وصلت التوترات المتنامية بين واشنطن وطهران في الآونة الأخيرة إلى درجة الغليان، ما دفع بالعديد من المراقبين إلى التساؤل ما إذا كانت الفصائل الرئيسية في كل حكومة تأمل سرًا بمواجهة عسكرية أو ما إذا كان سيؤدي الخطأ في الحسابات وسوء الإدراك وسوء التواصل، وبشكل غير متعمّد، إلى إطلاق شرارة نزاع لا أحد يرغب في حصوله.
وكانت هذه الاحتكاكات تتصاعد بشكل مطرد لسنوات عديدة، بعد تطبيق الاتفاق النووي الذي يُعرف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة ورفض أبرز قادة إيران مناقشة أي مخاوف إضافية غير نووية. وبذلك، تبدّدت أي آمال بأن يضفي الاتفاق طابع الاعتدال على سياسات إيران العدائية في المنطقة. وقد ازدادت حدة التوترات مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وهو الذي ندّد خلال حملته بإيران وبخطة العمل الشاملة المشتركة. وبعيْد تنصيب ترامب، “حذّر” مستشاره الأول للأمن القومي، الجنرال المتقاعد مايكل فلين، إيران من أن حقبة جديدة من الضغط والتشكيك من جانب الولايات المتحدة أصبحت وشيكة. وتُوّج ذلك بإعلان الولايات المتحدة انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة في أيار/مايو 2018 وإطلاق حملة “الضغط الأقصى” ضد طهران، ولا سيما على شكل عقوبات اقتصادية أمريكية جديدة بعيدة الأثر.
وكانت دول الخليج العربية قلقة إزاء المفاوضات النووية التي أجراها الرئيس باراك أوباما مع إيران، ويُعزى ذلك عمومًا إلى أن تلك المفاوضات لم تحاول مواجهة سلوك إيران وطموحاتها للسيطرة في المنطقة. غير أن هذه الدول لم تحضّ الولايات المتحدة في المقام الأول على الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة التي أملت في استغلالها للضغط على إيران كي تغيّر سياستها الإقليمية. كذلك، ما من دليل على أن أي من حكومات دول الخليج العربية كانت تدعم اندلاع صراع عسكري بين واشنطن وطهران.
ويبدو أن دول الخليج العربية تفهم حدود ما قد تكون واشنطن مستعدة للقيام به في ما يخص إيران، إلا في حال تعرضت للهجوم. فهذه الدول تدرك تمامًا على ما يبدو أن أي غزو واحتلال أمريكي لإيران، شبيه بغزو العراق في العام 2003، ليس أمرًا مطروحًا. وهي تعلم أن سلسلة من التدخلات العسكرية غير الحاسمة على غرار الضربات الجوية أو المناوشات ستجعلها في وضع أسوأ مما هي عليه. وتفهم على ما يبدو، ربما بشكل أفضل من بعض المسؤولين الأمريكيين، أنه لا يمكن فرض تغيير النظام على بلد كبير ومنظم جيدًا من الخارج، بخاصةٍ من خلال ضغوط مالية ومكائد سياسية بسيطة.
وبالتالي، ما تسعى إليه دول الخليج العربية بلا شك هو ما تعبّر عن رغبتها به بالفعل، أي عدم تغيير النظام بحّد ذاته إنما إدخال تغيير ملحوظ على سياسات إيران الإقليمية والخارجية، وبخاصةٍ وضع حدّ لتدخل طهران في شؤون العالم العربي، وزعزعتها استقرار الدول العربية المجاورة من خلال ميليشيات وجماعات مسلحة طائفية غير تابعة للدولة، وجهودها الرامية إلى تصدير أجندتها الثورية إلى المنطقة. وفي حين أنها ترحّب بمجموعة واسعة من الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وغيرها على إيران لتحقيق ذلك الهدف، إلا أنها لا تضغط على واشنطن على ما يبدو للدخول في صراع مسلح شامل.
