التصريحات القوية التي أدلى بها وزير الدفاع لويد أوستن (Lloyd Austin)، والتي أوضح فيها أن هدف الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية هو استنزاف القوات الروسية، وتعزيز القدرات العسكرية لأوكرانيا لمنع روسيا في المستقبل من القيام بأعمال عدوانية ضد جيرانها مماثلة لغزوها لأوكرانيا، وكذلك تصريحات رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال مارك ميلي (Mark Milley) من أنه إذا لم تدفع روسيا ثمنًا باهظًا لغزوها لأوكرانيا فإن “النظام العالمي الأمني”، الذي بنته الولايات المتحدة وحلفائها بعد الحرب العالمية الثانية، سوف يتعرض للإنهيار، ويؤدي إلى دخول العالم “في حقبة اضطرابات خطيرة”، هذه التصريحات طغت على الخطاب السياسي في واشنطن في الأيام الماضية.
رأى بعض المحللين في قول أوستن أن واشنطن تريد “اضعاف” روسيا على أنه يعكس تحولًا في نظرة إدارة الرئيس بايدن للنزاع بصفته حرب لتقرير مصير أوكرانيا، إلى نزاع أوسع يضع الولايات المتحدة وشركائها في حلف الناتو على طريق المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا. ولكن مصادر سياسية مطلعة على المداولات الداخلية، أوضحت لاحقًا في إيجازات خلفية و”توضيحات” لاحقة، أن مواقف الوزير أوستن والجنرال ميلي تعكس تطورًا ووضوحًا في “الرؤية” الأميركية للحرب بعد أسابيع من السجالات والمداولات حول الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة في أوكرانيا، وما هو تحديد مفهوم صد الغزو الروسي، وما يجب أن تعنيه “هزيمة” روسيا عسكريًا وسياسيًا في أوكرانيا بالنسبة لمستقبل الأمن الجماعي لأوروبا، وليس فقط لأعضاء حلف الناتو.
عندما انتهكت الدبابات الروسية حدود أوكرانيا، فإنها لم تبدأ سلسلة من التطورات والمفاجآت العسكرية فحسب، بل افتتحت أيضًا مسلسلًا مدوّيًا من المفاجآت السياسية المذهلة التي غيرت، لا بل قوضت قناعات وتقويمات العديد من المسؤولين السياسيين والمحللين الاستخباراتيين والمخططين العسكريين للقدرات العسكرية للطرفين وكيفية إدارة البلدين للحرب. قبل الغزو كان هناك شبه اجماع في عواصم دول حلف الناتو أن القوات الروسية سوف تفرض سيطرتها على أجواء أوكرانيا، وسوف تحتل العاصمة كييف خلال أيام، وربما تنجح في تعيين قيادة متعاونة معها، لأنها كانت تفترض انهيار حكومة الرئيس فلودومير زيلينسكي، وربما اعتقاله أو فراره خارج البلاد. هذا التقويم الأولي هو الذي فسّر التقارير الصحفية التي تحدثت عن استعداد الولايات المتحدة لمساعدة الرئيس الأوكراني على مغادرة كييف، واللجوء إلى دولة مجاورة، وربما مواصلة قيادة المقاومة من الخارج.
ما ظهر جليًا ومفاجئًا في الأيام الأولى بعد الغزو هو الأداء الرديء والمتخبط للقوات الروسية الغازية، والمقاومة الباسلة والفعالة للقوات الأوكرانية، وصمود القيادة السياسة في كييف، والأداء المتميز والشجاع للرئيس الأوكراني زيلينسكي وكبار مستشاريه ومساعديه. أدت هذه الحقائق الموضوعية، وخاصة بعد أن ألحقت القوات الأوكرانية خسائر جسيمة ومحرجة بالقوات الروسية، وخاصة في محيط العاصمة كييف، إلى إرغام الولايات المتحدة وحلفائها إلى إعادة النظر بتقويماتهم ومسلماتهم الأولية، والبدء بأكبر عملية تسليح لدولة أوروبية، وإعادة تموضع للقوات الأميركية في القارة منذ الحرب العالمية الثانية.
