كانت مقاطعة قطر بين 2017 و2021 رابع نزاع إقليمي رئيسي في التاريخ الحديث تكون هذه الدولة الخليجية الصغيرة جزءاً منه. حدوث الكثير من الانقطاعات الخطيرة في العلاقات قد يبدو مفاجئاً نظراً لأوجه الشبه الجوهرية التي لا تعد ولا تحصى بين ممالك الخليج. ومع ذلك، واعتباراً من أواخر ثمانينيات القرن الماضي، دفعت أوجه الشبه هذه بالذات الزعيم الفعلي لقطر آنذاك، حمد بن خليفة آل ثاني، للسعي بجدية لجعل دولته الصغيرة، ولكن النامية، مختلفة. إذا كانت عُمان تتميز برزانتها بعيدًا عن الأنظار في المنطقة، فإن قطر تتميز بكونها الدولة الاستعراضية التي ترفض باستمرار الإجماع الخليجي والأمر الواقع. أصبح أسلوب العمل هذا مرادفاً لهوية الدولة ولمفهومها لذاتها. لدى قطر اليوم منطق خاص بها أكثر من أي وقت مضى، وقد تجاوزت المقاطعة بشكل سليم نسبياً. يمكن لقطر، من موقف القوة هذا الذي تشعر به، أن تتخلى عن أساليبها الحديثة التي كانت، حتى الآن، مندفعة وفردية، وتعترف بالواقع الجيوسياسي، وتعمل مع الدول المجاورة لبناء مستقبل مشترك.
مشاحنات مبكرة
كانت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي فترة قاتمة في العلاقات القطرية-السعودية. كان من الواضح أن ولي العهد القطري، حمد بن خليفة، الذي برز بمزيد من الثروة والنفوذ، هو الذي يدير سياسات قطر الجديدة، متجاهلاً القيادة السعودية، ومنطلقاً من نهج مستقل تماماً. وبلغ هذا الأمر ذروته في الجولة الأولى من القضايا. في عام 1992، أدت المناوشات على الحدود القطرية-السعودية المتنازع عليها إلى سقوط ضحايا من الجانبين. واحتدم الأمر مجدداً في عام 1994، حين منعت المملكة العربية السعودية خطة قطرية لبناء خط أنابيب غاز إلى الكويت. وتجاهلت قطر محاولات مماثلة لمنع بناء خط أنابيب إلى الإمارات العربية المتحدة. بعد أن استولى حمد على السلطة من والده في عام 1995، كانت هنالك مزاعم بأن السعودية والإمارات قد دعمتا محاولة انقلاب مضاد واحدة على الأقل في عام 1996.
أخذت قطر تبذل جهوداً مضاعفة. فظهرت قناة الجزيرة الإخبارية، ومقرها الدوحة، في عام 1996 وكانت بمثابة موسم مفتوح لتغطية وانتقاد القيادة السعودية، وهي المرة الأولى التي تتعرض فيها النخبة في المملكة للتغطية لفترة طويلة بمثل هذا العمق المبتذل من قبل وسائل الإعلام التلفزيونية الشهيرة. كما حسنت قطر – ولو ظاهرياً على الأقل- من علاقاتها مع إيران وإسرائيل، وكلتاهما من السياسات المحرمة بشدة آنذاك. أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت في عام 2002، وأعقبتها جولة ثانية من المشاكل. في برنامج الجزيرة الحواري الأكثر إثارة للجدل “الاتجاه المعاكس”، تهجم سعودي في المنفى موبخًا خطة الملك عبد الله بن عبد العزيز للسلام، ووصفها بـ “خيانة للقضية الفلسطينية”. وفي خطوة غير مسبوقة، سحبت السعودية سفيرها.
مع اقتراب عام 2007 من نهايته، توصلت قطر والسعودية إلى تسوية. وافقت قطر على ممارسة المزيد من الرقابة على برامج قناة الجزيرة، والتخفيف من حدة تغطيتها للسعودية على وجه الخصوص مقابل استئناف العلاقات الدبلوماسية. وظهر الشعور، في ذلك الوقت على الأقل، بأن القادة السعوديين قد اعتادوا أخيراً، أو على الأقل تصالحوا مع سياسات قطر المنشقة ووسائل الإعلام الصاخبة.
