شهدت قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في يناير/كانون الثاني، التي عقدت في العلا بالمملكة العربية السعودية، نهاية انقسام عميق بين قطر وجيرانها. ومرت فترات كان يحتد فيها الانقسام لدرجة أن المصالحة كانت تبدو وكأن تحقيقها ضرب من المستحيل. ومع ذلك، وكما بدأ الخلاف سريعاً، التأم سريعاً كذلك، ولكن لم تتم معالجة أي من المشاكل الأساسية بين الأطراف بشكل جدي.
عاد اليوم مجلس التعاون لدول الخليج العربية “موحداً” مرة أخرى، وانبرت المنافذ الإعلامية تُشيد وتدعم الدول “الشقيقة” بفائض من العروض التضامنية. ولكن المجلس بعيد كل البعد عن الوحدة، ومن الصعب معرفة إلى أين يتجه من الآن فصاعدًا.
قد يكون من السابق لأوانه طرح مثل هذه الأسئلة؛ فقد تحتاج الخلافات، التي اشتدت مؤخراً، إلى المزيد من الوقت لكي تهدأ قبل أن تبدأ النقاشات حول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودوره العالمي. ولكن لم تتم معالجة المشاكل الكبرى بعد، لقد بذل المجلس جهوداً مضنية، منذ نشأته، ليلعب دوراً محدداً في القضايا الإقليمية أو العالمية.
في الواقع، تكافح دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لتحدد ببساطة ماهية المجلس. هل مجلس التعاون الخليجي تحالف أمني لمجموعة من الدول المتشابهة في التفكير، مثل الناتو؟ أم هل هو قوة محركة اقتصادية وثقافية مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)؟ أم أنه تكتل سياسي واقتصادي مثل الاتحاد الأوروبي؟ أفضل إجابة على كل هذه الأسئلة هي “ليس تمامًا”، ولكنه قد يكون كذلك إذا أرادت له الدول الأعضاء أن يكون كذلك.
يُعرَّف مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بشكل فضفاض، على أنه تكتل يمتد ليشمل مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية التي تهم ست دول تشترك في الروابط الثقافة والاجتماعية والجغرافية. تتعاون هذه الدول في بعض الأمور، وتتنافس على أمور أخرى. في أوقات التعاون، يصبح المجلس هيئة فعالة نسبياً، قادرة على حشد موارد مالية ضخمة لمواجهة التحديات المتعددة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في الآونة الأخيرة. ولكن عندما يكون أعضاؤه على حالة من التنافس يصبح مجرد ساحة للكلام أضعف من أجزائه مجتمعة.
ونظراً لأن مجلس التعاون لدول الخليج العربية كان قد تأسس في الأصل، بدعم من قوة الولايات المتحدة العسكرية والسياسية، لمواجهة تهديد جمهورية إيران الإسلامية، كان هنالك دائماً عنصر خارجي قوي لأي فكرة حول ما ينبغي أن يكون عليه المجلس. في الواقع، عملت الولايات المتحدة الكثير لتحديد المهمة الأمنية لهذا التكتل في السنوات التي أعقبت إنشائه. ربما يكون هذا هو السبب الرئيسي للهوية غير الواضحة للمجلس: جميع الدول الأعضاء كانت تعرف جيداً من هي الجهة التي يفترض أن تعارضها، ولكنْ أي من هذه الدول لم تكن تعرف لأي غرض تأسس المجلس.
لم يتم تأسيس مجلس التعاون الخليجي أبداً للتعامل مع الانشقاقات الجماهيرية الداخلية في العالم العربي، كتلك التي ظهرت في عام 2011، نتيجة للإخفاقات الكثيرة لأنظمة استمرت عقوداً من الزمن وأصابها الكساد السياسي والاقتصادي. وقد استغل الخبراء العسكريون والسياسيون الاستراتيجيون الإيرانيون أنظمة الحكم المفككة في المنطقة، حيث إن رواسب الدعم السياسي (والديني)، الذي حظيت به إيران بين السكان المحليين، لم تعمل شيئاً سوى أنها فاقمت المشكلة.
