يعكف خبراء صينيون على تقديم اقتراحات لخطوات دبلوماسية تكتيكية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك من أجل دعم جهود بكين لحماية وتعزيز مصالحها الاقتصادية، ويمكن لهذه المقترحات مساعدة الصين في تعزيز سياستها لتطوير الأمن العالمي. وتتضمن هذه الخطوات الوساطة للدفاع عن المصالح التجارية بدلاً من المصالح الأمنية؛ وتبني مبدأ “إدارة” النزاعات عوضًا عن “حلها”، وتوطيد علاقات متناغمة مع حلفاء الصين الاستراتيجيين، حيث كثيرٌ منهم لديهم انقسامات عميقة، ومنشغلون مع أطراف متنازعة في حروب بالوكالة.
الاقتراحات المقدمة تهدف إلى تحقيق أمرين، أولاً: الحد من الانتقادات الموجهة للصين فيما يخص قضايا المنطقة، حيث يتهمها البعض باللامبالاة بقضايا الإقليم، واعتبار أن ما تقدمه لا يعبر عن وزنها الحقيقي وما تستطيع تقديمه تجاه استقرار منطقة الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك تهدف هذه الاقتراحات للترويج إلى أن الصين تدرس بجدية الخيارات السياسية المتاحة، التي تمكنّها من المشاركة الفاعلة في الساحة السياسية الإقليمية. ثانيًا: الترويج إلى الطرح الدبلوماسي الذي تتبناه الصين، والذي يهدف إلى اعتماد نهج سياسي متوازن، يعتمد بشكل أساسي على الوساطة الذكية في النزاعات عوضًا عن التدخل العدواني.
تعتبر منطقة الشرق الأوسط، بما فيها دول الخليج الغنية بالنفط، طرفاً أساسياً في مبادرة “الحزام والطريق”، التي تعتبرها الصين ضرورية لضمان استمرار تدفق إمدادات الطاقة، ما يعزز علاقاتها الاقتصادية حول العالم. وبالتالي فإن مسألة الاستقرار أصبحت مصدر قلق مستمر لبكين في ظل العداوة المستمرة بين كل من المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا ودول أخرى، وخاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، الأمر الذي يدعو إلى البحث عن الآليات الأمنية البديلة هناك.
أحد البدائل المطروحة هو “دبلوماسية شبه الوساطة“، التي تدعو إلى الدفاع عن “المصالح التجارية والسياسية والدبلوماسية بدلاً من الدفاع عن المصالح الأمنية والاستراتيجية الأساسية”. إن “الدولة التي تستثمر في هذا المسار” تعمل دون أن تسعى إلى الهيمنة. تسعى إلى أن تُتّبع لا إلى أن تقود، وأن تكون شريكة في وضع جدول الأعمال لا أن تحدده بنفسها. وتشجع على وقف تأجيج الصراع بدلاً من أن تتدخل بجدية لحله”. ينطوي هذا النهج على “تدخّل متعدد الأوجه ومشاركة استباقية ووساطة محدودة وتدخل غير مباشر”، ما يحد من المخاطر المحتملة على الصين في ظل الصراعات الدائرة في المنطقة. بالإضافة إلى “تأكيد الصين على البحث عن أرضية مشتركة ووضع الخلافات جانبًا”. وبالتالي فإنها لا تعمل على حل القضايا نهائياً، ما يعني ضمنياً المضي نحو إدارة الصراع بدلاً من حله.
وعلى خلاف الاعتقاد السائد، تنأى الصين بنفسها عن التدخل المباشر في النزاعات الدائرة في الشرق الأوسط، فقد اعتمدت “سياسة الوساطة” عبر تعيين مبعوثين خاصين لعملية السلام في الشرق الأوسط والحرب في سوريا. تركزت مهمة هؤلاء المبعوثين في المنطقة، والدبلوماسيين في كل من السودان وأفغانستان، على احتواء النزاعات بدلاً من حلها تماماً. وبالرغم من أن هذه الجهود لم تغير قواعد اللعبة، إلا أنه يمكن اعتبارها محاولة من بكين للتخلي البطيء عن سياسة عدم التدخل، التي طالما فضلتها.
ولعبت الصين أيضاً دوراً هادئاً، لكنه مهم، في المحادثات بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا وإيران، التي أسفرت عن خطة العمل الشاملة المشتركة. في عام 2015، قدم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما شكره للرئيس الصيني شي جين بينج للدور البناء الذي لعبته بكين في تأمين الاتفاق النووي، حيث شجعت إيران على إعادة النظر في الصفقة بعد إعادة انتخاب أوباما في عام 2012.