مشاجرات ما بعد الربيع العربي
حدث الانقطاع الثالث في العلاقات عام 2014، بعد أشهر قليلة من تولي تميم بن حمد آل ثاني منصب الأمير. ومع انتشار الثورات في جميع أنحاء المنطقة وسقوط الأنظمة المستبدة، الجاثمة منذ عدة عقود، جراء احتجاجات واسعة النطاق، أصبح الشرق الأوسط محموماً. وانخرطت قطر – التي اعتادت أن تكون على النقيض من الممالك الخليجية الأخرى- بشدة في هذا المزيج. عملت قطر بشكل ثابت على دعم الجماعات ذات الطيف الإسلامي، الساعية للإطاحة بالوضع القائم. وقد أثار هذا النهج غضب ممالك الخليج الأخرى، ولا سيما السعودية والإمارات والبحرين. حيث فضلت هذه الدول أن تدعم قوى الوضع القائم، وكانت لديها مخاوف، بدرجات متفاوتة، من أن تأجيج قطر للحماسة الثورية لا يزعزع استقرار المنطقة على نطاق أوسع فحسب، بل قد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إثارة الاضطرابات في دولهم نفسها.
كان يبدو أن قادة قطر قد تغافلوا هذه المخاوف وأساءوا قراءة مدى سخط جيرانهم الخليجيين. وفي خطوة غير مسبوقة أُخرى في ذلك الوقت، سحبت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة. وكان لاحتمال اتخاذ مثل هذه الخطوة الدراماتيكية أن يهز قادة قطر. لكن سرعان ما تبين أن السعودية كانت أساساً تتوسط بين قطر والإمارات، وتم استئناف العلاقات قبل قمة مجلس التعاون الخليجي في نهاية العام، وتم التوقيع في الرياض على الاتفاقيات التي تعهدت، من بين أمور أخرى، باحترام أمن وسيادة كل منهما للآخر.
أما الانقطاع الرابع والأكثر خطورة فقد حدث في عام 2017 مع مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر لقطر، وتمت تسويتها الآن فقط.
هنالك ما يبرر استهداف قطر المستمر من قبل جيرانها. فقد انخرطت منذ فترة طويلة في سلسلة من السياسات التي تتحدى المعايير وتتعارض مع طموحات المنطقة. وعلى النقيض من عُمان، لم يحصل أبداً أن قامت قطر بفعل هذه الأشياء بشكل هادئ. علاوة على ذلك، فقد اتبعت قطر هذه السياسات مراراً وتكراراً ضد الرغبات الصريحة لجيرانها. وكدولة ذات سيادة، لقطر كل الحق في القيام بذلك. ولكن جميع الدول بحاجة للاهتمام بشكل من أشكال الجاذبية الجيوسياسية. لماذا أصرت قطر على اتباع سياسات غالباً ما يكون لها مثل هذه التداعيات السلبية على علاقاتها مع أقرب جيرانها؟
الهوية والحسابات الخاطئة
على ضوء التجانس الواسع في التجربة التاريخية بينها وبين جيرانها الخليجيين، إلى جانب التركيبة المجتمعية والنموذج الاقتصادي والخلفية القبلية، أرادت القيادة القطرية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي أن تقيم مكانة فريدة للدولة. في منطقة يسودها التنافس الشديد بين المدن المماثلة المستقلة ذاتياً في المنطقة مثل المنامة ودبي وأبوظبي، كانت قطر بحاجة إلى نقاط قوة فريدة. وقد ساهمت سلسلة من الأحداث الرياضية وجهود الوساطة والمناورات الثقافية برعاية حكام قطر في تحقيق هذه الغاية. كما أن الهوية مهمةٌ أيضاً بالنسبة للسكان المحليين. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان قد مضى على استقلال قطر فترة تقل عن العقدين، كانت خلالها الدولة تتحاشى سوء السمعة بشكل فعال. وكان أحد السبل لتمييز نفسها كطرف إقليمي هو المساهمة في تشكيل هوية وطنية ناشئة، أو علامة وطنية، من شأنها أن تصل إلى الكثير من الجماهير وتساعد القادة القطريين على تعزيز شرعيتهم.
