أسابيعٌ عديدة مرّت على مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي ولا تزال علاقة الولايات المتحدة بأحد أبرز حلفائها في المنطقة مكدّرة. فهذا الصحفي الناقد للحكومة السعودية لقي مصرعه داخل القنصلية السعودية في اسطنبول يوم الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، وأضيفت هذه الحادثة إلى الانتقادات المتزايدة بسبب الخسائر التي تلحق بصفوف المدنيين وبالأزمة الإنسانية المتفاقمة التي تسببها الحرب في اليمن، لتتسبب بأكبر أزمة عرفتها العلاقات الأمريكية السعودية منذ اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وكانت عواقبها تشويه سمعة الحكومة السعودية وخصوصًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى حدٍّ بالغ في الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب.
ولكن ما السبب في ذلك؟ فالعالم شهد خلال السنوات الأخيرة اغتيالات متعددة لنقّادٍ وصحفيين ومنشقّين وغيرهم إنما لم تأسر مخيلة الشعب بهذا الشكل ولم تبدّل الانطباعات إلى هذا الحد أو تدحض السياسات المتبعة أو تقوّض تحالفات قائمة منذ مدة طويلة. روسيا بالتحديد متّهمة بموجة من جرائم القتل المماثلة، ومن ضمنها جرائم مرتكبة في بريطانيا وسواها من دول الاتحاد الأوروبي. ولإيران كذلك تاريخ طويل في التصرفات المماثلة، حتى أن الدنمارك اتّهمتها مؤخرًا باستئناف أعمالها هذه. وثمة أيضًا أمثلة عديدة أخرى عن اغتيالات مشابهة، ولتركيا نفسها سجلٌ عنيف بشكل خاص في قمع وسجن الصحفيين خلال السنوات الأخيرة، مع أنه لا يتضمن بالضرورة القتل.
فلماذا إذًا أثّرت قضية خاشقجي على السياسة والسياسات والعلاقات الدولية بهذه الضراوة، ولماذا لا تبدو أنها مقبلةً على الاضمحلال بالرغم من التحولات العديدة التي شهدتها دورة الأخبار الفاصلة بعادتها؟ تكشف الإجابات الكثير عن السياق الذي وقعت فيه الفضيحة وعن التأثيرات التي قد تخلّفها على العلاقات الأمريكية السعودية على المدى القصير والمتوسط والطويل.
عن الضحية
من أجل فهم الوقع الذي تركه مقتل جمال خاشقجي في السياق الأمريكي، من الضروري فهم مكانته ودوره الملموس في واشنطن. لعل الكثيرين في الشرق الأوسط وأوروبا كانوا ينظرون إليه بطريقة مختلفة نوعًا ما، وغالبية الأمريكيين في الولايات المتحدة، بمن فيهم غالبية المتابعين السياسيين، لم يسمعوا به قط. ولكن في أوساط متتبّعي أخبار الشرق الأوسط في واشنطن، كان خاشقجي شخصيةً متواجدة في كل مكان وتلقى التقدير من الجميع تقريبًا. فمن الصعب إيجاد شخص منخرط في هذا المجال لم يعرفه، ومن الأصعب أيضًا إيجاد شخص لم يحبّه. فقد كان إنسانًا ودودًا تحلّى بالعواطف الجياشة واتّصف بالكرم والجذب والجرأة. كما أنه كان واسع الاطلاع بحكم تغطيته الدور السعودي في حرب أفغانستان خلال ثمانينات القرن العشرين وبحكم علاقته المقربة ببعض أوساط الحكم السعودية خلال التسعينات وما بعدها. ولهذا السبب اكتسب وسمًا مميزًا كمعلّقٍ وناقد وأصبح محاورًا لا يقدَّر بثمن لمجموعة كبيرة من صانعي السياسات والأكاديميين والصحفيين ومحللي شؤون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. ولربما ساهم ذلك أيضًا في اغتياله.