وكما كانت الحال دائمًا، ثمة مجموعة من وجهات النظر داخل دول مجلس التعاون الخليجي الست وفي ما بينها. فالسعودية والإمارات والبحرين هي الأكثر معارضةً بشكل قاطع لأجندة إيران في المنطقة. أما قطر، فلطالما اضطرت إلى تليين سياساتها تجاه إيران بسبب حقل الغاز الطبيعي الذي تتشاركه معها والذي يمدّ الدوحة بكامل دخلها تقريبًا، ومنذ أن بدأت مقاطعة الدول العربية لها بقيادة الإمارات والسعودية في حزيران/يونيو 2017، زوّدتها إيران بمسارات للطيران المدني وفوائد أخرى. وبالنسبة إلى عُمان، فقد حافظت منذ زمن بعيد على علاقات جيدة مع إيران، في حين اتّخذت الكويت دور الوسيط بين الدول العربية والإيرانيين.
هذا وقد رحّب بعض قادة دول الخليج العربية بالعقوبات الأمريكية وبحملة “الضغط الأقصى” ضد إيران، ما أدّى باختصار إلى تراجع الموارد التي تسمح لطهران بتمويل وكلائها المسلحين في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأماكن أخرى من العالم العربي. لكن في المجالس الخاصة، هناك قلق حقيقي في أوساط أبرز قادة الدول العربية من أن مكاسب هذه الحملة قد تتبدّد من دون وجود آلية سياسية لترجمتها إلى اتفاقات تنص على تغيير سلوك إيران. ولطالما اعتبروا أن المرحلة النهائية ستتمثل بإبرام ترتيب جديد ينطوي على تهديدات أقل مع طهران بشأن حدود طموحات البلاد والخطر الذي تطرحه على الاستقرار في المنطقة.
وبشكل شبه مؤكّد، سترحّب هذه الدول بتصريحات أبرز القادة الأمريكيين والإيرانيين بأن أيًا من الدولتين لا ترغب في اندلاع حرب أو تتوقّعها، حتى إن كانت تتساءل عما إذا كانت الفصائل الأصغر من الجانبين قد ترحّب بمواجهة عسكرية محدودة لأغراض سياسية أو إيديولوجية محلية. لكن المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين لا ينفكّون يتهمون بعضهم البعض بمحاولة إثارة مواجهة كاملة، علمًا بأن التوترات ازدادت لدرجة قد يؤدي فيها أي خطأ في الحسابات أو سوء تفسير إلى نزاع غير مقصود.
وخلال الأيام القليلة الماضية، ازداد على ما يبدو قلق السعودية وأقرب حلفائها من احتمال اندلاع نزاع عسكري. ولربما كان المؤشر الأقوى على ذلك مقال صحيفة نيويورك تايمز الذي تشارك في صياغته المحلل السعودي عبد العزيز صقر والدبلوماسي الإيراني السابق حسين موسويان، اللذان يشتهران بقربهما من أبرز القادة كل في بلده على التوالي – وبالتالي من المستبعد أن يختلفا معهم في الرأي.
فقد كتب صقر وموسويان أن “الوقت حان للتوصل إلى أساس جديد لإحلال سلام دائم في منطقتنا… لأن الظروف في مناطق الصراع التاريخية مهيأة للجهود الدبلوماسية”. وتشير افتتاحيتهما إلى السبيل الذي يجب سلوكه لتجديد الحوار بين طهران وواشنطن، وتُظهر أن السعودية، على الأقل، شعرت أنه من الضروري أن تعلن أنها منفتحة على عملية مماثلة مع إيران، ما يدّل ضمنيًا على أنه يجدر بواشنطن القيام بالمثل. كما أن هذه الافتتاحية هي مؤشر واضح على أن الرياض لا ترغب في أن يُنظر إليها على أنها تتعاون مع إسرائيل، التي تملك مجموعة مختلفة تمامًا من المخاوف والأولويات لدفع إدارة ترامب إلى الدخول في حرب.
تجدر الملاحظة بشكل خاص أن هذا الأمر يتزامن مع تنامي غضب دول الخليج العربية وقلقها نظرًا إلى عمليات التخريب والاعتداءات التي طالت مؤخرًا ناقلات نفط دولية قبالة سواحل الإمارات والهجمات التي شنّها الحوثيون بواسطة طائرات بدون طيار على محطات ضخ نفط سعودية. لكن حتى في وقت أثارت فيه هذه الهجمات السخط، إلا أنها تُعتبر في الوقت نفسه بمثابة تذكير مفيد بتكلفة الصراع.