بمجرد تحديد المسار، عمل حمد على إدارة البلاد بعدد قليل من الحلفاء الرئيسيين، مثل وزير خارجيته لمدة طويلة (ورئيس الوزراء لاحقًا)، حمد بن جاسم آل ثاني لمدة ربع قرن أخرى. لم يغيروا من آرائهم، وبدلاً من ذلك، كان لدى الدولة تدفق من السيولة النقدية كأرباح من الغاز الطبيعي المسال تراكمت في العقد الأول من هذا القرن، لدرجة أنه أصبح لدى الدولة أموال أكثر مما تستطيع أن تنفق بشكل معقول في اقتصادها المحلي (خشية تصاعد الارتفاع في التضخم المالي)، وهو ما شجع المزيد من التدخلات الخارجية من حيث الوساطة والاستثمار. وزد على ذلك، ومثلها في هذا مثل الممالك الأخرى، فقد استفادت قطر من إنشاء قواعد للولايات المتحدة في المنطقة، حيث استضافت مركز القيادة والتحكم للقيادة المركزية الأمريكية.
ونظراً لكون ثروتها الهائلة وقراراتها غير مثقلة بتكاليف الفرص المالية ولا بعدد سكانها الصغير والمتجانس والقانع، وتُشجعها الضمانات الأمنية من الولايات المتحدة، فقد شعر القادة القطريون بالتأقلم التدريجي مع التداعيات المحتملة. وليس من المدهش، أن السعي الحثيث المعتاد للسياسات القطرية المستقلة أصبح ضمن أسلوب عمل الدوحة، متغافلةً الاحتجاجات الإقليمية. وفي الوقت نفسه، كانت قطر مزدهرة، ونجحت الدولة الصغيرة في تكوين سمعة لنفسها كدولة صغيرة مشاكسة ومستقلة.
ماذا الآن؟
اليوم، تشعر القيادة القطرية بأنه كان لديها ما يبرر النزاع الذي تمت تسويته مؤخراً. لا يوجد دليل على أي تنازل من قِبل الدوحة، ويبدو أن المطالب الأساسية للرباعية التي كانت تقاطع قطر قد تم التغاضي عنها لصالح القضايا الإقليمية. وعلاوة على ذلك، فإن أحد الآثار الرئيسية للمقاطعة كان تعزيز القومية القطرية. وانطلاقاً من موقف القوة هذا، ينبغي أن تكون قطر قادرة على الدخول مجدداً إلى الزخم الخليجي.
لا تحتاج قطر لأن تصبح دولة تتبع سياسات السعودية أو الإمارات. ولكنها بحاجة فعلية لأن تتذكر أنها، مثلها مثل جميع الدول، أسيرة موقعها الجغرافي. كان التنوع الواسع في علاقات قطر الدولية، بما في ذلك اعتمادها الكبير على تحالفها مع تركيا، جزءاً مهماً من أسباب صمودها خلال المقاطعة الأخيرة. بعد هذا التمزق المفاجئ، لا يمكن لأي زعيم قطري أن يتخلى عن علاقة مهمة مثل تلك التي تربطه بتركيا على المدى القصير. ومع ذلك، ولاعتبارات بعيدة المدى، تحتاج قطر، بصورة جوهري، التصالح مع أقرب جيرانها. هنالك حقيقة راسخة، وهي أنه على الرغم من أهمية الحلفاء من خارج المنطقة مثل تركيا أو الولايات المتحدة، إلا أن مثل هذه العلاقات هي في الأساس علاقات عابرة. لذلك، فإنه قد حان الوقت لقطر، الحائزة على الثقة حديثاً، لكي تعيد تركيز جهودها على نهج أكثر تصالحية يقوم على الإجماع للعمل مع جيرانها الخليجيين.