ربما لم يكن الإعلان في الثالث عشر من أغسطس/آب عن الاتفاقية، التي تحققت بوساطة إدارة الرئيس دونالد ترامب بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل مفاجئاً كما قد يبدو من الوهلة الأولى. صحيحٌ أن الاتفاقية لم تكن متوقعة في هذا الوقت، إلا أنه كان هناك دليل واضح على التزايد في العلاقات بين إسرائيل وعدد من دول الخليج العربية – سواء ما كان منها معلناً أو ما هو خلف الكواليس.
إحدى نقاط التحول الرئيسية كانت قيام سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، بمناشدة إسرائيل والإسرائيليين مباشرةً وباللغتين العبرية والإنجليزية، بعدم المضي قدماً في عمليات الضم المزمع القيام بها، لكون هذه الخطوة ستضعف عملية تحسين العلاقات بشكل كبير. ومهما حدث دبلوماسياً خلف الكواليس، فإن النتيجة هي هذه الاتفاقية الدراماتيكية، التي تقوم إسرائيل بموجبها بتعليق الضم مقابل عملية تهدف إلى تطبيع كامل في العلاقات مع الإمارات. وستبدأ هذه العملية بسلسلة من الاتفاقيات، من المرجح أن تتضمن مجالات التعاون العملي. أما افتتاح سفارة إماراتية في تل أبيب فقد يكون هدفًا بعيد المنال.
ولكن لماذا [هذه الاتفاقية] الآن، وما الذي تحويه للدول الثلاث؟
هناك إجابات سياسية ودبلوماسية واستراتيجية، لكن ليس من الصعب استخلاص السبب الذي حدا بالدول الثلاث لأن تعتقد بأن هذه هي اللحظة الأنسب للقيام بما كانوا يرغبون القيام به لأسبابهم الخاصة، واستخدام الاتفاقية لتجنب قرارات لم يرغبوا في اتخاذها.
يمكن القول إن أهم جانب في التوقيت يتعلق بالحملة المتعثرة لإعادة انتخاب ترامب. لقد رحب كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومة الإمارات بفوز ترامب في عام 2016، وأعرب الجانبان عن سعادتهما بشكل عام بمسار العلاقات منذ ذلك الحين. يعتبر نتنياهو حليفاً شخصيًّا لترامب وصهره جاريد كوشنر، الوسيط في هذه الصفقة. كما أن الإمارات العربية المتحدة حافظت على علاقات قوية مع كلٍ من الإدارة وكوشنر، ومن المفترض أن الجانبين كانا يميلان لمساعدة ترامب في سعيه لتحقيق نصر كبير في السياسة الخارجية.
بالنسبة لدولة الإمارات، كان لابد من إصلاح سمعتها التي تضررت إلى حد ما لدى واشنطن. لقد تضررت سمعة البلاد بالدرجة الأولى بسبب مشاركتها في حرب اليمن، على الرغم من أنه لم يكن هناك خلاف على عمليات مكافحة الإرهاب التي تقوم بها في جنوب اليمن، حيث تم استثناؤها من مشاريع قوانين الكونجرس الرئيسية التي تحد من المساعدات الأمريكية للحرب نفسها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التوافق القوي لدولة الإمارات مع إدارة ترامب والمملكة العربية السعودية – التي هي نفسها هدف متكرر لانتقادات الكونجرس– قد أدى إلى توتر العلاقات مع بعض الأوساط في واشنطن.
من المؤكد أن الإمارات العربية المتحدة تدرس اهتماماتها المتعلقة بالتداخل بين التكنولوجيا والأمن والتجارة. فالبلاد تعتبر لاعباً مهماً في مجال التكنولوجيا المتقدمة في الشرق الأوسط، وتنظر إلى إسرائيل على أنها شريك منطقي في تطوير تلك الصناعات والقدرات. وستكون دولة الإمارات مهتمة، بشكل خاص، بالأمن السيبراني الإسرائيلي، وأنظمة المراقبة والتقنيات العسكرية الإسرائيلية، وإمكانية الشراكة مع شركات التكنولوجيا الإسرائيلية في تطوير هذه الأنظمة. بالإضافة إلى ذلك، لا شك أن الاتفاقية تهدف إلى مساعدة الإمارات في التغلب على عمليات الرفض، القائمة منذ فترة طويلة، لبيع ونقل الأسلحة الأمريكية الفائقة التقدم للإمارات، مثل الجيل الخامس من المقاتلة إف-35، وذلك استناداً إلى التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
ولأن قرار الإمارات المفاجئ سيكون مفيداً في محاولة إعادة انتخاب الرئيس، فإن الحكومة الإماراتية تخاطر في سياق السياسة الداخلية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد استقبلت الاتفاقية بترحيب من حملة جو بايدن، ومعظم الأعضاء الديمقراطيين البارزين في الكونجرس، وهذا مؤشر قوي على أن التيار الديمقراطي السائد لا يزال مؤيداً لإسرائيل بشكل فعال. وزد على ذلك، فإن حملة بايدن والمرشحين الديمقراطيين في جميع أنحاء البلاد لا يريدون أن يفوتهم الكثير بشأن ردود فعل الناخبين على هذه الاتفاقية، لأن قلة قليلة من الأمريكيين يصوتون على قضايا السياسة الخارجية، ما لم تكن هناك حرب كبيرة أو تهديد إرهابي كبير على وشك الحدوث.