فضلاً عن ذلك، كان يعتبر في واشنطن على نطاق واسع – إن لم يكن على نطاق شامل – في المقام الأول ناقدًا ليبراليًا للقمع الذي تمارسه الحكومة السعودية ومناصرًا لحرية التعبير وحقوق الإنسان. والواقع أن تعاطفه مع الإسلاميين أمرٌ حقيقيٌ وبديهي لكل من يفهم لغة هذه الأمور. ولكن هذا كل ما هو عليه، مجرد تعاطف لا يرقى إلى مستوى الانتماء الكامل إلى جماعة الإخوان المسلمين كما يزعم منتقدوه، لا بل كان تعاطفه هذا ممزوجًا بمصلحة ملزِمة جدًا في الحريات والديمقراطية. كل من عرفه خير معرفة يعلم أن آراء خاشقجي متغيرة ومعقدة وبعيدة كل البعد عن التصوير المغالي الذي يرسمه منتقدوه. ولكنّ العديد من الأمريكيين الذين عرفوه عجزوا عن فهم هذه الجوانب في توجّهه السياسي التي استفزت أعداءه إلى هذا الحد والتي تتعرض اليوم للتضخيم بشكل متكرر. فهو مثلاً لم يعطِ الحجج الإسلامية بالمصطلحات الإسلامية، بل غالبًا ما طرح أفكارًا متعاطفة مع الإسلاميين بعبارات ليبرالية. ولذلك كان يُعرف بشكل واسع داخل الولايات المتحدة بالشخص الليبرالي ببساطة، وهذه صورة صحيحة إنما ناقصة.
باختصار، كان خاشقجي معروفًا وله علاقات قوية في واشنطن إلى درجة وبجوانب لم يستوعبها بعد بالكامل الكثيرون في الشرق الأوسط على الأرجح. ومن ميزاته أن كاتب هذا المقال يعرفه ويحترمه منذ 15 سنة بالرغم من الخلافات العميقة بينهما حول مسائل كثيرة. وقد تضخّم السخط الكلّي الذي انتشر في واشنطن بفعل عدد من الأشخاص الذين يحترمون خاشقجي ويقدّرونه، وتعاظم أيضًا في الفترة التي ساهم خلالها في تحرير عمود صحفي في صحيفة واشنطن بوست لمدة زادت قليلاً عن السنة، وهذا ما ارتقى بمكانته الرفيعة بشكل ملحوظ وأعطاه مناصرًا قويًا له بعد وفاته.
عن الجريمة
تنطوي جريمة القتل بحد ذاتها على عناصر عدة ساهمت إلى حدٍّ كبير في الوقع الذي تركته. والعنصر الأوضح هو مكان وقوعها داخل مقر بعثة دبلوماسية سعودية، في ما يشكل انتهاكًا لأهم ركائز القواعد الدبلوماسية والعلاقات الدولية. والعنصر الثاني هو أن فكرة أن خاشقجي قُتل فيما كان يحاول الإقدام على زواجٍ جديد وفيما كانت خطيبته تنتظره بلوعةٍ في الخارج، تزيد من الجانب العاطفي لهذا السيناريو. أما العنصر الثالث فهو أن السلطات التركية استعانت ببراعة بوسائل الإعلام للإضاءة على الجريمة بأشنع افتراضات يقشعر منها البدن، علمًا بأن الكثير منها لم يؤكَّد بعد وبعضها يبدو عاريًا تمامًا عن الصحة. ولكن المعلومات المعروفة اليوم مروعة للغاية إلى حدٍ يقشعرّ له البدن وينتفض له الوجدان بدون الحاجة إلى الروايات التركية الخرافية. وقد تضافرت هذه العناصر الثلاثة لتسهم في إبقاء القضية تحت مجهر الرأي العام وزيادة التشويق المحيط بها وتعظيم الاشمئزاز الناجم عنها.
