أن يؤيد رئيس أميركي إسرائيل في أي مواجهة عسكرية مع دولة عربية، أو مع أي تنظيم عربي مسلح، فهذا أمر متوقع. ولكن لم يحدث أن أيد رئيس أميركي، جمهوري أو ديموقراطي إسرائيل منذ تأسيسها قبل 75 سنة، سياسيًا وعسكريًا وعاطفيًا، كما يؤيد الرئيس جوزيف بايدن إسرائيل، منذ قيام مئات المسلحين التابعين لحركة حماس صباح السابع من الشهر الجاري باجتياح جنوب إسرائيل، واحتلال عشرات القرى والكيبوتزات، وقتل ما يقدر بحوالي 1400 من رجال ونساء وأطفال، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، واختطاف أكثر من مئتي رهينة.
في الأيام الأولى التي عقبت الصدمة الهائلة التي زعزعت المجتمع الإسرائيلي، وأحدثت شروخات كبيرة في الجسم السياسي، تصرّف الرئيس بايدن وكأن الولايات المتحدة هي التي تعرضت للهجوم. وأوضح بايدن بتصريحاته السياسية وقراراته العسكرية أنه سيبارك أي قرارات عسكرية تتخذها إسرائيل، بما في ذلك تدمير حركة حماس والتخلص منها، وهو الهدف الذي أعلنته القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل
وسارع بايدن إلى إرسال حاملتي طائرات مع السفن الحربية المرافقة لها إلى شرق البحر المتوسط في تحذير واضح لإيران ولحزب الله اللبناني لعدم التورط في القتال، إضافة إلى أسراب طائرات مقاتلة وقاذفات قنابل انتشرت في قواعد جوية تستخدمها واشنطن في دول الخليج العربية. كما باشر بايدن بسرعة شحن الذخائر والصواريخ المستخدمة في “القبة الحديدية”. كان من الواضح أن بايدن تعامل ولا يزال يتعامل مع النزاع الراهن بصفته صديقًا قديمًا ووفيًا لإسرائيل، وهو المعروف بترديده لعبارة “أنا صهيوني، وأنت لست بحاجة لأن تكون يهودياً لتكون صهيونياً”. وعلى الرغم من أن علاقات نتنياهو مع الرئيس الأسبق باراك أوباما اتسمت بالتوتر والخلافات الحادة، (خلال احدى زيارات بايدن لإسرائيل كنائب لأوباما، استقبله نتنياهو بالإعلان عن بناء مستوطنة جديدة، وقبل بضعة أشهر وصف بايدن حكومة نتنياهو بأنها الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل)، إلا أن ذلك لم يمنعه من تلبية دعوة نتنياهو لزيارة إسرائيل وهي في حالة حرب، وهو أمر لم يفعله أي رئيس أميركي قبله.
الصدمة التي شكّلها الهجوم المفاجئ سوف تبقى ماثلة بتردداتها لوقت طويل، لأنها قوضت مسلمات كثيرة هيمنت على العلاقة العدائية بين إسرائيل وحركة حماس تحديدًا، وإسرائيل والفلسطينيين عمومًا. الإسرائيليون اعتقدوا أنهم قادرون على إبقاء حركة حماس وسكان غزة، وراء أسوارهم الحديدية والإلكترونية، في اعتماد كامل على إسرائيل لاحتياجاتهم من مياه وأغذية وأدوية وتيار كهربائي. الإسرائيليون اختاروا العيش تحت قبة حديدية حقيقية، ومجازية بالقدر نفسه، تحميهم من صواريخ حركة حماس البدائية نسبيًا. الإسرائيليون اعتقدوا أن هجماتهم واجتياحاتهم العقابية الدورية لقطاع غزة، والتي وصلت إلى أربعة خلال ستة عشرة عامًا، قد لقنت حركة حماس درسًا لن تنساه.
اللافت في العلاقة الغريبة بين إسرائيل، خلال الحكومات المتعاقبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحركة حماس هو أن نتنياهو كان من دعاة بقاء قطاع غزة تحت سيطرة حماس الإسلامية، بما في ذلك تسهيله وصول المساعدات المالية من دولة قطر لقيادات حماس. نتنياهو كان يأمل ويعمل على تعميق الخلافات بين حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث كان يركز مع الأحزاب اليمينية المتطرفة والشوفينية على تكثيف عمليات الاستيطان، ودفع سكان الضفة تدريجيًا، بسبب الاستيلاء على أراضيهم والترهيب السياسي والحرمان الاقتصادي، للهجرة. من هذا المنظور الإسرائيلي المتشدد، سكان ما يسميه البعض “كوكب غزة” يمكن أن يلفهم النسيان أو تبتلعهم رمال الصحراء.
