هذا المقال هو الثاني في سلسلة من مقالات صادرة عن باحثي معهد دول الخليج العربية في واشنطن حول “رؤية السعودية 2030” التي تكمن في مجموعة واسعة من البرامج والإصلاحات التي اعتمدتها الحكومة السعودية بهدف تنفيذها بحلول عام 2030.
في 25 نيسان/أبريل، أعلن وليّ وليّ العهد السعودي الشاب، وزير الدفاع، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية محمد بن سلمان بجراءة لجمهور سعودي محليّ عن “رؤية السعودية 2030″، وهي عبارة عن خطط ستتّبعها الحكومة من أجل مستقبل من دون نفط. وبذلك، عرض الأمير معالم ممكلة عربية سعودية جديدة، ودعا الجيل القادم إلى قبول التحدي والمباشرة بالعمل.
في 2011، أشار مدوّن شابّ ساخر إلى أنّ متوسّط عمر الوزراء الذين يحكمون المملكة 65 عامًا، بينما متوسّط عمر الشعب السعودي 19 عامًا. إلّا أنّ تولّي الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم، إلى جانب ظهور ابنه المتزايد وتشكيل حكومة تضمّ وزراء أصغر سنًّا وعددًا أكبر من التكنوقراط أدّى إلى تغيّر ملموس في الأجيال والتوجهات. وكان مضمون “رؤية السعودية 2030” وطريقة الإعلان عنها حدثًا لا سابق له، إذ أعلن أمير شابّ عن توجّه سياسي واضح في خلال مقابلة على قناة تلفزيونية سعودية.
وأضفى الطابع المباشر الذي اتّسمت به إجابات محمد بن سلمان وتشديده على الشفافية والتقييمات الدورية لأداء الحكومة على المملكة هالةً جديدة من الأعمال والمحاسبة صُمّمت لتلقى صدًى لدى الشباب السعودي الذي ربي في جوّ من التواصل المفتوح خلقته وسائل التواصل الاجتماعي. إلّا أنّ التحوّل المنشود وفقًا للعناوين المقترحة في “رؤية السعودية 2030” سيتطلّب من السعوديين الكثير الكثير، فهل سيقنعهم ما يُعرض عليهم؟
مظهر “رؤية السعودية 2030” الجديد
لا شكّ في الطموح الذي تمثّله “رؤية السعودية 2030”. فعلى المستوى الاقتصادي، تركزّ الرؤية على التوسع السريع في صندوق الاستثمارات العامة وهو صندوق الثروة السيادية الصغير الخاص بالمملكة العربية السعودية، لاستخدامه كمحفّز لاستثمارات محلية ودولية أكبر. وسيتم تأمين موارد الصندوق في البداية عبر طرح أقلّ من 5 في المئة من أسهم شركة النفط الوطنية السعودية “أرامكو” للبيع علنًا، وعبر تحويل ملكية أراضٍ حضرية عامة تملكها الدولة لاستخدامها في مشاريع تنموية واسعة النطاق. وسترتكز الاستراتيجية الاستثمارية على امتيازات المملكة كونها مركزًا للتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، ومحورًا للتجارة يقع جغرافيًّا عند تقاطع ثلاث قارات مختلفة. وتشكّل الاجتماعات الأخيرة في مصر التي نجم عنها إعادة جزيرتين إلى المملكة ومناقشة بناء جسر بين البلدين إشارةً إلى الاستثمارات الهائلة التي ستسمح بتحقيق قنوات التجارة والنفوذ هذه.
ومع أنّه سبق وتمّ اللجوء إلى هذا النموذج الذي يجعل من دولة مستثمرًا ومطوّرًا عقاريًّا في منطقة الخليج وفي دبي بشكل خاص، يُعدّ استخدامه على نطاق كهذا جديدًا في المملكة التي اتّبعت حتى الآن سياسات محافظة أكثر. فحتى العقد المنصرم، لم تتمتّع المملكة بفائض الدخل الوفير الذي حصلت عليه بعض الدول الخليجية الأصغر منها، وركّزت احتياطاتها الأجنبية على الاستثمارات المضمونة، وبالدرجة الأولى سندات الخزانة الأمريكية. وتَجسّد التضاربُ بين الرؤية الجريئة والتحفظ التقليدي بوضوح في الحوار المتبادل الذي أجري على قناة “العربية” السعودية بين الأمير الشاب والصحفي المخضرم تركي الدخيل.