ومع الكشف عن الهجمات والغارات الروسية على الأهداف المدنية، وبعد الكشف عن القبور الجماعية، وجثث المدنيين في شوارع بلدة بوتشا في محيط العاصمة كييف وأيديهم مكبلة وراء ظهورهم بعد إعدامهم بالرصاص، بدأ الرئيس بايدن بتصعيد لهجته ضد الرئيس بوتين، مثل وصفه بمجرم حرب، وقوله في خطاب خلال زيارته لبولندا أن بوتين يجب ألا يبقى في الحكم، وأن القوات الروسية تقوم بقتل جماعي يرقى برأيه إلى مستوى حرب الإبادة. لقد تغيرت نظرة الكثيرين للحرب. هذا التصعيد الخطابي ضد بوتين صاحبه تغيير نوعي في نظرة إدارة الرئيس بايدن للنزاع في أسابيعه الأولى من حرب دفاعية لصد الغزو، إلى تصعيد استراتيجي يهدف إلى الحاق هزيمة بالقوات الغازية. لا أحد يعرف بأي درجة من اليقين كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا أو في أي وقت، ولكن مما لا شك فيه أنه طالما بقي فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا، فإن تطبيع العلاقات الأميركية-الروسية لن يكون ممكنًا، على الأقل خلال وجود الرئيس بايدن في البيت الأبيض.
هذا التطور في الموقف الأميركي جاء بعد نجاح إدارة بايدن في تشكيل وقيادة جبهة عريضة من الدول تشمل أميركا الشمالية ودول حلف الناتو في أوروبا، وتصل إلى الشرق الأقصى لتشمل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا. هذه الدول فرضت عقوبات اقتصادية ومالية وتقنية ضد روسيا واقتصادها ومصارفها لم تفرض في السابق ضد أي دولة كبيرة، وشملت فقط دول صنفتها واشنطن “ارهابية” و “مارقة”، مثل إيران وسوريا وكوريا الشمالية.
قبل الغزو، كان بوتين يعوّل على الخلافات والاستقطابات القديمة داخل الناتو حول كيفية التعامل مع روسيا، واعتماد دولة أوروبية رئيسية مثل ألمانيا على موارد الطاقة الروسية، وترددها التقليدي في مقاطعة روسيا اقتصاديًا. ولكن جهود الرئيس بايدن وحكومته، والفظاعات التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا، اقنعت المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز (Olaf Scholz) بوقف العمل بخط انابيب الغاز المعروف باسم نورد ستريم-2. وبعد تردد ألمانيا في توفير معدات عسكرية قتالية لأوكرانيا في بداية الغزو، طرأ تحول جذري على موقف ألمانيا التي وافقت قبل أيام على تزويد أوكرانيا بآليات متطورة تستخدم كمدافع مضادة للطائرات.
خلال الشهرين الماضيين، نجح الرئيس زيلينسكي وغيره من القادة الأوكرانيين، ومعهم قادة حلف الناتو والدول الديموقراطية الأخرى في صياغة الحرب في أوكرانيا على أنها تشكل الجبهة الساخنة في المواجهة القديمة-الجديدة بين القوى الديموقراطية والقوى الأوتوقراطية المتسلطة في العالم. ووفقًا لهذا التقويم يقف الأوكرانيون في خطوط التماس الأولى، ولذلك فإن نجاحهم في هذه المواجهة هو نجاح لكل المؤمنين بقيم الديموقراطية ومؤسساتها. وهذا التوصيف يفسر الإصرار الواضح الآن من القادة الأميركيين حول ضرورة مساعدة أوكرانيا على هزيمة العدوان الروسي ضد أوكرانيا بشكل لا لبس فيه. بعض الأصوات “التقدمية” في الولايات المتحدة تدعي أن تسليح أوكرانيا يعني إطالة الحرب، ولكن هذا الادعاء يخدم موسكو لأن وقف إطلاق النار دون انسحاب القوات الروسية خارج أوكرانيا يعني أن روسيا قد نجحت في فرض إرادتها. كما يتناسى هؤلاء أن تسليح أوكرانيا إذا ساهم في إضعاف أو إنهاك القوات الغازية وأرغم موسكو على التفاوض فإنه سيؤدي إلى نتائج ايجابية.
هذا التوصيف للحرب الأوكرانية برز بشكل واضح خلال الأسابيع الأولى التي تلت الغزو حين وقفت الدول التي تحكمها أنظمة ديموقراطية حقيقية وراء أوكرانيا، وحين اصطفت دول أخرى، وبعضها هام سياسيًا واقتصاديًا وبدرجات متفاوتة من الدعم، وراء روسيا، وإن لفّت معظم هذه الدول أنفسها برداء الحياد. بعض هذه الدول التزمت بالحياد لأنها ترفض الوقوف وراء الولايات المتحدة ولا تريد استعداء روسيا وأبرزها الصين، أو لأنها تريد الحفاظ على علاقاتها السياسية والاقتصادية مع روسيا ولتحفظاتها على بعض سياسات واشنطن، ومن بينها الهند والبرازيل والأرجنتين والسعودية والإمارات، أو لقناعتها بأن روسيا ستخرج منتصرة من الحرب.
