ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
بعد أشهر من التهديدات والتكهنات نفذ الرئيس دونالد ترامب الوعد الذي قطعه لمؤيديه خلال حملته الانتخابية بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وهو أبرز وربما أخطر قرار يتخذه في مجال السياسة الخارجية لأن تبعاته ستؤثر على علاقات واشنطن بأبرز حلفائها في أوروبا، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وعلى السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في الوقت الذي تمر فيه المنطقة في مرحلة متوترة للغاية، وعلى خلفية التكهنات بأن الاشتباكات الأخيرة في مسرح القتال في سوريا بين إسرائيل وإيران قد تؤدي إلى حرب إقليمية يمكن أن تنزلق إليها الولايات المتحدة.
وجاء قرار ترامب غير المفاجئ في أعقاب زيارات إلى واشنطن قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومستشارة ألمانيا انغيلا ميركل، ووزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون في محاولات أخيرة ويائسة لإقناع ترامب بالعدول عن قراره، أو على الأقل تخفيف وقع إعادة فرض العقوبات الاقتصادية ضد إيران، خاصة وأنها ستلحق أضرارا اقتصادية بالشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران. وإذا كان قرار الانسحاب من الاتفاق غير مفاجئ فإن النبرة العنيفة للإعلان، وخاصة إصرار ترامب على فرض أقصى العقوبات الاقتصادية الممكنة ضد إيران صدمت الأوروبيين والمحللين، لأن ترامب أراد بذلك أن يقول للعالم إنه وضع يديه في قفاز حديدي وإنه سيرد بشراسة على من يعترضه أو من يساعد إيران. بعض المتفائلين أرادوا إقناع أنفسهم بأن الانسحاب وطريقة الإعلان عنه تهدف إلى صدم الأوروبيين وترهيبهم ودفعهم لتكثيف جهودهم “لإصلاح” وتطوير الاتفاق النووي وفقا لمطالب وشروط ترامب. وكان الرئيس الأمريكي يركز انتقاداته على حقيقة أن الاتفاق لا يشمل برنامج الصواريخ الباليستية، وهو من الفجوات الرئيسية في الاتفاق، كما يريد إطالة أمد فترات تجميد نواح مختلفة من البرنامج النووي. كما ينتقد ترامب الاتفاق لأنه لم يتطرق إلى نشاطات إيران التخريبية وتورطها العسكري في نزاعات العراق وسوريا واليمن، على الرغم من أن الاتفاق تقني وعلمي ولم يشمل أي دولة عربية. ولكن، في ضوء ردود الفعل الأولية على قرار ترامب، ليس من المتوقع أن تواصل الدول الأوروبية جهودها في هذا المضمار، وسوف تحاول في المقابل ابقاء إيران في الاتفاق، لأن ذلك يخدم مصالحها الاقتصادية، ولا يعرّضها إلى عزلة دولية. وكان من اللافت أن الولايات المتحدة بعد انسحابها من الاتفاق شددت على ضرورة التزام إيران ببنود الاتفاق وتحديدا تلك المتعلقة بنشاطات فرق التفتيش الدولية التي تعاين دوريا ما تبقى من المنشآت النووية الإيرانية.
خيارات إيران وأوروبا
تبين ردود الفعل الأولية من إيران أن قرار الرئيس ترامب قد جدد الجدل بين التيارات السياسية المختلفة في إيران، حيث دعا الرئيس روحاني الذي استثمر الكثير في الاتفاق النووي إلى ضرورة بحث خيارات إيران مع الدول الأوروبية والتأكد من بقاء هذه الدول في الاتفاق. ولكن تيار الرئيس روحاني “المعتدل” نسبيا، يواجه الضغوط من تيار المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يميل إلى التشدد، وإلى الانسحاب من الاتفاق، وخاصة إذا لم ينجح الأوروبيون في تشجيع شركاتهم على مواصلة أعمالها في إيران. ويرى روبرت مالي رئيس فريق حل النزاعات الدولية والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي خلال ولاية الرئيس أوباما الثانية، أنه يتوقع بقاء إيران في الاتفاق، على الأقل في المستقبل