عن المتَّهَمين
لا يمكن الاستهانة بالدور الذي لعبته المواقف السابقة المعادية للسعودية في رد الفعل الاستثنائي الذي أثاره مقتل خاشقجي. فمنذ الحظر النفطي عام 1973، بات الأمريكيون مهيّئين للنظر إلى “شيوخ النفط” في دول الخليج العربية على أنهم أشرار، وجاءت أحداث 11 أيلول/سبتمبر لترسّخ هذه النظرة. وفي حين أن التحالف الاستراتيجي بين الدولتين – الذي يعتبر تحالفًا حيويًا ببساطة – وخصوصًا التعاون في مكافحة الإرهاب ساعد في إصلاح العلاقات الثنائية سريعًا، إلا أن الشكوك الأمريكية الباقية بشأن الطبيعية الجوهرية للمملكة العربية السعودية لم تزُل قط لدى أيٍّ من الحزبين. ولربما يستطيع هؤلاء النقّاد الإشارة تحديدًا إلى هذه الجريمة كدليلٍ على صحّة نظرتهم، ولكن أحد جوانب الرد الاستثنائي والمستمر الذي أثارته متجذّر في نمط عداوةٍ متأصل لا يمت بصلةٍ إلى الحدث نفسه.
عن المتَّهِمين
اثنتان على الأقل من الجهات التي وجّهت أصابع الاتهام في هذه القضية لعبتا دورًا كبيرًا في تعظيمها واستمرارها، وهما الحكومة التركية والإعلام الأمريكي وبالأخص صحيفة واشنطن بوست. إذ رأت الحكومة التركية فرصةً لإضعاف وعرقلة خصمٍ إقليمي كبير لها بكلفة ضئيلة، فاستغلتها ببراعة فائقة. ولكن تركيا توخّت الحذر في هذا الإطار فتجنبت إحداث قطيعة كاملة مع السعودية أو استفزازها لترد بانتقام كبير، بل سعت حكومة أنقرة إلى إحراج الرياض وخصوصًا الأمير محمد بن سلمان بينما أوضحت أنها لا تريد إحداث شرخٍ في العلاقات ولا تصرّ على توجيه لومٍ رسمي ضد ولي العهد شخصيًا (مع أنها استمرت بالتلميح إلى تورطه). فأدت هذه التكتيكات البالغة الفعالية في زيادة الاهتمام الدولي بالقضية من خلال التشديد وحتى المبالغة في وحشية الجريمة ومن خلال تقطير المعلومات والأدلة ببطءٍ استحوذ على اهتمام الرأي العام في كافة أنحاء العالم.
في المقابل، يعتبر دور الإعلام عنصرًا هامًا في الأثر الذي خلّفه مقتل خاشقجي في الولايات المتحدة. فقد تعاملت صحيفة واشنطن بوست مع الحادثة على أنها وفاةٌ في العائلة – وهذا أمرٌ مفهوم – ولم تأل جهدًا في المطالبة بالمعلومات ومحاسبة الفاعلين وفي إبقاء الجريمة تحت مجهر الرأي العام. وباعتبارها إحدى أكثر الصحف تأثيرًا في الولايات المتحدة – إن لم يكن في العالم أجمع – فمن الصعب إيجاد خصم أقدر منها في الحرب الإعلامية. أضف إلى أن العديد من وسائل الإعلام الأمريكية الأخرى أخذت الأمر على محمل شخصي. ومع أن مقولة أن الاعتداء على صحفي واحد يعني الاعتداء على كل الصحفيين ليست دائمًا فعالة، على أقل تقدير، ولكنها في هذه الحالة شهدت تكاتفًا عميقًا قلّ نظيره.
تأثير الرئيس ترامب
أحد أهم الجوانب الجوهرية والمُغْفَلة في قوة هذه القضية هو المجموعة الواسعة من المخاوف السياسية والاجتماعية التي ارتبطت واندمجت بمقتل خاشقجي. يمكن تحديد العديد من عناصرها الرئيسية بسهولة، وكثيرٌ من هذه العناصر يتعلق بالمخاوف المرتبطة برئاسة دونالد ج. ترامب، وبالتحديد ثمة شعور بأن ترامب نمّى جوًّا من الحقد والعنف ضد الصحفيين الذين يصفهم بـ”أعداء الشعب الأمريكي” وأصحاب “الأخبار المزيفة”، وهذا رأي كرره الحكّام المستبدون والطغاة حول العالم، ومن ضمنهم حكام قاموا بسجن الصحفيين والإساءة إليهم بأعداد كبيرة أحيانًا. لذلك يرى نقّاد الرئيس أن مقتل صحفي من واشنطن بوست على يد حليف بارز للولايات المتحدة هو واحد من أوجه تأجج حملة التشهير والعنف التي أثارها ضد الإعلام.