ولا يشير مقال صقر-موسويان فقط إلى تقييم هذه التكاليف، بل يؤكّد عمليًا على وجود دبلوماسية مزعومة عالية المستوى تُعرف بـ”المسار الثاني” أو قناة خلفية دبلوماسية بين العرب الخليجيين والإيرانيين النافذين. ويدلّ ذلك على أن الطرفين ربما يكونان مستعدين لإجراء مفاوضات إذ بدأت سياسة حافة الهاوية تُبرز نفسها وتمّ بلوغ حدود ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الراهنة. وعارض ترامب أيضًا خلال حملته الالتزامات الأجنبية الواسعة النطاق على غرار الحرب في العراق وأفغانستان، ومن المستبعد اعتبار صراع محتمّ مع إيران مقبولًا من الناحية السياسية. مع ذلك، من المرجح أن يدفع المتشددون في إدارته على غرار مستشار الأمن القومي جون بولتون وغيره، إضافةً إلى متطرفين في إيران وأماكن أخرى، بالوضع ليبلغ نقطة تحوّل.
في الماضي، لعبت عُمان دورًا أساسيًا لجهة توفير ساحة للمفاوضات الأمريكية-الإيرانية، وإن كان الطرفان يبحثان عن طريق فرعي قبل الدخول في مواجهة أشمل هما بغنى عنها، قد يتكرر ذلك السيناريو مجددًا. ويمكن للأوروبيين أيضًا أن يلعبوا دورًا مفيدًا في تطوير تفاهم جديد مع إيران استنادًا إلى مقاربة العصا والجزرة على الصعيدين الاقتصادي والتجاري التي من شأنها الحفاظ على امتثال الإيرانيين للالتزامات التي تفرضها خطة العمل الشاملة المشتركة. ويمكن عندها توسيع ذلك ليشمل مصدري القلق الرئيسيين المتبقين لإدارة ترامب وحلفائها في الشرق الأوسط، أي سلوك إيران في المنطقة وتطوير الصواريخ. ففي الماضي، اضطلع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون بدور المحاورين الأساسيين مع طهران، محددين إطار العمل الضروري للاتفاقات التي شملت لاحقًا واشنطن، وبإمكانهم أن يلعبوا هذا الدور مرة أخرى. كبديل، يمكن لروسيا التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إيران ودول الخليج العربية على السواء، فضلًا عن ترامب شخصيًا، أن تكون جسرًا مفيدًا يبعد الطرفين عن أي مواجهة وشيكة.
وقد يصبّ التوصّل إلى حل للحرب في اليمن، أو أقله إحراز بعض التقدم باتجاه التفاوض على إنهاء النزاع، وهو أمر يبدو ممكنًا مجددًا نظرًا إلى إعادة انتشار قوات الحوثي وانسحابها من مرافئ رئيسية على البحر الأحمر، في مصلحة دول الخليج العربية وإيران على السواء ويشكّل نقطة انطلاق جيدة. كذلك، برزت مسألة الأمن البحري باعتبارها أولوية متبادلة جلية يمكن النظر فيها بحذر بين السعودية وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى. ولا يزال هذا النوع من أطر العمل التسلسلية للحوار العربي-الإيراني خيارًا قابلًا للتنفيذ.
ويبدو أن مسعى لتهدئة النفوس يتحضّر في ظل إبقاء ترامب الباب مفتوحًا أمام المحادثات مع إيران، والتقارير التي تشير إلى أنه تصدّى بشراسة إلى المستشارين المؤيدين للمواجهة، وتصريح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش أن بلاده “ملتزمة إلى حدّ كبير بالحدّ من التصعيد” ولن يتمّ جرها إلى الوقوع في فخ الأزمة. وإن أمكن تطوير مسار فعال وديناميكي شرق أوسطي أو أوروبي أو حتى روسي مع إيران، فيمكنه التخفيف من حدّة التوترات بشكل أكبر، والتوسّع في نهاية المطاف ليشمل الولايات المتحدة أو يرسي أسس حوار جديد ومباشر بين واشنطن وطهران. وفي ظل الوضع القائم حاليًا، يقترب الطرفان بشكل خطير من الدخول في صراع هما بغنى عنه. لكن من المطمئن معرفة أن أصواتًا بناءة ونافذة تتطلع أساسًا وبشكل جدي إلى إيجاد آذان صاغية.