تعرضت السياسة الخارجية لإدارة الرئيس دونالد ترامب – إذا افترضنا أنه يمكن الحديث عن وجود سياسة واحدة، وواضحة المعالم – في الأسابيع الأخيرة إلى انتقادات لاذعة في الأوساط الاعلامية والسياسية، بمن فيها قيادات الحزبين الديموقراطي والجمهوري. وتركزت الانتقادات على التناقضات التي اتسمت فيها مواقف الرئيس ترامب، في لقاءات القمة التي جمعته مع الحلفاء في كندا وبلجيكا، ومع الخصوم (؟) في سنغافورة وهلسينكي ومواقفه التي فسرها الحلفاء على أنها تقّوض عمليا النهج الدولي الذي اعتمدته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في هذه اللقاءات دخل ترامب في مواجهات سياسية وشخصية مع الحلفاء الذين تجمعهم مع أمريكا قيم مشتركة ومصالح اقتصادية واستراتيجية، بمن فيهم قادة كندا وألمانيا وبريطانيا، عكست تشكيكه بجدوى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والعلاقات الخاصة مع اعضائه، وارتياحه من جهة أخرى في التعامل مع قادة متسلطين واوتوقراطيين مثل زعيم كوريا الشمالية وكيم جونغ أون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عكست رغبته باقامة علاقات نوعية جديدة معهم.
الغموض الذي يخيم على علاقات واشنطن مع حلفاؤها القدامى في أوروبا وكندا من جهة، والتوقعات من قمتي سنغافورة وهلسينكي من جهة أخرى، يخيم بدرجة أقل على سياسة إدارة الرئيس ترامب تجاه الجمهورية الاسلامية في إيران. هذا لا يعني أن هناك استراتيجية أمريكية متكاملة وبعيدة المدى وتستند إلى وسائل واضحة تهدف إلى تغيير النظام في طهران، كما يأمل ويتمنى البعض، ولكن مما لا شك فيه أن إدارة ترامب تعمل على تصعيد الضغوط والعقوبات الاقتصادية ضد إيران في المستقبل المنظور، وهي سياسة تحظى بدعم جمهوري وبدعم من بعض حلفاء واشنطن في المنطقة.
الذين يتحدثون لا يعرفون، والذين يعرفون لا يتحدثون
ومنذ انتهاء القمتين الأخيرتين في سنغافورة وهلسينكي، وما أثارتهما من جدل حاد مستمر في واشنطن لأنه لم يرشح الا القليل من المعلومات المؤكدة من هذه الاجتماعات التي اتسمت بالسرية وشملت في معظمها، الرئيس ترامب في لقاءات فردية مع كل من كيم جونغ أون وبوتين. وتمشيا مع أسلوبه في احتكار المعلومات وتركيزه على شخصنة العلاقات والقرارات، لم يشاطر ترامب كبار المسؤولين في حكومته بشكل كامل طبيعة التفاهمات والاتفاقات الشفهية التي توصل إليها مع زعيمي كوريا الشمالية وروسيا الاتحادية. بعض كبار المسؤولين مثل مدير الاستخبارات الوطنية دان كوتس، ورئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال جوزف دانفورد وغيرهم اعترفوا أنهم لم يتلقوا ايجازا مفصلا من الرئيس ترامب حول مضمون الاجتماعات. وهذا يعني أن الذين يعرفون مضمون المحادثات: ترامب، بوتين وكيم لا يتحدثون علنا عما حدث، بينما الذين يتحدثون، ومن بينهم وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، لا يعرفون بالضرورة كل ما جرى في الاجتماعات المغلقة.