فبدأ الدخيل المقابلة بطرح إرث الموارد النفطية العام في المملكة والاكتتاب العام المثير للجدل لشركة “أرامكو” سائلًا: “إذاً يعني ذلك أنكم لن تعتدوا على مقدس؟” فأجابه محمد بن سلمان معارضًا بشدّة هذا التوجّه الفكري ومشدّدًا على حاجة المملكة إلى تجاوز “حالة الإدمان النفطية” هذه. ثمّ أشار الأمير بالتحديد إلى أنّ جيل جدّه أسّس البلاد وتحدّى الاستعمار البريطاني من دون نفط “برجال موجودين”. وحاول مرارًا حثّ الدخيل – وحثّ المشاهدين السعوديين من خلاله – على اعتبار النفط استثمارًا – أي موردًا للعمل لا مصدر تعويل. وفي حين أعاد الدخيل أكثر من مرّة ذكر المشاكل المعيشية التي يواجهها السعوديون – أي إلغاء الإعانات والوظائف الحكومية والحاجة إلى الإسكان – تطرّق محمد بن سلمان إلى الرؤية الأوسع قائلًا إنّ “ المشاكل التي تواجهنا، طموحنا سوف يبتلعها”.
“رؤية السعودية 2030” والشباب
يشكّل هذا الطموح بحدّ ذاته أساس اجتذاب “رؤية السعودية 2030” وأيضًا الأمير الشاب نفسه للشباب، إذ يشير البرنامج إلى أهمية الوطن السعودي وقوّته المحتملة فضلًا عن واجب السعوديين بالمساهمة في تحقيق ذلك. وفي التنويه إلى المملكة العربية السعودية بأنها مركزٌ للحضارتين العربية والإسلامية وقوّة اجتذاب للاستثمارات العالمية وحاضنة لمدن معروفة عالميًّا التماسٌ للعزّ الوطني وطموحات الشباب.
لذلك يُعتبر الشباب السعودي مؤيدًا طبيعيًّا لبرنامج التحول الذي يقوده محمد بن سلمان، ومن غير المفاجئ أنّه تمّ بذل جهودٍ متضافرة للتواصل معه. فحضرت شخصيات بارزة على مواقع التواصل الاجتماعي من الشباب حدثَ الإعلان عن الخطة في حين تم توظيف آخرين لشغل مناصب ضمن فريق المرحلة الانتقالية. وتعمل وزارة الثقافة والإعلام تحت إدارة الصحفي الليبرالي الشاب عادل الطريفي الجديدة على استمالة مجموعات ترفيهية تعمل على الإنترنت تُعتبر ذات شعبية على مستوى الشباب السعودي.
ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح إذا ما كانت هذه الرؤية ستلبّي الحاجة الرئيسية بالنسبة للسعوديين وهي العمل. ففي حين أصبحت التخفيضات على مستوى الإعانات الحكومية والتوظيف الحكومي أمرًا أكيدًا، ليس النموّ المتوقع على صعيد فرص العمل في القطاع الخاص كذلك، إذ من غير المرجّح توظيف عدد كبير من السعوديين في القطاعين الأساسيين المستهدفين في خطة الإنماء وهما قطاعا التعدين والصناعة العسكرية. فضلًا عن ذلك، توظّف مشاريعُ البنى التحتية الكبرى عمال أجانب في معظم الأحيان، وبالرغم من تعهدات الحكومة بالاستمرار في توسيع هذه المشاريع، تشير بعض الأدلة إلى أنّ بعض المتعاقدين مع الدولة يواجهون مشاكل في تدفق الأموال. إذ واجهت مؤخرًا “مجموعة بن لادن السعودية”، وهي إحدى أكبر مجموعات شركات مقاولات في المملكة، احتجاجات غاضبة قادها عمال ينتظرون أجورهم المستحقة بعدما أنهيت خدمات 77 ألف موظف أي ما يوازي نصف القوى العاملة في المجموعة تقريبًا. وبينما قد يكون من شأن خطة تقديم إقامات دائمة لبعض الأجانب تمكّن حاملها من التملك والقيام بنشاطات تجارية تشجيع الاستثمار، قد تعيق هذه الخطة توسيعَ الإطار الخاص بالسعوديين المحترفين في مكان العمل.
