تزداد حدة المنافسة الجيوسياسية في صفوف أهل السّنة في أسبوع يعج بالأنباء الإخبارية التي تتمحور حول المشاحنات الدينية والسياسية المتزايدة بين المملكة العربية السعودية وإيران. وقد أشعل مؤتمر غامض يضمّ دعاة ومسؤولين إسلاميين عُقد في العاصمة الشيشانية النائية، غروزني، المناوشات في صفوف المسؤولين والناشطين الإسلاميين السنّة في المملكة العربية السعودية والخليج. وأصدر المؤتمر، الذي خلا بشكل خاص من المسؤولين السعوديين والدعاة السلفيين البارزين، بيانًا ختاميًا لإعادة تعريف الإسلام السنة على نطاق شامل. إلا أن عدم إدراج الفكر السلفي في هذا المفهوم قد أثار القلق في الأوساط السنية المحافظة، ولاسيما في ظل الجو السياسي الحالي المحموم إذ تتصدى الحكومات في الشرق الأوسط لخطر تنظيمَي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) و”القاعدة” وجاذبتيهما في الوقت الذي تزيد فيه المملكة العربية السعودية سيطرتها على مؤسستها الدينية المتنفذة. وتشير ردود الفعل الصاخبة على “مؤتمر أهل السنة والجماعة” إلى المخاطر السياسية الكبيرة الناتجة عن هذه المنافسة الحادة حول العقيدة الدينية، نظرًا إلى أن الإمارات العربية المتحدة ومصر تتعاونان مع روسيا لاحتواء الإسلام السياسي في الوقت الذي يناقش فيه السعوديون إذما كانت مواجهة التطرف تعني أيضًا إصلاح المؤسسات السلفية وممارسات الإسلام السعودي.
الإمارات العربية المتحدة تدعم دورا أكبر لـ”الأزهر”
جمع المؤتمر الذي عقد في الشيشان بين 25 و27 آب/أغسطس علماء ودعاة إسلاميين من كافة أنحاء العالم الإسلامي تحت راية السؤال الاستفزازي التالي “من هم أهل السنة؟” وقد تضّمن الحاضرون ممثلين عن وجهات نظر دينية متعددة بما في ذلك الصوفيين، ولكن من دون مشاركة أي من كبار العلماء السلفيين.
ونظّمت المؤتمر مؤسسة طابة، وهي منظمة غير ربحية مقرها في أبوظبي، تقول إنها تهدف إلى توفير نهج إسلامي أكثر شمولية لمعالجة المشاكل الواقعية، وترتكز على تقدير التنوع الثقافي والحضاري. وتدلّ قائمة المتحدثين إلى التقارب من منظمة أخرى تتخذ مقرًا لها في الإمارات العربية المتحدة: مجلس حكماء المسلمين، وهو عبارة عن شبكة دولية للعلماء المسلمين تأسست عام 2014. وعلى نطاق واسع، اعتُبر مجلس حكماء المسلمين محاولة إماراتية لكبح النفوذ الذي يحظى به الاتحاد الدولي لعلماء المسلمين، الذي يتخذ له مقرًا في قطر ويشكّل شبكة أخرى يترأسها الزعيم الروحي لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي، وتتباهى بعضوية كبار العلماء الناشطين السلفيين كسلمان العودة السعودي على سبيل المثال. وفي المقابل، يستند مجلس حكماء المسلمين الذي يعتمد على مؤسسات تقليدية ذات النفوذ، ويترأسه الإمام الأكبر في الأزهر، الإمام أحمد الطيب. ولقد كان الطيب واحدًا من أبرز المشاركين في مؤتمر الشيشان، بالإضافة إلى مفتي مصر السابق علي جمعة، والمفتين الحاليين في مصر وسوريا.