ومعظم المعلومات الجزئية التي رشحت عن قمة هلسنكي، كان مصدرها مسؤولون روس، وابرزها إعلان موسكو عن التوصل إلى تفاهمات حول سوريا تشمل تعاون القوات المسلحة الأمريكية والروسية لاعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. الجنرال جوزف فوتيل، قائد القوات المركزية المنتشرة في الشرق الأوسط، قال بعد أيام من قمة هلسنكي أنه لم يتلق أي تعليمات أو أوامر جديدة، لا بل حذّر في تصريحات صحفية من خطأ التسرع في أي تعاون عسكري مع روسيا في سوريا، مشددا على أنه لا “يوصي” بذلك. يذكر أن الكونغرس الأمريكي منذ احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، يمنع حين يقر ميزانية وزارة الدفاع مثل هذا التعاون العسكري مع القوات الروسية في أي مكان في العالم، بما في ذلك سوريا. موقف الجنرال فوتيل هذا، أدى إلى رد فعل روسي لافت ونافر وغير معهود، جاء عبر رد رسمي من وزارة الدفاع الروسية التي اتهمت في بيان لها الجنرال فوتيل “بتشويه سمعة قائده الأعلى، وتأزيم الوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي في سوريا، وفقا للقانون الدولي”.
بومبيو في خط النار
واجه وزير الخارجية مايك بومبيو خلال مثوله أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ يوم الأربعاء أسئلة قاسية ومشككة من أعضاء الحزبين حول مضمون قمة هلسنكي ، وحول مستقبل البرنامج النووي والصاروخي في كوريا الشمالية. وتميز السجال بين بومبيو وأعضاء اللجنة بالحدة وتخللته ردود غاضبة من بومبيو الذي وجد نفسه محاصرا وهو يحاول غسيل الآثار السلبية التي تركها وراءه الرئيس ترامب.
وبدأ رئيس اللجنة السناتور الجمهوري بوب كوركر الجلسة بمداخلة نقدية للغاية لسلوك ومواقف الرئيس ترامب في هلسنكي والذي قال إنه بدا “مطيعا” وضعيفا أمام بوتين. واتهم كوركر الرئيس ترامب “باستخدام المعلومات الخاطئة لتحريض الرأي العام ضد” حلف الناتو، وتابع أن ترامب “يغضب اصدقائنا ويسترضي أولئك الذين يريدون الإساءة إلينا”.وحين رد بومبيو على أسئلة العضو الديمقراطي الأبرز في اللجنة روبرت مينينديز باستخفاف قائلا “أنا أفهم اللعبة التي تلعبها” قاطعه مينينديز بحدة قائلا إنه لا يقبل مثل هذا الكلام، وأن عليه الإجابة بوضوح على الأسئلة المطروحة عليه.
ومع أن بومبيو ادعى أن العقوبات الأمريكية ضد روسيا هي دليل قوي على أن ترامب لم يتساهل مع بوتين، إلا أنه امتنع عن توفير أي معلومات دقيقة حول مضمون المحادثات، وأثار استياء أعضاء اللجنة حين امتنع عن توفير أجوبة مقنعة حول احتمال قيام ترامب بتخفيف العقوبات ضد موسكو، أو التعاون العسكري بين البلدين في سوريا، أو مستقبل اوكرانيا. وللمرة الأولى اعترف بومبيو أن كوريا الشمالية تواصل إنتاج الوقود النووي لبرنامجها العسكري، على الرغم من أن إدارة الرئيس ترامب تدعي أنها تحقق التقدم في المفاوضات مع كوريا الشمالية.