ويبدو أنّ هذه الرؤية تعوّض عن التراجع في الدعم الحكومي للجيل القادم مع تقديم وعود بتحول اجتماعي-اقتصادي أوسع سيفتح مجالات جديدة للمشاركة في الاقتصاد والحياة العامة. فيدعو تطوير السياحة المحلية السعوديين إلى اكتشاف بلادهم وتاريخها. ويفتح توسيع المنظمات غير الحكومية والتطوع المجالَ المحدود الذي يتمتع به المجتمع المدني. فضلًا عن ذلك، تستجيب تنمية الترفيه والثقافة إلى إحدى الشكاوى الأساسية التي يعاني منها الشباب السعودي وهي الملل. ويَفترض ذلك كلّه فكّ القيود التي تعيق التفاعل الاجتماعي والمشاركة العالمية. وسيعني أيضًا إلغاء بعض السياسات الخاصة بالأمن التي صدرت في خلال السنوات الخمس الماضية والتي وضعت حدًّا لعدة مبادرات اجتماعية مستقلة وأقفلت أماكن تجمع يراودها الناشطون الشباب. وقد تسهّل المنافذ الجديدة الاتصالات التي تغذي الاقتصادات الخلاقة التي يقدّرها كثير من السعوديين الملمين بالتكنولوجيا.
وتوحي بعض المؤشرات بأنّ التغييرات قد تكون قريبة. فتحت حكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، سُمح للمرأة بالعمل في مجالي التجزئة والضيافة والحصول على شهادة لممارسة مهنة المحاماة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2015، أصدر مجلس الوزراء قانونًا جديدًا للمؤسسات والمنظمات المدنية. وفُرضت القيود التي طالت مناقشتها على صلاحيات الشرطة الدينية السعودية في شهر نيسان/أبريل. ومع ذلك، لا يجوز أن يقلل أحد من شأن التحدي الذي يشكله تحقيق انفتاح مجتمع تحرسه بصرامة وبالتوازي حكومة سلطوية تحافظ على السيطرة من جهة، وحركات دينية تحمي بحرص تأثيرها في تعليم الشباب وتنشئتهم الاجتماعية.
ردّة الفعل الإسلامية إزاء “رؤية السعودية 2030”
توحي “رؤية السعودية 2030” والمقابلة التي أجريت مع محمد بن سلمان بتغييرات تهدد المركز المتميز الذي تتمع به المؤسسة الدينية في الحكومة والحركات الدينية في المجتمع. ويمثّل القطاع التعليمي معقلًا للإسلاميين قد لا يتم التنازل عنه من دون التضحية بقوة اقتصادية ونفوذ سياسي ملحوظين. وتمت معارضة الجهود السابقة الساعية إلى تغيير المنهج بشدة، ومن المرجّح أن تلقى الاقتراحات الحالية الداعية إلى الامتثال بمتطلبات الاقتصاد عبر تقليص التعليم الديني المقاومةَ نفسها. وقد يُرحَّب بتشديد “رؤية 2030” على السياحة الدينية، إلّا أنّ اقتراح وليّ وليّ العهد تطوير المعالم التاريخية التي تسبق التاريخ الإسلامي والثقافة العربية يتعدّى بأشواط العقيدة التي تفرضها الحركة التوحيدية السلفية السعودية. وبشكل عام، يهدد انفتاحُ الاقتصاد والحياة الاجتماعية بشكل يتجاوز المجالات الضيقة التي تحددها الجهات الفاعلة الإسلامية هذه تأثيرَها على الجيل القادم وبالتالي مستقبلَها. ومن الأكيد أن تبدي بعض هذه العناصر النافذة عن اعتراض وقد يؤثر ذلك في وتيرة الإصلاحات ومسارها.
