لقد أعلنت سلطات حكومة إقليم كردستان في العراق عن نتائج تصويت هائلة ومتوقعة بـ”نعم”، بنسبة تفوق 90 بالمئة، في الاستفتاء غير الملزم حول استقلال كردستان الذي عقد في 25 أيلول/سبتمبر. وكان لجيران حكومة إقليم كردستان -العراق وتركيا وإيران (التي لديها عدد كبير من السكان الأكراد)– ردة فعل فورية غاضبة، وأعربت الولايات المتحدة عن رفضها الشديد، بينما أشادت إسرائيل بالتصويت وأيدت الدولة الكردية. أما ردود معظم دول الخليج العربية فكانت أكثر تباينًا، نتيجة لمصالحها المختلفة في إقليم كردستان، وما يمكن أن يؤدي إليه التصويت والاستقلال الكردستاني المحتمل، من نتائج إيجابية أو سلبية، من وجهة نظرهم.
وبصورة عامة، فإن العديد من دول الخليج العربية، وخاصة السعودية والإمارات العربية المتحدة، ترى في إقليم كردستان مقدمة لتوسيع الكتلة السنية المؤيدة للعرب في الشرق الأوسط، وتعزيز موقف العرب السنة في أجزاء أخرى من العراق، وإحباط إيران في عدد من الجبهات، وإيجاد نفوذ إضافي في تركيا. ومن ضمن مخاوفهم الرئيسية احتمال اندلاع الصراع، والتفكك المحتمل الخارج عن السيطرة في العراق، وأزمة في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو أن تقود القضية الكردية، بشكل أو بآخر، إلى أن تصب في مصلحة إيران وعملائها في العراق.
لقد اتضح هذا التناقض في ردة فعل دول الخليج العربية خلال الفترة التي سبقت الاستفتاء. وكان هناك تأييد قوي في وسائل الإعلام التقليدية والتواصل الاجتماعي السعودية والإماراتية للتصويت، ولكن الحكومتين أعربتا رسميًّا عن قلقهما إزاء سلامة الأراضي العراقية وحاجتها للاستقرار. كما نصحت البحرين القادة الأكراد بعدم التسرع في التصويت على الاستقلال الذي قد يزعزع استقرار العراق. وكانت الكويت أكثر صراحة في التأكيد على أن مصلحتها الأساسية تتمثل في استمرار وحدة العراق واستقلاله، ولم تعرب عُمان عن موقفها العام، واتخذت قطر أقوى موقف معارض في الخليج للاستفتاء الكردي، معربة عن “قلقها الشديد” من أن يشكل الاستفتاء “تهديدًا لوحدة العراق وأمن واستقرار المنطقة”.
علاقات دول الخليج بحكومة إقليم كردستان
تعتبر العلاقات الدبلوماسية بين دول الخليج العربية وحكومة إقليم كردستان محدودة، حيث كان على دول الخليج العربية أن توازن بين بناء العلاقات مع الأكراد والحفاظ على علاقاتها ومصالحها مع الدولة العراقية الأوسع. وتتمتع دولة الإمارات العربية المتحدة بأقوى الروابط الدبلوماسية والسياسية مع العاصمة الكردية في أربيل، حيث أنشأت قنصلية عامة لها هناك في وقت مبكر من عام 2012. وتبعتها الكويت عام 2015، ثم المملكة العربية السعودية عام 2016، لرفع مستوى العلاقات القائمة على الرغم من معارضة إيران. لقد زار مسعود بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان عددًا من دول الخليج في عام 2015، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد منحت حكومة إقليم كردستان المواطنين الإماراتيين والقطريين والكويتيين حق الدخول دون تأشيرة في عام 2014، ولكن لا يوجد لعُمان والبحرين وقطر تمثيل رفيع المستوى في حكومة إقليم كردستان. ولدى العديد من دول الخليج استثمارات كبيرة في إقليم كردستان، وخاصة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية بدرجة أقل. في أوائل عام 2014، ارتفع العراق إلى المركز السابع بين شركاء دولة الإمارات العربية المتحدة في التجارة، حيث تتركز معظم الاستثمارات الإماراتية في العراق في إقليم كردستان، وتم تسجيل 130 شركة إماراتية في مجال الأعمال التجارية هناك. كما كانت للكويت استثمارات ضخمة ومبكرة في إقليم كردستان، بالرغم من أن معظم وجودها في العراق يميل إلى التمركز في الجنوب، ولكن المخاوف الدبلوماسية والسياسية لدول الخليج في شمال العراق تفوق الآن أي مصالح تجارية، مهما كانت كبيرة.