وتضمّن البيان الختامي لمؤتمر الشيشان إدانة مباشرة للتطرف وللممارسات “التكفيرية” التي تعتبر أن بعض التقاليد الإسلامية خارجة عن الإسلام. إلا أن البيان ذهب إلى أبعد من ذلك إلى حد إعادة تعريف أهل السنة بطريقة تضمنت التقاليد الدينية الماتريدية والأشعرية. وشمل التعريف أيضًا مدارس الفقه الإسلامي الشرعية الأربعة والتقاليد الصوفية الباطنية، لكنه أغفل بشكل فاضح عن ذكر التقليد السلفي الذي يتمثل بقراءة حرفية أكثر للحديث النبوي. كما أطلق البيان دعوة لتفعيل صلاحيات المؤسسات التاريخية للتعليم الإسلامي ودورها، ولاسيما الجامع الأزهر، وإلى زيادة التعاون في ما بينها ومع مؤسسات وشعوب في روسيا وجمهورية الشيشان.
ويعكس المؤتمر، وهكذا اعتبره الكثيرون، تعبيرًا ملموسًا عن المحور الإماراتي المصري الروسي الجديد الذي يهدف إلى تحييد الإسلام السياسي ومواجهة التطرف الإسلامي وإلى دعم التقاليد السنية الأكثر اعتدالًا. ومع ذلك، كان لا بدّ للقرار الجريء الذي قضى بعقد مؤتمر في الجمهورية الروسية يعرّف الإسلام السني بطريقة رافضة للتقاليد السلفية الأكثر حرفية وللمؤسسات السعودية للتعليم الإسلامي، أن يثير ردود فعل. وسرعان ما انطلقت ردود الفعل.
العلماء السعوديون يتفاعلون، والأزهر يتراجع
باتت ردود الفعل على مؤتمر الشيشان وبيانه الختامي تعتبر إحدى أبرز المواضيع التي يتم التداول فيها على شبكات التويتر الخليجية وفي معظم الوسائل الإعلامية التقليدية. أدى الرد الساخط إلى إثارة رد فعل من جانب هيئة كبار العلماء السعودية، فيما نأى بعض المسؤولين في الأزهر بأنفسهم.
طالت المؤتمر الديني انتقادات اتهمته بأنه مناورة سياسية وردت عليه بالمثل. ارتكزت براهين النقاد من جهة على الحيثيات الجيوسياسية وشككت في شرعية المؤتمر الإسلامي وأخلاقيات معدّيه، نظرًا إلى انعقاده تحت ما يُتصور أنه رعاية روسية في الوقت الذي تشن فيه روسيا عمليات عسكرية ضد الثوار السّنة في سوريا. ويشكل موقف القرضاوي هو خير دليل. ففي بيان له، هاجم المؤتمر معتبرًا أنه يشرذم السنة في وقت حرج، ولا يأخذ بالاعتبار بشكل كاف المعاناة التي يعيشها السنّة في سوريا على يد القنابل الروسية، وأنه قد فشل في شجب الأعمال التي قام بها الشيعة في كل من سوريا واليمن والعراق.
وبالفعل احتفلت بعض الأوساط الشيعية، بما فيها قناة “العالم” الإخبارية الإيرانية الناطقة باللغة العربية والمدعومة من الدولة، باستثناء السلفيين من المؤتمر، واعتبرت أن هذا الأمر يشكّل “رفضًا للوهابية” وتأكيدًا على حجتهم التي تحمّل التيار السلفي مسؤولية ظهور حركات جهادية عنيفة مثل “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
وقد صوّرت البراهين من جهة أخرى المؤتمر على النحو الذي ظهر عليه: أي كاعتداء مباشر على شرعية التيار السلفي الحرفي في أوساط المجتمعات السنية. وركّزت حجج إضافية تصب في خدمة هذه البراهين على إقصاء السلطات الدينية السعودية (باستثناء رجل دين صوفي واحد)، واتهمت المؤتمر بالسعي إلى تقويض الدور القيادي الذي تتمتع به السعودية في العالم الإسلامي. ولكن لا يخفى على أحد أن في المسارعة إلى دمج السخط السلفي بالدفاع عن الشرف السعودي، محاولة انتهازية. وقد يزرع هذا الأمر بذور الشك في نفوس الناشطين المحافظين الذين سيشككون في درجة التزام الحكومة السعودية بمؤسساتها الدينية النافذة وبالفكر السلفي السائد.