هذه الصدمة التي شعر بها الجسم السياسي في إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي بأكمله، هي ذاتها الصدمة التي شعر بها الرئيس الأميركي بايدن، الذي رفض – في الأسبوع الأول لبدء الحرب – مثله مثل السياسيين الإسرائيليين الحديث عن أبعاد العنف عن المدنيين، أو ذكر كلمات مثل “ضبط النفس” أو “وقف إطلاق النار”، بل إن المسؤولين البارزين في وزارة الخارجية – وفقًا لمذكرة تم تسريبها لأحد المراسلين – عن منطقة الشرق الأوسط طلبوا من المعنيين بالاتصال بوسائل الإعلام عدم استخدام عبارات مثل “تخفيف التوتر أو وقف إطلاق النار” أو “انهاء العنف وسفك الدماء” أو “استعادة الهدوء”.
ولاحظ المراقبون أن بايدن فور تعرض محيط مستشفى الأهلي في غزة للقصف – وحتى قبل انتهاء التحقيقات الأولية – سارع إلى قبول الرواية الإسرائيلية وتأكيد صحتها. وبغض النظر عما إذا كانت الضربة التي تعرض لها المستشفى ناتجة عن صاروخ فلسطيني انفجر قبل أوانه، أم قصف إسرائيلي مقصود أو بالخطأ، فإن إسراع الملك الاردني عبدالله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس لإلغاء القمة المقررة في عمان مع الرئيس الأميركي، عكس المزاج الشعبي العام في المنطقة الذي رأي أن عناق بايدن لنتنياهو كان أيضًا عناقًا لأهدافه العسكرية. ويبدو أن المستشارين المحيطين بالرئيس بايدن لم يناقشوا معه الضرر الذي ستتعرض له سمعة الولايات المتحدة ورئيسها في المنطقة عندما يرفض مطالبة الإسرائيليين – علنًا وبحزم – بوقف مؤقت على الأقل لإطلاق النار لإيصال المساعدات الانسانية لسكان غزة، أو ما الذي يعنيه عندما يشكك علنًا وتكرارًا بصدقية المعلومات الآتية من غزة حول عدد ضحايا القصف الإسرائيلي، وقوله أنه لا يصدق أرقام حركة حماس.
ولكن نبرة بايدن بدأت تتغير، ولو بشكل طفيف في الأسبوع الثاني، حين بدأ يكرر الحديث عن ضرورة التزام إسرائيل بقوانين الحرب، أي احترام أرواح المدنيين خلال العمليات العسكرية، كما بدأ يكرر حض الإسرائيليين بالتعاون مع مصر على فتح معبر رفح لإدخال الشاحنات المحملة بالمساعدات الانسانية الطارئة لسكان غزة بعد اختفاء المواد الغذائية والأدوية ومياه الشرب، ما أدى إلى إغلاق عدد من المستشفيات. وللتدليل على هول الخراب الذي أحدثه القصف الإسرائيلي لغزة، كشفت مصادر استخباراتية أن القنابل التي قذفتها إسرائيل في الأسبوع الأول على القطاع المكتظ بالسكان وصلت إلى 6000 قنبلة وصاروخ، أي ما يعادل القنابل التي كانت قصفتها الولايات المتحدة في أفغانستان في سنة كاملة.
وعلى خلفية التظاهرات الاحتجاجية في العالمين العربي والإسلامي وفي أوروبا وفي المدن الأميركية من قبل الطلاب والشباب والمسلمين والعرب-الأميركيين، تحدث الرئيس بايدن يوم الخميس الماضي في خطابه للأمة ببعض التعاطف مع حقوق الفلسطينيين، وقام بإدانة العداء للسامية والعداء للمسلمين، وقال “نحن لا نستطيع تجاهل إنسانية الشعب الفلسطيني”، وكرر القول إن إسرائيل ستحترم قوانين الحرب لحماية المدنيين الفلسطينيين “بقدر المستطاع”. كما ذّكر بايدن الإسرائيليين خلال زيارته القصيرة بأن يتفادوا “الأخطاء” التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال غضبها الجامح فور هجمات سبتمبر الإرهابية عندما سمحت لرغبتها بالانتقام بأن تقرر سياستها الخارجية.