ترامب وبومبيو يصعدان الحملة ضد إيران
ومع أن بومبيو خلال مثوله أمام اللجنة تطرق بشكل عابر إلى إيران، إلا أنه قام مع الرئيس ترامب يوم الأحد بتوجيه رسائل تهديد قوية لإيران، جاءت في سياق التحضير لفرض عقوبات جديد خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. من جهته، هدد الرئيس ترامب إيران بأنها ستتعرض إلى “عواقب وخيمة نادرا ما تعرض لها البعض عبر التاريخ” اذا واصلت تهديد الولايات المتحدة بالحرب، وذلك بعد ساعات من اتهام وزير الخارجية مايك بومبيو للنظام الإيراني بحكم إيران “وكأنه مافيا، أكثر مما هو حكومة”، مؤكدا وقوف حكومته وراء الحركة الشعبية الاحتجاجية في إيران. جاء هذا التصعيد في الحرب الكلامية بين البلدين قبل ثلاثة أسابيع من إعادة فرض العقوبات الأمريكية المصرفية ضد إيران، والتي علقت بعد التوقيع على الاتفاق النووي الدولي في 2015، وهو الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس ترامب في شهر مايو –آيار الماضي. وسوف تفرض واشنطن عقوبات أقسى ضد إيران في نوفمبر- تشرين الثاني المقبل لوقف صادراتها من النفط.
تهديد ترامب جاء في تغريدة رد فيها على خطاب ألقاه الرئيس الإيراني حسن روحاني هدد فيه أن أي حرب أمريكية ضد إيران سوف تكون “أم كل الحروب”. ويعتقد أن عودة ترامب لمهاجمة إيران يعود لأكثر من سبب من بينها أنه يرغب بتحويل الانظار عن الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها بسبب أداءه الرديء والمحرج خلال قمة هلسنكي.
التصعيد السياسي والاقتصادي ضد إيران هو جزء من حملة متكاملة تشنها الحكومة الأمريكية ضد النظام الإيراني وتشمل توسيع الحرب الاعلامية ضد أركان النظام بما في ذلك إنشاء قناة تلفزيونية تبث باللغة الفارسية لأربعة وعشرين ساعة في اليوم، إضافة إلى تكثيف البث الإذاعي واستخدام وسائل الاتصال الاجتماعي للالتفاف على الرقابة التي تفرضها الحكومة الإيرانية، وفقا لما أعلنه الوزير بومبيو مساء الأحد الماضي في خطاب ألقاه في مكتبة الرئيس الأسبق رونالد ريغان في ولاية كاليفورنيا أمام جمهور شمل ممثلين عن الجالية الإيرانية الكبيرة في جنوب كاليفورنيا. ومنذ أشهر تحاول إدارة الرئيس ترامب استغلال الحركة الشعبية الاحتجاجية التي عمت مدن إيرانية عديدة ضد الفساد المستشري في البلاد وغلاء الأسعار ومعدلات البطالة العالية، والتي عكست أيضا استياء شريحة واسعة من المواطنين الإيرانيين من الانفاق الحكومي على تمويل العمليات العسكرية الإيرانية في سوريا وتمويل إيران للميليشيات الشيعية المتعاونة معها في العراق واليمن ولبنان. ومن المتوقع أن تزداد الضغوط السياسية والاعلامية الأمريكية ضد النظام الإيراني مع اقتراب الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية في نوفمبر- تشرين الثاني 2019.
وركز الوزير بومبيو في خطابه على بعض هذه العوامل، حين وصف القادة الدينيين في إيران “بالخبث” واتهمهم بسرقة ثروات الشعب الإيراني. وقال بومبيو “أحيانا يبدو العالم وكأنه لم يعد يبالي بتسلط النظام في الداخل وحملات العنف التي يشنها في الخارج، ولكن الشعب الإيراني الفخور لن يبقى صامتا تجاه انتهاكات حكومته” وتابع “والولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس ترامب لن تبقى صامتة أيضا. وفي ضوء هذه الاحتجاجات وطغيان النظام المستمر منذ أربعين عاما”، وجه بومبيو رسالة للشعب الإيراني : “الولايات المتحدة تستمع إليكم، الولايات المتحدة تدعمكم، والولايات المتحدة تقف معكم”.
