناحية البلاغية. فنتنياهو بشكل خاص، أزعج الرأي العام الدولي من خلال دعوته الظاهرية إلى “حرب” مع إيران، في جملة سارع الإسرائيليون إلى تصحيحها، بناء على إصرار أمريكي على ما يبدو، لاستبدالها بـ”محاربة” إيران. وربما تكون تلك غلطة في الترجمة أو في نقل الرسالة، كما يصرّ الجانب الإسرائيلي. أو ربما تكون موجهة عمومًا للاستهلاك السياسي المحلي في إسرائيل وسط ترشّح نتنياهو لولاية أخرى باعتباره متشددًا قوميًا يشجع حملة إسرائيل ضد إيران بالتنسيق مع كل من واشنطن والدول العربية. وبالفعل، يبدو أن المؤتمر ككل شكّل في جزء منه وسيلة لإدارة ترامب وحلفائها من أجل مساعدة نتنياهو، الذي يواجه تحديات قانونية وسياسية خطيرة في مسعاه لإعادة انتخابه. وبغض النظر عن هدف هذا الخطاب، يبدو هذا الخطاب والمؤتمر نفسه وكأنهما يؤججان موقفًا يتّسم بارتياب وعدائية أكبر في طهران.
هذا ومن شأن هجوم انتحاري كبير حصل في 13 شباط/فبراير وأودى بحياة ما لا يقلّ عن 27 من قوات النخبة ضمن الحرس الثوري الإسلامي جنوب شرق إيران، على مقربة من الحدود الباكستانية، أن يعزّز من دون شك التوترات الإقليمية. فواقع أن الهجوم الثاني من نوعه خلال الأسابيع القليلة الماضية تزامن مع الاجتماع الوزاري في وارسو وحصل قبيْل زيارة محمد بن سلمان المرتقبة إلى باكستان (وتشكل الأراضي الباكستانية قاعدة جماعة البلوشيين التي تبنت مسؤولية الحادث) قد دفع بالمسؤولين الإيرانيين ووسائل الإعلام الإيرانية إلى تصوير الهجوم على أنه مسعى تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل لتحويل بلوشيي إيران إلى انفصاليين عنيفين. وبغض النظر عن سبب الهجوم، تتعامل إيران مع مساعٍ ترمي إلى تمتين التحالف العالمي والإقليمي ضدها، رغم عدم نجاح هذه المساعي لغاية الآن، حتى في الوقت الذي تواجه فيه أيضًا ميليشيات محلية وعنيفة غير حكومية، وبالتحديد جماعات من النوع الذي تُتهم إيران بدعمه وتدريبه وتسليحه في العراق ولبنان وسوريا واليمن والعديد من الدول العربية الأخرى. ولا تخدم دعوات محامي ترامب الشخصي رودي جولياني، لـ”تغيير النظام” في طهران سوى تأجيج الوضع.
لا بدّ من الإشارة في النهاية إلى أن اجتماع وارسو لم يتمكن من حلّ أي مسألة ولا يبدو أنه تمّ إحراز أي تقدّم على أي جبهة، لا سيما الصراع العربي-الإسرائيلي. غير أن الوضع الاقتصادي والسياسي وحتى الاستراتيجي في إيران يواصل تدهوره ولا تنفك المشاكل تتزايد بالنسبة لطهران. ويبدو أن الأرضية مهيأة، أقلّه على المدى القصير، لسلسة طويلة وأليمة من الحروب الباردة وبالوكالة أكثر مما هي معبّدة أمام “تحقيق سلام وأمن في الشرق الأوسط في المستقبل”، وهي النقطة التي بُنيت على أساسها آمال مؤتمر وارسو.
* تصحيح: ذكر المقال أساسًا أن تركيا وقطر امتنعتا عن المشاركة. غير أن محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، شارك في الاجتماع الوزاري في وارسو.