ومع ذلك فإن كلمات بايدن ظلت في سياق المناشدات والتمنيات، كما أنه لم يتراجع عن تأييده لقرار إسرائيل غزو القطاع، وإن سعى لإقناع إسرائيل بتأجيل موعد الغزو للسماح لجهود الوساطة التي تقوم بها دول، مثل قطر ومصر، للإفراج عن الرهائن المدنيين. وظل بايدن يصّر على أن الوقت غير مناسب لوقف إطلاق النار، ولم يدع للسلام، لا بل سارع للطلب من الكونغرس تخصيص مبلغ 14 مليار دولار لتسليح إسرائيل. في المقابل قدم بايدن مبلغ 100 مليون دولار لسكان غزة.
وهناك مؤشرات بأن هناك تململ وشكاوى في أوساط وزارة الخارجية وفي أوساط المسؤولين المسلمين في الحكومة بشكل عام تتحفظ على الدعم غير المشروط تقريبًا لإسرائيل، وتأثيره على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة في حال توسع القتال إلى الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. وفي الأسبوع الماضي أعلن المسؤول في وزارة الخارجية عن مبيعات الأسلحة جوش بول استقالته احتجاجا على ما أسماه “الدعم الأعمى لجهة واحدة ” [إسرائيل]، الذي اعتبره “قصير النظر، ومدّمر وغير عادل، ويتناقض مع جميع القيم التي ننادي بها علنًا”.
وأي نظرة على طبيعة التظاهرات الاحتجاجية في الولايات المتحدة توضح أن الرئيس بايدن يجازف بخسارة شرائح اجتماعية انتخابية لا يستطيع تجاهلها أو إغضابها قبل أشهر قليلة من بدء السباق إلى البيت الأبيض. المتظاهرون يمثلون الطلاب والأقليات، وتحديدا المسلمين الأميركيين والأميركيين من أصل أفريقي والعرب الأميركيين. والأهم من ذلك، فإن بعض هذه التظاهرات الكبيرة جرت في ولايات محورية لضمان فوز بايدن بالرئاسة في نوفمبر/تشرين الأول 2024، مثل ميتشغان وفيرجينيا. ويقطن في فيرجينيا أكثر من مائتي ألف مسلم، وحوالي 150 ألف أميركي-عربي. أكثرية هؤلاء الناخبين صوتوا لبايدن في 2020. ويصل عدد الناخبين المسلمين في ميتشغان إلى 350 ألف ناخب، ويزيد عدد الناخبين العرب-الأميركيين عن 200 ألف ناخب في الولاية. في انتخابات 2020، فاز بايدن بولاية ميتشغان بأكثرية من 150 ألف صوت. الانتقادات التي عبّر عنها قادة هذه الجاليات والناشطون السياسيون يجب أن تكون مقلقة للبيت الأبيض لأنهم تحدثوا عن ميل شريحة متنامية من هؤلاء الناخبين إلى البقاء في منازلهم يوم الانتخابات، أو التصويت لجميع المرشحين الديموقراطيين باستثناء الرئيس بايدن، إذا لم يحدث تغيير نوعي وسريع في مواقفه. ما هو مؤكد هو أن بايدن لن يبق في البيت الأبيض لولاية ثانية، إذا لم يفز بأكثرية أصوات المجمع الانتخابي في هاتين الولايتين المحوريتين. الناخبون اليهود يصوتون تقليديًا للمرشح الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية، وهذا ما فعلته أكثريتهم في 2020.
لا أحد يعرف بثقة كيف سيتطور هذا النزاع الكارثي، وما هي المضاعفات الإنسانية والعسكرية للغزو الإسرائيلي المتوقع لقطاع غزة، وفي أي وقت وفي ظل أي ظروف سوف يتوقف القتال، وما هي أثاره الإقليمية، وما إذا كان القتال سيتوسع ليشمل حزب الله والميليشيات المتعاونة مع إيران، مع ما يعنيه ذلك من عواقب وكوارث على المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين واللبنانيين. ولكن استمرار القتال لأسابيع، أو حتى أشهر، يعني أن بايدن سيجد نفسه في موقع دفاعي مع شريحة هامة من الناخبين المسلمين والشباب والطلاب والعرب-الأميركيين في مواجهته المتوقعة مع الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تضعهما استطلاعات الرأي في هذا الوقت المبكر في حالة تعادل.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.