ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
قرار الرئيس ترامب قتل الجنرال قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني – فيلق القدس في بغداد يمثل تصعيدا نوعيا لا سابقة له خلال فترات التوتر الماضية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في إيران. قتل قاسم سليماني، ( وزميله في المواجهات الدموية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، أبو مهدي المهندس نائب قائد قوات الحشد الشعبي العراقية)، هو أهم عملية قتل قائد عسكري/سياسي في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة. قاسم سليماني، الذي خلق من نشاطاته العسكرية وادارته للنزاعات الدامية والأزمات في العراق وسوريا واليمن ولبنان أسطورة سوّقها إعلاميا بذكاء وحنكة، كان طموحا سياسيا، ومرشحا ضمنيا لقيادة إيران في المستقبل، وهو عمليا بمثابة أهم رجل في إيران بعد المرشد علي خامنئي.
لا أحد يعلم، في هذا الوقت المبكر كيف سترد إيران على هذه الضربة المهينة والموجعة وغير المتوقعة، ولكن ما يمكن قوله ببعض الثقة إن إيران ستلعب لعبة المدى البعيد في أي رد ضد أمريكا وحلفائها، وسوف تلعب هذه اللعبة على كامل مساحة المسرح الإقليمي، بشكل غير مباشر، وحتى مباشر إذا دعت الضرورة. عمليات قتل أسامة بن لادن، وأبو بكر البغدادي كانت مهمة سياسيا ورمزيا، ولكنها لم تؤد إلى ردود فعل سلبية تذكر ضد المصالح الأمريكية. ولكن قتل قائد سياسي وعسكري إيراني بأهمية وثقل قاسم سليماني، ولا يمكن تعويضه بسهولة أو في أي وقت قريب، فهذا أمر مختلف. إيران لم تخسر زورقا في مياه الخليج، أو طائرة مسيرة أو محطة رادارات في قصف أمريكي، بل خسرت قائدا بنى شبكة علاقات سياسية وعسكرية وأمنية معقدة للغاية مع قيادات بارزة في الدول المحورية للنفوذ الإيراني الإقليمي. هذا النوع من التجربة السياسية والميدانية يستغرق سنوات طويلة لتطويره، ولا يمكن توريثه بسهولة من قائد لآخر. أهمية خسارة قاسم سليماني لإيران سوف تفرض عليها أن تفكر بدقة بطبيعة ردها أو ردودها على الولايات المتحدة.
مقتل سليماني وتردداته الإقليمية
الغارة التي ستدفع بواشنطن إلى إعادة النظر بوجودها وتموضعها العسكري في العراق وسوريا، وحتى بحجم وجودها الدبلوماسي في بغداد، سوف تصبح نقطة مفصلية ليس فقط في علاقات واشنطن بطهران، حيث سيتم تحليل التطورات اللاحقة انطلاقا من المسلمات قبل الغارة والمتغيرات بعد الغارة، بل بمجمل علاقات ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة الممتدة من شرق المتوسط إلى شبه الجزيرة العربية. فور الإعلان عن الغارة احتج القادة العراقيون، كما احتج قادة الحزب الديمقراطي في واشنطن، لأن إدارة الرئيس ترامب استخفت بسيادة العراق وانتهكتها – كما فعلت في السابق – عندما لم تستشر الحكومة العراقية بأنها تعتزم القيام بعمل عسكري، ولو دفاعي، فوق أراضيها. كما أن ترامب استخف بحق قادة الكونغرس بالمعرفة المسبقة بمثل هذه القرارات والتطورات العسكرية والأمنية الهامة، وخاصة شنّ هجوم عسكري يمكن أن يتطور ويؤدي إلى حرب أوسع. ولذلك سارعت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي للقول إن الهجوم ضد سليماني حدث دون “تفويض لاستخدام القوة العسكرية ضد إيران، كما حدث دون استشارة الكونغرس”، وطالبت بيلوسي في بيان لها أن تُعلم الحكومة الكونغرس حول “هذا الوضع الخطير”. من جهته، أدان جوزيف بايدن نائب الرئيس السابق والمرشح الديمقراطي الأبرز للانتخابات الرئاسية الأمريكية التاريخ الإرهابي لقاسم سليماني، ولكنه أضاف في بيان له أن هذا الأمر “لا يلغي حقيقة أن الهجوم يعتبر تصعيدا هائلا في منطقة خطيرة أصلا”، واتهم بايدن الرئيس ترامب “برمي أصبع ديناميت في برميل من البارود”، في توقعه لردود الفعل الإيرانية.