ربما تكون مبررات مصالح الكويت في إقليم كردستان هي الأكثر وضوحا. وكما هو الحال مع موقف الكويت من بقية العراق، فإن علاقاتها مع أربيل ينظر إليها بشكل أساسي من خلال منظورها للغزو العراقي واحتلال الكويت عام 1990، والإصرار على تجنب أي تكرار لمثل هذا السيناريو. ولذلك، لطالما حافظت الكويت على اهتمامها بإقامة علاقات طيبة مع القادة العراقيين، وخاصة بقدر ما يمثلون من دوائر انتخابية قومية إقليمية طائفية أو عرقية، وأهمها التي هي في جنوب البلاد بالقرب من الحدود الكويتية. إن التفكك الكلي العنيف المحتمل للعراق يشكل نفس التهديد بالفوضى للكويت وجميع جيرانها. ومع ذلك، فإن اهتمام الكويت بتشجيع عراق أكثر تفككًا وأقل توحدًا تتمتع فيه السلطات الإقليمية بسلطة كبيرة -ما يقلل من إمكانية انبعاث جارةٍ ساحقةٍ متكاملة، وربما عدوانية، إلى الشمال منها- بالتأكيد يسبق من حيث التاريخ دول الخليج العربية الأخرى.
الدور الإقليمي الاستراتيجي لحكومة إقليم كردستان
بدأت، في الآونة الأخيرة، السعودية والإمارات العربية المتحدة أيضًا ترى منافع إستراتيجية وسياسية في بروز الأكراد نوعًا ما –واحتمال وصولهم لدرجة دولة مستقلة- ولكن بالتأكيد يشمل ذلك الحكم الذاتي في حده الأقصى في عراق اتحادي. ولا تزال الوحدة الوطنية العراقية وسلامة أراضيه، على الأقل بأحسن أشكالها الرسمية والاعتبارية، تمثل قيمًا هامة لهذه البلدان. إن التفكك الرسمي النهائي للعراق من خلال إقامة دولة كردية مستقلة، لن يكون على الأرجح قضية سلمية، ما لم يتم التفاوض عليه بشكل ودي بين أربيل وبغداد، ويمكن أن يشرع في صراع دموي طويل، يزعزع الاستقرار، ولا يخدم مصالح الرياض وأبوظبي. وعلاوة على ذلك، فإن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هما جوهريًّا قوى شرق أوسطية ممن تفضل استمرار الأوضاع الراهنة، وبشكل عام على أقل تقدير، من المرجح ألا ترحبا بالكثير من التغيير في إعادة رسم الخريطة السياسية القائمة حاليًّا.
ومع ذلك، فقد أصبح تعزيز حكومة إقليم كردستان تحديدًا، والموقف الكردي في العراق بشكل عام، مصلحة استراتيجية قوية للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وتعتبر حكومة إقليم كردستان الآن إضافة جديدة هامة إلى كتلة المسلمين السنة التي تواجه صعوبات في الشرق الأوسط، حتى وإن كانت علاقاتها مع تركيا وبعض الأعضاء الآخرين المحتملين المهمين في هذا المعسكر متوترة بشكل خاص في ظل هذه الظروف. ولم يعد بالإمكان مقاومة الفكرة القائلة بأن حكومة إقليم كردستان المتمكنة تعتبر عقبة كبيرة أمام المصالح الإيرانية. على الأقل، ستكون حكومة إقليم كردستان على مسافة جغرافية متساوية بين طهران والرياض، وعلى أقل تقدير سيكون ميولها نحو الأخيرة. وفي أقصى حد، يمكن لدول الخليج العربية أن تقيم علاقة استراتيجية مع أربيل تبرز فيها حكومة إقليم كردستان كعضو كامل العضوية أو ملحقة لمجموعات فاعلة في الشرق الأوسط من الذين يعارضون إيران بشكل فعال.
ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة لأن إقليم كردستان يمكن أن يكون عائقًا كبيرًا أمام تطوير وصيانة “جسر بري” من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان يوصل طهران مع كل من عملائها في تلك البلدان، والبحر الأبيض المتوسط بموقعه الاستراتيجي الحاسم. إن مثل هذا الجسر البري، إذا تم تعزيزه تحت السيطرة الكاملة لإيران ووكلائها، سيغير بشكل دراماتيكي المعادلة الإستراتيجية للشرق الأوسط. ونظرًا لنجاح القوات الموالية للرئيس بشار الأسد وإيران في سوريا، وخاصة بعد سقوط حلب، فإن الحؤول دون قيام هذا الجسر البري هو أحد الأهداف الرئيسية لخصوم إيران في الشرق الأوسط.
الدور السياسي والإستراتيجي لحكومة إقليم كردستان في العراق
سيحرز هذا الهدف المزيد من التقدم إذا تمكنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وغيرهما من المساعدة في تعزيز علاقات أفضل بين أربيل والقيادة العربية السنية في غرب العراق (الذي ستشكل أراضيه الطريق الوحيد البديل من إيران إلى سوريا). وهناك علاقات قوية تختمر منذ عدة سنوات، حيث إن القادة السياسيين العرب السنيين العراقيين الذين اضطروا للفرار من الميليشيات الشيعية أو الحكومة أو داعش لجأ معظمهم إلى أربيل. وعلاوة على ذلك، فإن المملكة العربية السعودية عملت على تعزيز علاقاتها ليس فقط مع حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي في بغداد، وإنما أيضًا مع الزعماء السياسيين والقبليين السنة في غرب العراق. إن الترتيب مع هذه القوى، خاصة في فترة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب التوجه نحو أربيل، سيحقق الكثير لتحديد توازن القوى داخل العراق.