المنظور، وأن تلعب طهران دور الضحية في التعامل مع الأوروبيين الذين يمكن أن يخففوا من صدمة انسحاب واشنطن من الاتفاق. ويعتقد أن بقاء إيران في الاتفاق سوف يتوقف إلى حد كبير على قدرة فرنسا وألمانيا وبريطانيا في حماية شركاتها من العقوبات الأمريكية التي ستطالها بشكل غير مباشر بسبب علاقتها التجارية مع إيران، وتحديدا تعامل المصارف الأوروبية مع المصارف الإيرانية. ويتساءل مالي، في حوار خاص “هل ستنجح الدول الأوروبية الثلاثة في خلق نظام مناعة لشركاتها يقيها العقوبات الأمريكية؟”. وفي هذا السياق، أشار مالي إلى أن شركات أوروبية عديدة قررت منذ انتخاب ترامب عدم الاستثمار في إيران لكي لا تجازف بخسارة هذه الاستثمارات إذا قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق. ويشير مالي إلى أنه إذا واجهت الشركات الأوروبية أن تختار التعامل التجاري مع إيران، أو تفادي مواجهة مع وزارة الخزينة الأمريكية أو المؤسسات المالية الأمريكية، والتي لا تزال الأكبر والأكثر نفوذا في العالم، فإنها سوف تختار صيانة علاقاتها مع الولايات المتحدة دون تردد. وفوجئ الأوروبيون بالموقف الفظ للسفير الأمريكي الجديد في ألمانيا ريتشارد غرينيل الذي قال في تغريدة عقب خطاب ترامب “وكما قال الرئيس دونالد ترامب، سوف تستهدف العقوبات الأمريكية قطاعات هامة في الاقتصاد الإيراني. وعلى الشركات الألمانية التي تنشط في إيران أن تبدأ بتقليص عملياتها هناك فورا”. هذه العوامل تعني أن فرص صيانة الاتفاق الدولي لن تكون سهلة أو مضمونة، وهذا، كما يقول مالي، أمر يدركه المسؤولون الإيرانيون. ويرى مالي أن إيران إذا انسحبت من الاتفاق سوف تكون حذرة جدا من استئناف برنامجها النووي بشكل شامل وسريع، لأن ذلك سيعرضها إلى ضربات عسكرية إسرائيلية أو إسرائيلية-أمريكية مشتركة. ولكن سوف يكون باستطاعة إيران إعادة تفعيل بعض نواحي برنامجها النووي غير الخطيرة ولكن ببطء شديد ودون استفزاز إسرائيل أو الولايات المتحدة.
رد فعل في غياب استراتيجية واضحة
قرار ترامب لا يعني الانهيار السريع للاتفاق الدولي، ولكنه من المرجح أن يكون بداية نهاية اتفاق تم التوصل إليه بعد أكثر من عشر سنوات من المفاوضات السرية والعلنية الصعبة. قرار ترامب لم يتعارض فقط مع مواقف ورغبات الحلفاء الأوروبيين، ولكن أيضا مع مواقف عدد من القياديين الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب من الذين عارضوا الاتفاق فور التوصل إليه خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما في 2015، ولاحقا عدلوا مواقفهم بسبب التزام إيران بالاتفاق، وتمنوا على الرئيس ترامب مواصلة العمل بالاتفاق، ولكن مع السعي لتطويره واصلاحه. وأبرز ما غاب عن خطاب ترامب، الذي كرر فيه أوصافه السلبية المعروفة والعمومية للاتفاق، هو أي تصور أو استراتيجية واضحة لما يريد أن يحققه لضمان عدم عودة إيران لاستئناف برنامجها النووي أو أجزاء منه، وكيفية مواصلة التعاون مع الحلفاء الأوروبيين بهذا الشأن. كما ليس من الواضح حتى الآن ما الذي يمكن أن يقوم به الرئيس الأمريكي وحلفائه في المنطقة لاحتواء المضاعفات السلبية لقراره الذي تزامن مع تصعيد نوعي في العمليات العسكرية بين القوات الإيرانية والسورية والميليشيات المتعاونة معها وإسرائيل. ويتوقع المراقبون في حال انهيار الاتفاق برمته في الأسابيع والأشهر المقبلة أن ترد إيران على ذلك بطرق غير مباشرة تشمل تويتر الجبهتين السورية واللبنانية مع إسرائيل، أو مهاجمة عناصر أمريكية عسكرية أو مدنيين أمريكيين في الدول العربية التي تنشط فيها ميليشيات تأتمر بأمرها، وتحديدا في سوريا والعراق.