وقبل ساعات من قتل سليماني، أتهم وزير الدفاع مارك أسبر الميليشيات الموالية لإيران بشن عشرات الهجمات ضد القوات الأمريكية وحلفائها في العراق، وتوقع استمرار هذه الهجمات ولكنه أضاف “ومن المرجح أن يندموا على ذلك لأننا مستعدون للدفاع عن أنفسنا ومستعدون لردع أي تصرفات سيئة من قبل هذه التنظيمات التي ترعاها وتديرها إيران”. وفي بيانها التي أعلنت فيه عن العملية، قالت وزارة الدفاع الأمريكية أن قاسم سليماني كان “يطور الخطط لمهاجمة الديبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين في العراق وفي جميع أنحاء المنطقة”، وذكّرت الوزارة أن “الجنرال سليماني وقوات فيلق القدس مسؤولون عن مقتل مئات الأمريكيين وغيرهم من قوات التحالف وجرحوا الآلاف” في العراق. وحملّت الوزارة سليماني مسؤولية الهجوم الذي استهدف المنشآت العسكرية في كركوك في نهاية الشهر الماضي والذي أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي وجرح أربعة جنود أمريكيين.
في الأيام القليلة المقبلة سوف تطرح أسئلة ملحة في بغداد وفي واشنطن حول مضاعفات قتل الطيران العسكري الأمريكي “بأوامر من الرئيس ترامب” وفقا لبيان وزارة الدفاع الأمريكية للجنرال سليماني في بغداد. وحتى قبل قتل سليماني، تعرضت حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة لضغوط ميليشيات وحدات الحشد الشعبي لكي تسمح لعناصرها بالبقاء في “المنطقة الخضراء” المحظورة لمواصلة حصارها للسفارة الأمريكية بعد أن تمكنت من اقتحام مداخل السفارة الخارجية. بعد تدمير موكب سليماني، سوف يصبح من الصعب على أي سياسي عراقي (عربي) توفير التغطية السياسية للوجود العسكري الأمريكي في العراق. ما يدعو للقلق هو أن الرئيس ترامب لم يستثمر في أي علاقات سياسية مع المسؤولين العراقيين، بمن فيهم الذين يريدون بقاء أمريكا عسكريا في المستقبل المنظور. الزيارة الوحيدة التي قام بها ترامب إلى بغداد، لم تشمل أي لقاء بأي سياسي عراقي. ولا يوجد لأي مسؤول أمريكي بارز أي علاقات أو تواصل مع أي سياسي عراقي بارز.
ترامب لا يريد الحرب، ولكن…
الإيرانيون يدركون أن الرئيس ترامب لا يسعى ولا يريد التورط في حرب مباشرة مع إيران، وهو قال ذلك مرارا، وحتى خلال تهديداته للنظام الإيراني، وهو قطعا لا يريد ذلك وهو ينتظر محاكمته في مجلس الشيوخ، ويعمل على التحضير لسباق انتخابي طويل. وإيران تعرف أيضا أن ترامب كان – ولا يزال – يريد سحب القوات الأمريكية من سوريا، وأيضا القوات الأمريكية من العراق، على الرغم من أنه برر هذا الوجود في السابق بأنه يوفر لواشنطن منصة لمراقبة إيران. ومنذ بدئه لحملته الانتخابية، وخلال سنواته الثلاث الماضية في البيت الأبيض كان ترامب ولا يزال “يندب” حظه لأن أسلافه ورثوه نزاعات دموية، وهو يكرر إدانة “حروب أمريكا التي لا نهاية لها” في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وقبل أيام قال ترامب إنه يفضل السلام، وأي حرب تنفجر مع إيران سوف تنتهي بسرعة ولن تكون لصالح إيران. وفور الإعلان عن قتل سليماني والمهندس، برز سؤال ملح طرحه السياسيون والمشرعون والمحللون في واشنطن والذي يمكن تلخيصه بالصيغة التالية : هل لدى الرئيس ترامب ومساعدوه الخطط والتصورات والإرادة السياسية لتوقع طبيعة ردود الفعل الإيرانية واستيعابها وامتصاصها ورد الفعال عليها، أم أن قتل سليماني هو إجراء منفرد وانتقامي محض؟ الرأي السائد في أوساط المحللين هو أن ترامب غير مؤهل لمثل هذه المواجهة. وليس من الواضح أن ترامب يدرك أن إيران قادرة على استيعاب ضربات عسكرية أمريكية محدودة ضد مرابض صواريخها ومنشآتها النفطية وحتى النووية، وأنها ستبقى قادرة على الرد المباشر، والأهم من ذلك الرد بشكل غير مباشر وعبر أكثر من جبهة ضد المصالح الأمريكية الاقتصادية والعسكرية ومصالح حلفائها.