سياق الإصلاح السعودي
انعقد المؤتمر في الشيشان في وقت تشهد فيه المملكة العربية السعودية تغيّرات اجتماعية ملحوظة. إذ إن ضرورة التنوع الاقتصادي وتبني ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمطالب بعض الشبان لتعزيز الانفتاح الثقافي عاملان يتحديان شبكات “الصحوة” وعقائدها التي كانت تطغى وحدها وبشدة على عقول الشباب السعوديين. لقد فُرض قدر أكبر من القيود على سلطة المسؤولين الدينيين ولاسيما الشرطة الدينية. وفي الوقت عينه، شكّل جيل جديد من الإصلاحيين الإسلاميين كالعالم ذي الخلفية الصوفية عدنان ابراهيم ، كتلة ضغط متزايدة داخل المجتمع السعودي ومنبرًا غير مسبوق للتعبير عن الآراء بواسطة الوسائل الإعلامية التي تمتلكها المملكة العربية السعودية.
وبالتالي، تناولت “الصحوة”، وهي عبارة عن شبكات سياسية إسلامية مرتبطة بالنهج السلفي المنبثق عن تيار الإخوان المسلمون، مؤتمر الشيشان باهتمام كبير خوفًا من أن تفقد نفوذها. ولكن وفيما كانت ردود الفعل السعودية بمعظمها معادية بالفعل لمؤتمر الشيشان، أفسح النقاش المجال أمام بعض الإصلاحيين ليتبنوا توصيات مؤتمر الشيشان، وللتشكيك في حصيلة عقود من تعزيز التعصب السلفي في المملكة. وفي مقال نُشر على نطاق واسع، أيّد الليبرالي السعودي البارز أحمد عدنان توصيات المؤتمر ووافق على الفرضية التي تعتبر أن على السنة النأي بأنفسهم عن التيار السلفي.
وحتى أن إدانة هيئة كبار العلماء السعودية لمؤتمر الشيشان كانت ملفتة للإنتباه. ففيما انتقدت استبعاد البيان الختامي للمؤتمر وإجراءاته للفكر السلفي وعلمائه، دعت إلى القضاء على الانقسامات وإلى قبول الآخرين: وهي سمة مخالفة للمعتقدات والممارسات السلفية، ومفارقة لم تغب عن الليبراليين السعوديين.
وفي الوقت عينه، دفع الضغط الذي مارسه المسؤولون الدينيون السعوديون ولربما الناشطون السلفيون المصريون أيضًا المسؤولين في الجامع الأزهر إلى النأي بأنفسهم عن المؤتمر. وفي المقابلات، شدّدوا على أن مشاركة الأزهر في غروزني اقتصرت على الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه الطيب. وأصدر السعودي الوحيد الذي حضر المؤتمر بدوره بيانًا أسف فيه على عدم إدراج السلفيين في تعريف السنّة الذي تضمّنه البيان الختامي للمؤتمر.
إلى أين تتجه المملكة العربية السعودية؟
أدى تقدّم الحركات الإسلامية الشعبية الذي سهّله الربيع العربي إلى ظهور منافسة على العقيدة الإسلامية تلعب فيها الدول دورًا أساسيًا. وفيما باتت السياسات الجفرسونية التي تتبعها الإمارات العربية المتحدة تحل محل ضغط الناشطين في قطر، وإذ يحل تنظيمي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” و”القاعدة” محل الشبان المحتجين ليشكّلا مصدر الخطر الرئيسي، يبدو أن المملكة العربية السعودية وشعبها هما الجائزة الكبرى. ويبقى السؤال الذي يطرحه الأصدقاء والحلفاء هو التالي: هل يستطيع المرء أن يؤيد المملكة العربية السعودية بمعزل عن تيارها السلفي؟ وهل يدعم بعض القادة السعوديين هذه النتيجة؟