ويقول المسؤول الأمريكي السابق مالي الذي شارك في المفاوضات التي أدت إلى الاتفاق مع إيران إن الوضع المتوتر أصلا في الشرق الأوسط سوف يزداد توترا بعد الانسحاب من الاتفاق، حيث سيرى المتشددون في إيران أن واشنطن وحلفائها في المنطقة سيحاولون تضييق الخناق ضد النظام. ويضيف “بين عقلية الحصار التي يشعر بها قادة إيران، والتشجع الذي يشعر به قادة السعودية بعد الانسحاب الأمريكي، سوف تزداد حدة التوتر في المنطقة بكاملها،” وليس فقط في سوريا ومحيطها. ويشير مالي إلى أن تعيين مايك بومبيو وزيرا للخارجية، وجون بولتون مستشارا لشؤون الأمن القومي، وهما معروفان بمعارضتهما القوية للاتفاق النووي (بولتون يدعو منذ سنوات إلى تغيير النظام الإسلامي في طهران) خلفا لريكس تيلرسون وأيتش آر ماكماستر اللذان أيدا بقاء واشنطن في الاتفاق، عزز من مخاوف إيران من أن واشنطن تسير على طريق المواجهة معها. وبعكس الانتقادات الأوروبية لقرار ترامب وتذكيره بأن قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي وافق عليه المجلس بالإجماع “لا يزال الاطار الدولي القانوني والملزم لحل أي نزاع بشأن البرنامج النووي الإيراني”، أيدت السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل قرار الرئيس ترامب ورحبت به وكررت انتقاداتها للاتفاق ولسلوك إيران الإقليمي.
عدم وجود استراتيجية واضحة ومتماسكة لاحتواء وردع إيران (كيف يمكن التصدي لنفوذ إيران الإقليمي السلبي إذا أصر الرئيس ترامب على سبيل المثال سحب القوات الأمريكية المرابطة في شمال شرق سوريا؟) لا يتضارب مع رغبة واشنطن وحلفائها في المنطقة بزيادة عزلة النظام الإسلامي وتأليب شعبه ضده. والإصرار الأمريكي على فرض عقوبات اقتصادية شاملة تغطي قطاعات الطيران (ستؤدي إلى إلغاء عقود إيرانية لشراء عشرات الطائرات المدنية تزيد قيمتها عن 16 مليار دولار) والمواصلات والطاقة والمؤسسات المالية وغيرها، واحتمال فرض عقوبات من الدرجة الثانية على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، فسره بعض المراقبين بأن واشنطن تسعى إلى زعزعة النظام الإسلامي على خلفية الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد واستمرار التظاهرات الاحتجاجية. خلال الحملة الانتخابية اعتمد ترامب موقفا قاسيا وعدائيا ضد إيران، ومن المؤكد أن رفضه للاتفاق النووي يعود لرغبته إلغاء أو نقض جميع قرارات أو إنجازات سلفه الرئيس أوباما، خاصة وأن الاتفاق النووي هو أبرز إنجاز في مجال السياسة الخارجية خلال ولايتي الرئيس أوباما. ولكن في نفس الوقت كان ترامب يشدد على رفضه التورط في أي نزاع عسكري جديد في المنطقة، وخاصة إذا تضمن احتمال تورط الولايات المتحدة في نزاع بري طويل الأمد ومكلف ماليا وبشريا، وهذا كان في جوهر انتقاداته المستمرة لغزو العراق. يبدو أن ترامب لا يريد التورط في نزاع عسكري مباشر مع إيران، وتشترك معه في هذا التوجه وزارة الدفاع (وزير الدفاع جيمس ماتيس نصح ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق) وكذلك هيئة الأركان العسكرية المشتركة. ولكن ذلك لا يعني أن الاشتباكات العسكرية في سوريا ومحيطها لن تتطور إلى مواجهات أوسع وعمليات عسكرية كبيرة قد تبقى، أو لا تبقى، دون حرب مدمرة، حتى ولو لم ترغب القيادات السياسية بذلك. ما هو واضح من مواقف الإسرائيليين الذين يصرون على أنهم لن يسمحوا لإيران وحزب الله ببناء بنية تحتية عسكرية مصممة لوجود عسكري طويل الأمد في سوريا، وما تقوم به إيران وحزب الله على الارض، يشير إلى أن احتمالات مواجهة إسرائيلية مع القوات الإيرانية في سوريا وحزب الله على الجبهتين اللبنانية والسورية هي احتمالات عالية وإن لا تزال غير حتمية. ما هو واضح أيضا أن إسرائيل، وكذلك إيران وحزب الله، تدرك أن ثمن الحرب المقبلة سيكون مكلفا للغاية وغير مسبوق وقد يغير من موازين القوى في المنطقة بشكل لا يمكن التنبؤ به. تردد ترامب وحكومته في التورط في حرب برية جديدة في الشرق الأوسط، لا يعني أن هناك أطرافا إقليمية لا تسعى أو على الأقل لا تتمنى أن تنزلق الولايات المتحدة دون سابق تصميم إلى حرب مع إيران ربما تبقى محصورة بالهجمات الجوية. قرار الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ربما حرره من التزام شخصي، وأعطاه بهجة سريعة لأنه نقض أبرز إنجاز دولي لسلفه أوباما، ولكنه زج دول الشرق الأوسط في مرحلة توتر نوعي جديد وانعدام يقين لا أحد يعلم إلى أين سيقود المنطقة.