في 20 يناير/كانون الثاني 2020، تلقى العميد إسماعيل قاآني، الذي بدا متأثرًا بشكل واضح، مرسوم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بتعيينه قائدًا للعمليات الخارجية لفيلق القدس التابع لحرس الثورة الإسلامية. “الله أكبر! حياتي فداء للمرشد!” قالها بصوت حازم، وصافح كبار القادة الإيرانيين في الحفل. بعد ذلك، عاد قاآني إلى موقعه المخصص على المسرح وأخذ نفسًا عميقًا. هل كان هذا هو النفس العميق للشخص الثاني في قيادة فيلق القدس منذ عام 1998، الذي لم يكن معتادًا على المناسبات الاحتفالية، ووجد نفسه فجأة في دائرة الضوء؟ أم أنه النفس العميق لقائد يدرك جسامة المسؤولية الملقاة عليه ليملأ مكان سلفه اللواء قاسم سليماني؟
وفي وقت تعيين قاآني، زعم بعض المعلقين أن سليماني “لا يعوض” وربما أنه “لا يعوض” أكثر من خامنئي نفسه، في حين ادعى آخرون أنه “ثمة صراع جارٍ بالفعل داخل حرس الثورة الإسلامية لإضعاف فيلق القدس”. ولفترة ما، كان يبدو أنهم على حق، فإسرائيل قد واصلت قصفها للمواقع الإيرانية وحلفائها في سوريا دون رد من إيران؛ وقام الموساد الإسرائيلي باغتيال علماء في المجال النووي وأحد ضباط فيلق القدس، وزعم أنه استجوب ضابطًا آخر من فيلق القدس على الأراضي الإيرانية، وسجل الاستجواب، ونشره على قناة إيران الدولية، التي تمولها السعودية، وتتخذ من لندن مقرًا لها. والأسوأ من الإذلال التام للأجهزة الأمنية والعسكرية الإيرانية، فإن المقصود من هذه الهجمات ونشرها ربما يكون تشجيع انتفاضة شعبية ضد نظام يبدو أنه يفتقر للكفاءة.
وعلى أية حال، فإن توغل مقاتلي حماس إلى داخل إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول جاء بمثابة انتصار كان قاآني وفيلق القدس في أمس الحاجة إليه، على الرغم من وجود التباس كبير يشوب دور إيران وفيلق القدس في هذا الصراع.
في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، زعمت صحيفة وول ستريت، نقلاً عن مصادر لم تُسمها في حزب الله وحماس، أن إيران “ساعدت في تخطيط” الهجوم على إسرائيل، بعقد عدة اجتماعات منذ أغسطس/آب. وقد تم الرد على هذا المقال في اليوم نفسه من قبل وكالة أمواج ميديا في لندن، والتي تتمتع بإمكانية حصرية للوصول إلى المصادر الرسمية في النظام الإيراني. وذكرت الوكالة نقلاً عن “مصادر مطلعة” لم تُسمها أن “إيران لم تشارك في تخطيط أو تنفيذ هجوم حركة حماس على إسرائيل”. وفي مقابلة مع شبكة سي إن إن في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، “لم نرَ بعدُ دليلاً على أن إيران قد وجهت هذا الهجوم بالذات أو أنها كانت وراءه، ولكن هناك بالتأكيد علاقة طويلة”. وقال الشيء نفسه كلًا من القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية فيكتوريا نولاند (Victoria Nuland) ومنسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي جون كيربي (John Kirby)، لكنهما أضافا أيضًا أن الدليل قد يظهر في أي وقت. في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، قال المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، الرائد نيف دينار (Niv Dinar)، إنه “ليس لدى إسرائيل دليل أو إثبات” على أن إيران كانت وراء الهجوم بشكل مباشر، لكنه قال، “نحن متأكدون بنسبة مائة بالمئة من أن الإيرانيين لم يتفاجأوا”. وفي خطاب ألقاه في 10 أكتوبر/تشرين الأول، أشاد خامنئي نفسه بحركة حماس، لكنه رفض تورط إيران.