وعبّرت مؤسسات الإسلام الرسمي شكليًّا عن دعمها للحكومة، إذ أثنى رئيسا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئة كبار العلماء عن “رؤية السعودية 2030” وتعزيز الملك للتطور بما يتناسب مع المبادئ الثابتة التي بنيت عليها المملكة منذ تأسيسها. ونوّه كلّ منهما بتزايد قوة القيادة السعودية في العالم العربي والإسلامي، ولعلّ هذا الجانب من خطة التنمية مهمّ فعلًا في حشد دعم المحافظين.
وقد استمال الديوان الملكي بعض أبرز “شيوخ” الإعلام، فنشر الواعظ السلفي المحبوب محمد العريفي صورًا للقائه محمد بن سلمان وطلب من الله مباركته لتنجح الخطة. إلّا أنّ تغريدات بعض الناشطين البارزين في الشبكات الإسلامية الأكثر استقلالًا كانت أقلّ صراحة، إذ غرّد أحد القادة المؤثرين وسط الشبكات المتأثرة بـ”جماعة الإخوان المسلمين” نصّ المقابلة مع محمد بن سلمان لكن من دون أيّ تعليق حتى بعد أن نوشدت آراؤه. ولم يتناول آخرون في الشبكات السرورية المنافسة لهذه الشبكات الإعلان على الإطلاق. ومن المعقول أنّ الناشطين الإسلاميين امتعضوا من اعتقال الشيخ المحبوب عبد العزيز الطريفي إثر انتقاده تقييد صلاحيات الشرطة الدينية.
وعبّر الناشطون الإصلاحيون الشباب الذين برزوا في الشبكات الإسلامية عن آرائهم بشكل أكثر علنية وصراحة من المجموعات الاجتماعية الأخرى في مناقشتهم إيجابيات “رؤية السعودية 2030” وسلبياتها على موقع “تويتر”. وأبدى معظمهم عن تفاؤل حذر، مثنين على صراحة محمد بن سلمان ودعواته إلى الشفافية، لكن توقعوا فشل ذلك كلّه من دون محاسبة شعبية تتم عبر برلمان منتخَب ورابطات سياسية وإعلام حرّ ونقابات عمالية.
الشباب والائتلاف من أجل التغيير
نظرًا لأنّ محمد بن سلمان هو الوجه الممثل عن “رؤية السعودية 2030″، بات يدعم الإصلاحات الضرورية في المملكة متحمّلًا مخاطر الفشل السياسية كذلك. وفي بلاد غير بعيدة عن حدود المملكة السعودية ابنُ ملك آخر ربط أصوله بمشروع تحول اقتصادي، إذ استمال وليّ العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد بدوره التكنوقراط وجمهورًا من الشباب في حثّه بشدة على تنفيذ إصلاحات حكومية وتحرير الاقتصاد. ومارس لبعض الوقت مجلس التنمية الاقتصادية التابع للأمير الذي أُسس عام 2000 صلاحيات تتعدى الصلاحيات الوزراية على مستوى عمليات الحكومة التي يقودها عمّه رئيس مجلس الوزراء. وبينما نجم عن البرنامج نجاحات ملحوظة في جذب الاستثمارات الأجنبية وإصلاح سوق العمل، لم يتمكّن من الحفاظ على اندفاعه في وجه المقاومة البيروقراطية وفي النهاية الاضطراب السياسي. وفي حين تختلف التحديات التي تواجهها المملكة العربية السعودية عن تلك التي تواجهها البحرين، قد يتوقف النجاح النسبي لمشروع الإصلاح هو الآخر في نهاية المطاف على قوة الائتلاف من أجل التغيير وبراعة داعميه السياسية. وإن مُنح الشعب السعودي الشاب مجالًا للمساهمة والوسائل للازدهار، ستتمكّن المملكة من المساهمة والازدهار كذلك.