سياسة “الضغوط القصوى” عبر فرض عقوبات اقتصادية مشددة التي اعتمدها الرئيس ترامب عقب انسحابه من الاتفاق النووي الدولي مع إيران، أدت إلى الحاق أضرار اقتصادية كبيرة بالنظام الإيراني، ولكن هذا “النجاح” الاقتصادي لم يترجم إلى نجاح سياسي، بمعنى ارغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات لبحث العقوبات وكذلك سبل تخفيفها أو الغائها مقابل تنازلات سياسية إقليمية. صحيح أن لإيران خيارات للدخول في مواجهات مع الولايات المتحدة عبر وكلائها وعملائها في المنطقة، ولكن المواجهة الراهنة بين الطرفين تأتي في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني من الآثار العميقة للعقوبات الأمريكية ضد قطاعاته المحورية من النفط إلى المصارف، كما تأتي المواجهة بعد أسابيع من التظاهرات الشعبية غير المسبوقة التي بدأت ضد السياسات الاقتصادية والمالية الفاسدة ورفع الأسعار والتي سرعان ما تحولت إلى مطالب بأسقاط النظام والمطالبة باستقالة المرشد علي خامنئي.
في الأيام القليلة المقبلة سوف تحضر إيران لمأتم كبير ومهيب “للشهيد” قاسم سليماني سوف تستخدمه لتعبئة الرأي العام ضد الولايات المتحدة ولتحويل اهتمامات الإيرانيين من مشاكلهم وتحدياتهم الاقتصادية والمعيشية، ولإحياء هتافات “الموت لأمريكا” والتنديد “بالشيطان الأكبر”. وسوف نرى مشهدا مماثلا إلى حد ما خلال تشييع جثمان أبو مهدي المهندس، ولكن الشعب الإيراني، مثله مثل الشعب العراقي يدرك أن أمثال سليماني والمهندس والقوى التي يقودونها، لم تكن مسؤولة فقط عن مقتل مئات الجنود الأمريكيين في العراق، بل كانت مسؤولة أيضا عن قتل الآف المدنيين السوريين خلال العقد الماضي لإبقاء دكتاتور سوريا بشار الأسد في السلطة، كما يدركون مسؤولية هذه التنظيمات العنيفة عن قتل مئات المتظاهرين المسالمين في شوارع وساحات العراق وإيران في الأسابيع والأشهر الماضية.
قرار أمريكا قتل قاسم سليماني، وضع واشنطن وطهران على طريق مواجهة أو مواجهات دموية لا أحد يعلم بيقين ما هو حجمها أو في أي وقت، أو أي مكان ستدور. ولكن في هذا المشهد القاتم، بصيص أمل وهو أن المواجهة العسكرية، إذا استغلتها الولايات المتحدة بحكمة – وهذا سؤال جدي لا جواب له في هذا الوقت – يمكن أن تتحول إلى فرصة لبدء مفاوضات حقيقية تشارك فيها أمريكا وحلفاؤها الرئيسيون لإرغام إيران على وقف سياساتها التخريبية في المنطقة، ومطالبتها بوقف قمعها للمتظاهرين السلميين في إيران، والتوصل إلى “تسوية نووية” توفر الطاقة النووية السلمية لإيران، ولكن تحرمها من بناء قوة نووية عسكرية.