صحيح أن أوكرانيا هي التي تبذل التضحيات الكبرى في هذه الحرب المدمرة التي فرضها قائد متسلط معزول، أصبح بعد وجوده في السلطة لأكثر من 22 سنة قمعيًا في الداخل وعدوانيًا في الخارج، ولكن هذه النجاحات والانتصارات الأوكرانية لم تكن لتتحقق لو لم تكن هناك إرادة أميركية قوية تؤمن بإمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا، بعد أن شكلت جبهة عريضة فرضت عقوبات قاسية ضد الاقتصاد الروسي، وبعد أن وفرت العتاد العسكري الضروري لإعطاء أوكرانيا فرصة حقيقية لمقاومة الغزو وهزيمته وتقرير مصيرها بنفسها. هزيمة روسيا في أوكرانيا، تعني من جملة ما تعنيه توجيه ضربة قوية للرئيس بوتين الذي أصبح في السنوات الماضية “أيقونة” للحركات السياسية المتطرفة والشوفينية والعنصرية في العالم، كما وصفه المؤرخ تيموثي سنايدر (Timothy Snyder).
الحديث عن القيادة الأميركية ومركزيتها، وأهمية التعاون الوثيق بين أعضاء حلف الناتو، يدعو إلى مقارنة كيفية تعامل الرئيس جوزيف بايدن مع الغزو الروسي الثاني لأوكرانيا، وكيفية تعامل الرئيس الأسبق باراك أوباما مع الغزو الروسي الأول لأوكرانيا في 2014. تعامل الرئيس أوباما مع الغزو الروسي الأول لأوكرانيا والذي أدى إلى احتلال، ثم ضم، شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وخلق حركة انفصالية في شرق البلاد، على أنه تدخل روسي في دولة تعتبرها موسكو تقليديًا جزءًا من حديقتها الخلفية، وتدور تاريخيًا في فلكها. ولذلك لم تكن العقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها ضد موسكو موجعة بالفعل.
وعلى الرغم من أن روسيا هي الدولة المعتدية وأوكرانيا الدولة الخاضعة للاحتلال، رفض الرئيس أوباما تزويدها بأسلحة قتالية أو حتى دفاعية، واكتفى بتزويدها بمعدات عسكرية غير قتالية مثل أجهزة الرادار وأجهزة الاتصالات. موقف أوباما المعارض لتسليح أوكرانيا كان منسقًا بالكامل مع موقف مستشارة ألمانيا آنذاك انجيلا ميركل. وتعرض الرئيس أوباما خلال السنتين الأخيرتين من ولايته الثانية إلى ضغوط علنية وقوية من أعضاء ديموقراطيين بارزين في مجلس الشيوخ لتسليح أوكرانيا، وخاصة بعد الانتهاكات العديدة لروسيا ووكلائها المحللين لوقف إطلاق النار، وكان من بين هؤلاء المشرّعين روبرت ميننديز (Robert Menendez) وبنيامين كاردين (Benjamin Cardin)، وجين شاهين (Jeanne Shaheen) وغيرهم. وحتى المسؤولين البارزين في حكومة الرئيس الأسبق أوباما من مدنيين وعسكريين فرضوا الضغوط العلنية عليه لتسليح أوكرانيا، وكان من بينهم رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي (Martin Dempsey)، ووزير الدفاع آشتون كارتر (Ashton Carter) ومدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر (James Clapper).
وللتدليل على أهمية ونوعية القيادة التي يوفرها الرئيس الأميركي، دعونا نقارن بين مواقف وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن القوية ضد الغزو وتشديده على تسليح أوكرانيا وضرورة انتصارها، (وهي مواقف تعكس توجيهات الرئيس بايدن) وبين مواقف أنتوني بلينكن نائب وزير الخارجية خلال ولاية أوباما الثانية حين قال (تمشيًا مع سياسة وتوجيهات الرئيس أوباما آنذاك) خلال زيارة لبرلين في 2015، “إذا أردتم أن تلعبوا على الأرض العسكرية في أوكرانيا، فأنكم ستعززون قوة روسيا، لأن روسيا هي دولة مجاورة، ولديها مخزون ضخم من العتاد الحربي والقوة العسكرية المرابطة على الحدود”. وتابع “وأي شيء نفعله لكي ندعم أوكرانيا عسكريًا، من المتوقع أن تقوم روسيا بتقديم دعم مماثل، ثم تقوم بمضاعفته لمرتين وثلاثة وأربعة…”
كلمات بلينكن آنذاك، كانت تعكس مواقف ومشاعر الرئيس الأسبق باراك أوباما. كلمات بلينكن القوية حاليًا تجاه الغزو الروسي الثاني لأوكرانيا، تعكس مواقف ومشاعر الرئيس الحالي جوزيف بايدن.