تقوم إيران لسبب ما بتمويل حماس، وإشادة خامنئي العلنية بحرب حماس على إسرائيل تنطوي على ما هو أكثر من الإشارة إلى ذلك السبب. لكن ربما يكون هناك أسباب خاصة لكل من أولئك الذين ينكرون إلى حد ما تورط إيران المباشر – أو لا يريدون الاعتراف به. مع مرور عام على الانتخابات الرئاسية، ليس لدى إدارة الرئيس جوزيف بايدن حافز كبير لخوض حرب إسرائيل ضد إيران، وبالتالي لا يريد أن يعرف عن تورط إيران. والحكومة الإسرائيلية، التي تفضل أن تخوض الولايات المتحدة حربها ضد إيران، ترفض أيضًا التدخل الإيراني، ربما في محاولة للتخفيف من حدة مطالب الجمهور الإسرائيلي بالانتقام من إيران. كما أن خامنئي أيضًا يرفض تورط إيران حتى لا تضطر إسرائيل والولايات المتحدة إلى مهاجمة إيران. وباستثناء صحيفة وول ستريت جورنال، يبدو الجميع سعداء ببعض الأكاذيب أو على الأقل بالتعتيم على القضايا، سواء كان ذلك متعمدًا أم لا.
إذا كانت طبيعة أو درجة تورط إيران موضع خلاف، فإن طهران هي المستفيدة من الصراع بعدة طرق، وهذا ما يلقي الضوء على دوافع فيلق القدس.
أولاً، تم تأجيل تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل إلى أجل غير مسمى بسبب اندلاع الصراع، وهو التطبيع الذي تعارضه إيران، وتعتبره تحالفًا مناهضًا لها. ولم يتطرق البيان العلني الأول الصادر عن وزارة الخارجية السعودية إلى إدانة حماس، لكنه أشار إلى أن السعودية قد حذرت مرارًا وتكرارًا من احتمالات الانفجار الذي قد يسببه “الاحتلال، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته”. وخلصت رويترز إلى أنه مع استمرار الصراع، فإن المفاوضات بين السعودية وإسرائيل ستبقى معلقة.
ثانيًا، من المرجح أن يسجل التاريخ توغل حماس داخل الأراضي الإسرائيلية باعتباره فشلاً استخباراتيًا لا يختلف كثيرًا عن حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. بعد سنوات من الإذلال الذي تعرضت له إيران على يد الموساد، لا شك أن النظام في طهران يجد ارتياحًا كبيرًا في فقدان المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية لماء وجهها.
ثالثًا، حطم الهجوم أسطورة حصانة الدولة الإسرائيلية، التي ساعدتها القبة الحديدية والجدران الخرسانية على التخلي عن فكرة السلام مع الفلسطينيين كشرط مسبق لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية.
رابعًا، ولتنتقم بشكل صارم، من المرجح جدًا أن تقوم قوات الدفاع الإسرائيلية بقصف غزة، وغزوها وإعادة احتلالها لتحييد حماس. ورغم أن مثل هذه العملية ممكنة تمامًا، فمن المرجح أن تؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب بتشكيل صورة إعلامية سيئة لإسرائيل على المستوى الدولي، وربما يؤدي كذلك إلى زعزعة استقرار نظام الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الضفة الغربية. وقد تظهر بدلاً من حركة حماس منظمة شبيهة بها لتتحدي إسرائيل. إن الهجوم على غزة، بصرف النظر عن فترة امتداده، من شأنه أن يعزز الكراهية القوية بالفعل لقوات الاحتلال ــ السياج وأجهزة المراقبة ذات التقنية العالية وحرس الحدود ــ التي تسجن أهل غزة.
خامسًا، في الوقت الحالي على الأقل، وباستثناء القليل من عمليات القصف المتبادل، تمكنت إيران من إبعاد حزب الله اللبناني عن الصراع مع إسرائيل. وبذلك، عقدت إيران من حسابات إسرائيل، فإذا أرادت إسرائيل الانتقام من إيران، فمن المرجح أن يستهدف حزب الله اللبناني إسرائيل بترسانته الضخمة من الصواريخ المتطورة، ويورط الدولة اليهودية في حرب من ثلاث جبهات. لذلك، يبدو أن حزب الله يقوم بتأدية دوره كقوة ردع فعالة.
من الواضح أن سليماني لم يكن ذلك الشخص الذي لا يعوض، ولم يتم اضعاف فيلق القدس. فقد ازدهر الفيلق تحت قيادة قاآني، الذي يختلف عن سلفه في الأسلوب، ولكنه يشبهه تمامًا في الفعالية والقسوة في معاملته للفلسطينيين كبيادق يمكن التضحية بهم في لعبة الشطرنج الإيرانية الكبرى. قد تتغير الظروف، ويتغير طالعهم لدى إيران، ولكن بصرف النظر عن الفظائع التي ارتكبتها حماس ضد المدنيين الإسرائيليين، وبصرف النظر عما ينتظر أهل غزة والمنظمات الفلسطينية، فإن هذه المأساة العربية-الإسرائيلية الأخيرة هي نصر كبير يسجل لقاآني وفيلق القدس، وللجمهورية الإسلامية الإيرانية بشكل عام.