في أعقاب انتفاضات الربيع العربي، اشتكت الدول الخليجية (وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) للولايات المتحدة عدم قيامها بما يكفي للحفاظ على النظام الإقليمي القديم. يبدو أن تراجع التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة عمل فقط على تسريع تفكك مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث سعت كل من قطر والسعودية والإمارات لملء الفراغ الذي تركته واشنطن مع بداية التحول الدرامي للنظام في المنطقة. لقد فسرت الدول الثلاث الاستقرار بطرق مختلفة تماماً، تخلو من أي شعور بالمسؤولية المشتركة أو الرؤية للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها المنطقة ونظامها السياسي. فقامت بدعم الميليشيات والثورات المضادة وأغلقت الطريق أمام مصالح بعضها البعض في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
دون وجود رؤية وهوية ورسالة أمنية موحدة (غير تلك التي جاءت بتأثير خارجي)، اختارت جميع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مسارات مختلفة للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية العنيفة التي اجتاحت المنطقة في السنوات العشر الماضية. تمحورت القطيعة الكبرى المتعلقة بانفصال قطر عن الدول المجاورة، بشكل رئيسي، حول هذه النقطة. فعندما تدهور الأمن الإقليمي بشكل سريع بعد انتفاضات الربيع العربي، اختلفت دول الخليج الثرية الآمنة في ردود أفعالها على هذه الثورات والحروب التي اجتاحت العالم العربي، ووضعت كلاً منها مساراً لعمل ما هو أفضل لنفسها، وليس الأفضل للمجموعة ككل.
وهكذا، حدث التصدع الداخلي في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لأنه لم يكن هناك أبداً ما يوحده في المقام الأول– ليس ثمة مبادئ توجيهية للتقيد بها، ولا قوانين لاتباعها، أو التزامات لتنفيذها. ظهر هذا النقص في الرؤية الجماعية في عام 2011 عند أول اختبار إقليمي رئيسي “داخلي” للمجلس. ولكنه كان موجوداً منذ عام 1981، كقنبلة موقوتة ستنفجر حالما تسنح الظروف. كانت حالة انعدام الأمن المتفشية في المنطقة، إلى جانب وجود رئيسٍ للولايات المتحدة كما يبدو لا يعرف سوى القليل عن المنطقة، أو أنه فشل في أخذ الخلافات الدقيقة بعين الاعتبار، هي السبب الذي أدى لتبلور مجموعة مثالية من الظروف المواتية لتفكك مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ومع ذلك، فإن حالة عدم الانسجام الاستراتيجية المشروعة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية هي بالضبط السبب وراء صموده حتى الآن، وهي السبب في عودة الوحدة المفاجئة لأعضائه. لأن قطر لم تخرق أية قوانين، لم يكن هنالك ما يستدعي الحل الرسمي، فكان من السهل، من الناحية الإجرائية، على أعضاء المجلس الآخرين تقبل عودة القطريين للحظيرة الخليجية، لأنه لم يكن ثمة إجراءات للقيام بها. كل ما كان مطلوباً هو أن يقرر القادة الخليجيون أن المشكلة قد انتهت، وهذا ما قد كان.
وعلى أية حال، فقد ترسب الكثير من الغضب والاستياء الذي تغذى، على مدى أربع سنوات، على الدعاية والتضليل ووقائع مجلس التعاون لدول الخليج العربية المختلة وظيفياً، والتي تمت تعريتها أمام الجميع. ولكن المجلس نجى بفضل أكثر الأسباب غرابة، وهو ما يعني أنه يستطيع أن يتأقلم إلى أبعد الحدود ليكون كما يريد له أعضائه أن يكون. ولهذا السبب بالذات، سيبقى المجلس باستمرار أحد معالم السياسة الإقليمية. وفي الحقيقة قد يصبح أكثر أهمية في المستقبل، ربما عندما تصبح الولايات المتحدة والصين أكبر الجهات الفاعلة في المنطقة وتتعلم الدول الخليجية استخدام ثقلها الجماعي في المساومة بين واشنطن وبكين.