سوف ترحب كل من الإدارة الأمريكية ومعظم الديمقراطيين بهذا التطور للعلاقات الوثيقة بين حليفين رئيسيين من حلفاء الولايات المتحدة في المواجهة مع إيران. فلطالما كان ذلك بمثابة كعب أخيل للتحالف المناهض لإيران، فعلى الرغم من أن هذا التحالف أكبر وأقوى من الناحية النظرية، إلا أن أعضاءه مبعثرون، وكثيراً ما يكونون على خلاف فيما بينهم، في حين أن تحالف طهران، الذي يضم سوريا وحزب الله والميليشيات الموالية لإيران في العراق، والحوثيين في اليمن أكثر انسجامًا وانضباطاً وتوحداً إلى حد ما.
لكن ماذا عن إسرائيل والإمارات العربية المتحدة؟ يفكر نتنياهو في الدعوة إلى الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الرابعة في غضون عامين، وقد تمسّك بإصرار بمنصبه على الرغم من إخفاقه في تأمين ولاية جديدة بفارق واضح، وفي صد التهم الجنائية الخطيرة الموجهة إليه. وهذا يمنحه ذريعة أخرى لدى الناخبين الإسرائيليين بأنه قادر على حشد كل من العرب والأمريكيين على حد سواء، واللعب على المستويين الدولي والإقليمي بشكل يختلف عن أي من منافسيه. يمكنه الادعاء بأنه قد حقق انطلاقة كبيرة لإسرائيل.
من المؤكد أن ترامب يفعل ذلك، وكذلك محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي والحاكم الفعلي للإمارات. وما الإمارات إلا الدولة العربية الرابعة التي تلتزم بالتطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل، بعد مصر والأردن وموريتانيا. ولكن كان لمصر والأردن مصالح أمنية إقليمية وفورية على المحك، أما موريتانيا فهي بعيدة نسبياً.
بالنسبة لإسرائيل، تعتبر هذه الانطلاقة شيئاً عظيماً لأنها تبدد الإجماع على مبادرة السلام العربية التي قدمتها السعودية عام 2002، وتبنتها بالإجماع جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. تَعِد المبادرة بتطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل، ولكن فقط بعد إبرام اتفاقية سلام على أساس دولتين مع الفلسطينيين. ليس هذا فحسب الذي لم يحدث في هذه الحالة، بل على العكس من ذلك، كانت إسرائيل تفكر في الضم الذي من شأنه، كما تقول الإمارات، أن يبطل حل الدولتين بشكل دائم.
تجادل الإمارات، في هذه الأثناء، بقوة في أنه باستخدامها للوعد بالتطبيع الدبلوماسي للضغط على إسرائيل للتخلي عن الضم، فإنها تكون قد أنقذت مشروع قيام الدولة الفلسطينية، وبالتالي، مبادرة السلام العربية. سيقبل القليل من الفلسطينيين بهذه الحجة، وقد وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الاتفاقية بأنها “خيانة“، وطالب بإلغائها. لكن قد يكون لدى الإمارات العربية المتحدة حجة أكثر منطقية، وهي أن الفلسطينيين يستفيدون من موافقتها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل أكثر مما استفادوا من مصر، عندما أبرمت أول معاهدة سلام عربية مع الإسرائيليين. ويمكن القول إنها حمت الفلسطينيين من خسارة المزيد، على الأقل في الوقت الحالي، وهو مطلب لم تتمكن مصر أو الأردن أو موريتانيا من تقديمه.
يبدو أن نتنياهو كان يبحث عن عذر لعدم المضي قدماً في الضم، الذي وعد به أنصاره اليمينيين بشكل مستمر، لاعتبارات أمنية عديدة، وعلى ما يبدو بسبب ضغوط ترامب. قدمت له هذه الاتفاقية الفرصة. يمكن للإمارات أن تكون مقنعة في ادعائها بأن تواصلها مع إسرائيل، ابتداءً من مناشدة العتيبة، قد فتح حواراً لم يمنح نتنياهو طريقة لتعليق الضم فحسب، بل أعطاه أيضاً حافزاً حقيقياً لعدم المضي قدماً في ذلك في المستقبل. ولكن العديد من الفلسطينيين سوف يجادلون بأن تكلفة كسر الإجماع على مبادرة السلام العربية تعتبر جسيمة بالنسبة لهم.
ومع ذلك، فإنه من المؤكد أن العامل الأكثر أهمية هنا هو ما تشترك به إسرائيل والإمارات العربية المتحدة من مفهوم التهديد الإقليمي لإيران جنبا إلى جنب مع التحدي الناشئ الذي تشكله تركيا. وتشعر إسرائيل والإمارات بالقلق من أن تركيا تتطور إلى قوة إقليمية مهيمنة ناشئة، تحاول الاستفادة من التيارات الإسلامية السنية بأسلوب مماثل لطريقة إيران في نشر الإسلام الشيعي كمبدأ فكري لتوحيد الشيعة. وفي حين أن مصر تبدو وكأنها تشاركهما في هذا التخوف، إلا أن المملكة العربية السعودية ودولاً أخرى لا تزال تركز بشكل كبير على إيران.
لدى الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل العديد من الأسباب للترحيب بهذه الاتفاقية. فقد حقق ترامب نجاحاً في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وتعمل الولايات المتحدة على تجميع حلفائها الرئيسيين معاً. ويسجل نتنياهو نجاحه في السياسة الخارجية: إسرائيل تكسر الإجماع على مبادرة السلام العربية، وتضعف الدبلوماسية الفلسطينية، وتخرج من مأزق الضم. وتكتسب الإمارات حليفاً جديداً مهماً ضد إيران ووكلائها، إضافة إلى تركيا وشبكاتها، ومن المرجح أن تخطو خطوة كبيرة نحو استعادة سمعتها في واشنطن، وتساعد في الوقت نفسه الرئيس ترامب المحاصر. بالنسبة للدول الثلاث، يبدو الأمر وكأنه نصر.