قطر، وإيران، وتركيا
قد تكون قطر شاركت، قبل عام، العديد من وجهات النظر هذه. ومع ذلك، ونظرًا للمواجهة بين الدوحة واللجنة الرباعية للدول المعارضة لسياسات قطر، فإن الموقف القطري يزداد حساسية من مخاوف إيران التي تدعم الدوحة بشكل هادئ، وتركيا بشكل خاص، التي هي الحليف الإقليمي الرئيسي لدولة قطر، ولهذا تأتي تحذيرات قطر القوية غير المعهودة ضد الاستفتاء الكردي. ومع ذلك، فتركيا لم تُصدم من الاستفتاء. وهي تتعايش مع “القضية الكردية” منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية. وكذلك غضب العراقيون العرب، ولكنهم لم يُصدموا أيضًا بمشاهدة الاستقلال الكردي على الأرض في المناطق التي تم حظر الطيران العراقي فوقها منذ عام 1991، وتداعيات الغزو الأميركي عام 2003.
ومع ذلك فإن إيران قد شعرت بالقلق والصدمة، ليس فقط من خلال التداعيات الاستراتيجية للسلطة الكردية في شمال العراق، وإنما أيضًا بسبب التنامي المفاجئ لمظاهر القومية الكردية غير المسبوقة داخل إيران (التي لديها أعداد من السكان الأكراد أقل بكثير من تركيا، ولكن أكبر مما هو في العراق). وحتى الآن، ركزت المخاوف العرقية الرئيسية داخل إيران على الأقليات البلوشية والعربية. ومع ذلك، يبدو أن الأكراد الإيرانيين مرتبكون بشكل متزايد وغير راضين للغاية. ومن الواضح أن هذه المشاعر الكردية القومية داخل إيران مرتبطة بالتحركات الاستقلالية في إقليم كردستان، وهذا يسهم أيضًا في التعاطف من قبل بعض دول الخليج العربية مع الاستفتاء وحركة الاستقلال الكردية بشكل أعم.
أهداف الرياض وأبو ظبي
إن السيناريو المثالي فيما يتعلق بحكومة إقليم كردستان على المدى الطويل، من وجهة نظر الرياض وأبو ظبي، يتمثل في ظهور كيان كردستاني مستقل من خلال المفاوضات له إمكانياته الواسعة والفعلية في سياق تحالف رسمي فضفاض مع العراق. وهذا من شأنه أن يسمح للأكراد بأن يلعبوا أدوارهم الإقليمية والعراقية بأقصى درجة من الفاعلية، ودون المخاطرة بالوقوع في عنف صراع الانفصال. ومن شأن ذلك أن يسمح للأكراد بالعمل كقوة للتوازن ضد إيران في المنطقة، بما في ذلك العراق. وينبغي، على الأقل من الناحية النظرية، تقوية شوكة العرب السنة داخل العراق، ومن ثم في المنطقة ككل، وسوف يقلل كثيرًا من احتمالات توطيد الجسر البري الإيراني إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط.
وعلاوة على ذلك، فإن نموذج النظام الفيدرالي الموحد الفضفاض في العراق سيتيح للعرب السنة السيطرة على مناطقهم، ما سيعمل على كبح نفوذ إيران في العراق. وعلاوة على ذلك، ومن منظور سعودي وإماراتي، فإن نموذج التحالف الفضفاض سيكون بمثابة حل عملي ممكن ومقبول على أقل تقدير لمستقبل طويل الأمد في سوريا. حقيقة من المرجح أنهم سوف يستخدمون نفوذهم الآن لتطوير النظم الاتحادية والارتقاء بها في كلا البلدين.
ومع ذلك، فإن المعارضة العربية للاستقلال الكردي الرسمي الكامل ليست بأي حال من الأحوال مطلقة، وفي حال فشل مشروع إحباط نفوذ إيران من خلال تقوية العرب السنة والأكراد في العراق، وإقامة علاقات أقوى مع حكومة العبادي وأجنحة أخرى من الطيف السياسي الشيعي في العراق، وتعزيز تحالف كونفيدرالي فضفاض مع العراق على المدى الطويل، فإن المعادلة سوف تتغير بشكل كبير ومثير. وإذا كان على السعودية والإمارات والدول العربية الأخرى أن تختار بين الاستقلال الكردي الرسمي والكامل في شمال العراق وبين توطيد دولة عراقية متكاملة تحت السيطرة الإيرانية، فإن الأولى ستفوز بلا شك، على الرغم من الهواجس الحتمية بشأن تفكك دولة عربية كبرى.