ودعا بومبيو إلى معاقبة أقطاب النظام الإيراني وخاصة قادة الحرس الثوري وفيلق القدس مثل قاسم سليماني الذين “يجب أن يشعروا بالعواقب المؤلمة جراء قراراتهم السيئة” وأضاف “ونحن نطلب من كل أمة، من كل أمة زهقت وتعبت من السلوك المدمر للجمهورية الإسلامية، لأن تشارك في حملة الضغوط التي نشنها. وهذا النداء موجه بالتحديد لحلفائنا في الشرق الأوسط وأوروبا، أي الشعوب ذاتها التي عانت من إرهاب وعنف نشاطات النظام (الإيراني) منذ عقود”.
وتطرق بومبيو بالتفصيل إلى استشراء الفساد في أوساط المسؤولين الإيرانيين من رجال دين وسياسة، وللمرة الأولى تطرق بالتفصيل إلى ثروات بعضهم الضخمة بما فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي اتهمه بومبيو بأنه يملك صندوق تحوط hedge fundاسمه Setadبقيمة 90 مليار دولار. وأضاف بومبيو أن هذه الثروة التي جمعت بشكل غير شرعي لا تدفع الضرائب وتستخدم لتمويل الحرس الثوري. وذكر بومبيو أيضا صادق لاريجاني رئيس القضاء الإيراني الذي قال إن ثروته تصل إلى 300 مليون دولار جمعها عبر اختلاس المال العام. كما ذكر أيضا صادق محصولي المسمى بـ”الجنرال الملياردير” الذي كان في السابق ضابطا فقيرا في الحرس الثوري ليجمع ثروة كبيرة عبر حصول على عقود للمقاولات وصفقات النفط لصالح الحرس الثوري مستخدما علاقاته الوثيقة بالرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.
وعلى الرغم من أن دعوات بومبيو وغيره من المسؤولين المعروفين بمواقفهم المتشددة من النظام الإيراني مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، لا ترقى إلى مستوى الدعوة المباشرة والصريحة لتغيير النظام في طهران، إلا أن تشجيعهم للحركة الاحتجاجية الشعبية، وتصعيد الحرب الاقتصادية والاعلامية والسياسية ضد النظام، يقترب كثيرا من التحريض على إسقاط النظام في إيران.
ما هو واضح، هو أن إدارة الرئيس ترامب التي ترغب بسقوط النظام في طهران، على يد الشعب الإيراني، ولكن واشنطن لا تريد تحمل مسؤولية سقوط النظام، وما سيلحقه من فوضى.
ويستمر التخبط في سوريا، ودليل ذلك هو عدم امتلاك إدارة ترامب استراتيجية قابلة للتطبيق للتخلص من نظام بشار الأسد، و”تجييرها” سوريا إلى روسيا، بعد أن أوقف ترامب المساعدات المالية لبعض الفصائل السورية المقاتلة. ولا يخفي ترامب رغبته في سحب القوات الأمريكية في سوريا بسرعة ـ وهو انسحاب سوف تفسره طهران ودمشق وموسكو عن حق بأنه تسليم أمريكي بأن روسيا هي الطرف الخارجي الأكبر هناك. ويعتقد ترامب أنه من خلال التعاون مع روسيا يمكنه أن يخدم مصالح إسرائيل، وذلك إذا نجحت روسيا لإقناع إيران بابقاء قواتها وقوات الميليشيات المتعاونة معها بعيدة عن الحدود مع إسرائيل، على الرغم من أن مختلف المؤشرات والمصادر تؤكد أن سقف مطالب إسرائيل من إيران أعلى بكثير وتشمل سحب القوات الإيرانية، ووقف تزويد سوريا وحزب الله بالصواريخ وغيرها. انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وهو متوقع في مطلع العام المقبل، سوف يكون دليلا قاطعا بأن إدارة الرئيس ترامب – على الرغم من الكلام الطنان- غير راغبة أو غير مستعدة لإخراج إيران وميليشياتها من سوريا، أو على الأقل زيادة كلفة هذا الوجود.
هشام ملحم هو زميل غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.