علاوةً على ذلك، ثمة انطباعٌ بأن خطابات ترامب وسياساته تغاضت بشكل كبير – إن لم يكن بالكامل – عن مفهوم حقوق الإنسان في سياسة أمريكا الخارجية، لا سيما في ما يتعلق بالتعامل مع الحلفاء القدامى كالسعودية. فخطابات ترامب حول قيمة “السيادة” و”القومية” وتهجّمه على ما يسميه “إيديولوجية العولمية” ولامبالاته الواضحة بـ”فرض القيم” على المجتمعات الأخرى، كلها ضاعفت المخاوف بأن تكون سياسات إدارته قد شجعت إلى حدٍّ كبير على انتهاك حقوق الإنسان في العالم. والواقع أن مقتل خاشقجي يعتبر على نطاق واسع مثالاً بارزًا على تبلور هذه الدينامية على الأرض.
ويشار في النهاية إلى أن إدارة ترامب والعائلة الملكية السعودية عملتا كلتيهما على تنمية الانطباع لدى الشعب بوجود علاقة مقرّبة بينهما، وهذا ما عظّم الضرر الذي أحدثته هذه الفضيحة على كل من الدولتين. فقد تم توريط ترامب ضمنيًا في قضية لا علاقة مباشرة له بها، فيما أصبحت الحكومة السعودية هدفًا مفضّلاً لدى النقّاد السياسيين لترامب وسياسته الخارجية بسبب هذا الرابط وبسبب إمكانية التهجم على الرياض بدون أي كلفة سياسية أو رد فعل عنيف على الساحة المحلية، بخلاف الحلفاء المقربين الآخرين لترامب في الشرق الأوسط (كإسرائيل مثلاً).
في المقابل، كانت حرب اليمن تشكل مصدر قلق متزايد بسبب الخسائر المتزايدة التي تسببها في صفوف المدنيين والأزمة الإنسانية التي أججتها. وبفعل الرابط بين ترامب والرياض، غالبًا ما استعانت القوى المعادية لترامب في السياسة الأمريكية بحرب اليمن للتهجم على الرئيس. ثم اقترنت الانتقادات على حرب اليمن بالترويع من مقتل خاشقجي لتخلق في واشنطن رد فعل عنيف ضد السعودية ارتبط في الغالب بالعدواة ضد إدارة ترامب. حتى أن بعض الجمهوريين الذين ينتقدون السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية على غرار السيناتور بوب كوركر وليندزي غراهام وماركو روبيو وينادون بتوجه أكثر دوليةً وبالنزعة المحافظة التقليدية، انتقدوا السعودية كأداة للضغط على ترامب والبيت الأبيض. ومن المحتمل أن يتعاظم هذا التأثير خلال الأشهر المقبلة، لا سيما بعد استعادة الحزب الديمقراطي سيطرته على مجلس النواب في الانتخابات النصفية، ومن المحتمل أيضًا قيام جلسات استماع كبرى وربما أيضًا تحقيقات حول جوانب متعلقة بالحرب اليمينية ومقتل خاشقجي وربما الاثنين معًا.
التداعيات على المدى البعيد
لا شك في أن العديد من العوامل الأخرى ساهمت في الوقع الاستثنائي والتأثير المستمر لمقتل خاشقجي على الحوار الأمريكي، لكن العوامل المطروحة آنفًا كافية على الأرجح لتحرص على عدم زوال القضية بكل بساطة، خصوصًا طالما أن حرب اليمن مستمرة. مع ذلك، وفيما يُستبعد أن تتأثر العناصر الجوهرية في الشراكة الأمريكية السعودية – أي الروابط العسكرية، والتعاون في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، ومساعي إرساء الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية وإدارتها – فإن لهجة هذا التحالف وفحواه والعديد من جوانبه المتعلقة بالصفقات (حتى صفقات الأسلحة) قد تتضرر بشكل ملحوظ وسلبي.