ومن المساهمات الأخرى، التي حظيت باهتمام أقل، مرافقة سفن من الأسطول الصيني 6600 سفينة في خليج عدن والمياه قبالة الصومال بين عامي 2008 و2018. كان من بينها ما نسبته 51.5٪ سفن أجنبية.
يجري الآن العمل على تطوير فكرة العمل المشترك مع الدول المتنازعة لضمان عدم خروج النزاعات السائدة عن السيطرة ولئلا تنضم إليها البلدان ذات التأثير الرئيسي في مبادرة “الحزام والطريق”. ومن أجل تحقيق ذلك تركز الصين على إدارة النزاع مع السعودية والإمارات من جهة وإيران وتركيا من جهة أخرى.
مع احتفاظ الصين بعلاقات جيدة مع الدول على جانبي الخليج، “وبناء على استعداد إيران المعلن لتعزيز العلاقات الثنائية، تحتاج الصين إلى العمل بشكل أكثر فاعلية” بصرف النظر عن الاعتراض الأمريكي. وتكتسب هذه الفكرة زخماً وسط تقارير عن تقدم المفاوضات الإيرانية-الصينية بشأن “اتفاقية استراتيجية” بقيمة 400 مليار دولار مدتها 25 عاماً، تشمل قطاعات الطاقة والبنية التحتية والدفاع، لا سيما مع تعبير الإدارة الأمريكية القادمة برئاسة الرئيس المنتخب جوزيف بايدن عن اهتمامها بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، ما يتيح لبكين وطهران فرصة لتعزيز شراكتهما الشاملة.
وفي السياق ذاته، إن الأفكار المقترحة تتوافق مع التأييد الروسي المعلن عام 2019 لاقتراح إيران بشأن “معاهدة عدم اعتداء” مع دول الخليج العربية، والتي يمكن أن تحد من مخاطر خروج النزاعات عن السيطرة، ما يؤدي في النهاية إلى حماية المصالح الاقتصادية للصين.
بعض الباحثين الأمريكيين يؤيدون هذا الطرح. ففي عام 2019، قال جون ألترمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: “لا أعتقد أن الصين تريد ملء الفراغ الأمريكي في المنطقة”. وأشار إلى أن تدخل الصين هو نهج تجاري قائم على نهج شبه عسكري يساعد الاقتصادات في الشرق الأوسط على النمو لكن دون تهديد الأنظمة السياسية المدعومة شعبياً.
وعلى الرغم من التوصيات للمشاركة الفاعلة في الساحة الدبلوماسية، إلا أن هناك خبراء صينيين ينصحون بالحذر أيضاً، لا سيما فيما يخص التدخل في المجال الأمني. أحد الخبراء قال: “إذا كنا سنتولى عمليات الحراسة في مضيق هرمز فمن المحتمل جداً أن يحدث نزاع مع دولة ساحلية خليجية واحدة أو أكثر”. وأضاف الباحث أن الصين “يجب ألا تتسرع بتدخل عسكري في هذه المنطقة”.
هذه الأفكار مهمة في ظل ضغوط واشنطن الأخيرة على دول الخليج العربية للحد من شراكتها مع الصين، خاصة في قطاع التكنولوجيا. في شهر مايو/أيار، قال مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر – في إشارة إلى دور شركة هواوي في مشاريع البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس في الإمارات – إن المشروع سوف يصعّب عملية التواصل بين القوات الأمريكية والخليجية. “على هذه الدول أن تقّدر قيمة شراكتها مع الولايات المتحدة”.
هناك أيضاً وجهة نظر أخرى تقول إن اتفاقيات أبراهام هي سياسة واشنطن لكبح مشاركة بكين وموسكو المتنامية في المنطقة من خلال الترويج لحليف الولايات المتحدة، إسرائيل، كشريك اقتصادي وتكنولوجي وأمني بديل في المنطقة، ما يعتبر بمثابة السماح للولايات المتحدة بمواصلة فك الارتباط المرحلي بارتياح، دون التنازل عن ميزات لمنافسيها الاستراتيجيين.
بشكل عام، المناقشات المتداولة في الصين تعكس محاولة بكين إعادة التوازن من “السياسة بين الدول” إلى “السياسة بين الشبكات” أو الشركاء التجاريين، مع التركيز على “التواصل” بدلاً من “السيطرة”. إن هذا النهج الحساس الذي يتضمن “أقصى قدر من الدبلوماسية” عوضاً عن “أقصى قدر من الضغط” قد يساعد في تهدئة التوترات في منطقة الخليج ويعمل على تعزيز إمكانية وجود بنية أمنية لا تتمركز حول الولايات المتحدة.