المحاولة الانقلابية ضد النظام القضائي الإسرائيلي، التي يحاول رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم، المكون من أحزاب يمينية ودينية متطرفة، والمعارضة الواسعة التي فجرتها، زجت إسرائيل في إحدى أسوأ أزماتها منذ إعلانها كدولة مستقلة، ووضعتها على حافة انهيار سياسي ومجتمعي وقيمي، وحتى وجودي، بعد أن ترددت عبارة “الحرب الأهلية” على شفاه قادتها، وحتى الرئيس بايدن والعديد من المحللين داخل وخارج إسرائيل.
خلقت أزمة التعديلات القضائية استقطابات سياسية وأيديولوجية غير مسبوقة داخل إسرائيل، وخلقت أزمة جدية مع إدارة الرئيس بايدن، في الوقت الذي تزداد فيه المخاوف في واشنطن، وفي إسرائيل وفي الدول العربية، من اقتراب إيران من عتبة الدخول إلى النادي النووي، مع ما يعنيه ذلك من ازدياد احتمال حدوث مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران، وربما مشاركة الولايات المتحدة فيها. أيضا ساهمت سياسات حكومة نتنياهو الاستيطانية، والتصريحات العنصرية لبعض وزرائه، خاصة وزير المالية بيزاليل سموتريتش الذي دعا فيها إلى محو قرية حوارة الفلسطينية، والذي ادعى أن الشعب الفلسطيني هو “اختراع”، ولا وجود حقيقي له، ساهمت في خلق عقبات حقيقية أمام محاولات إسرائيل والولايات المتحدة توسيع دائرة “اتفاقيات إبراهام” مع الدول العربية.
المعارضة السياسية والشعبية القوية ضد ما يدعيه نتنياهو وحلفائه “الاصلاحات” القضائية، بما في ذلك معارضة الرئيس بايدن لها، ودعوته العلنية لنتنياهو للتخلي عنها أبرزت إلى السطح الخطر الذي تمثله هذه “الإصلاحات”، الذي يريد اليمين الديني، المتعصب والعنصري، فرضه على النظام السياسي في إسرائيل، وتحديدًا على الديموقراطية الناقصة التي يتمتع بها المواطنون اليهود، والتي يستثنى المواطنون الإسرائيليون العرب من العديد من فوائدها.
يسير نتنياهو وحلفائه على الطريق الذي شقته قبلهم القوى اليمينية الشعبوية، التي تستخدم الوسائل الديموقراطية، مثل الانتخابات، لتقويض جوهر الحوكمة الديموقراطية، كما حدث في تركيا وهنغاريا وبولندا. هذه القوى في هذه الدول الثلاثة، التي لا تزال تصنف دولًا ديموقراطية، ولو جزئيا، في سعيها لبناء نظام أوتوقراطي استهدفت في البداية النظام القضائي المستقل لكونه المؤسسة الأولى القادرة على تحدي محاولات الحكومة السيطرة على المنظمات والمؤسسات المستقلة في المجتمع المدني، وتقييد حرية الصحافة، وغيرها من الحريات الأكاديمية والسياسية الأخرى.
رضوخ نتنياهو للمعارضة الداخلية والخارجية وقراره قبل أيام تأجيل إقرار التعديلات القضائية في البرلمان إلى ما بعد عيد الفصح اليهودي، يعني في أفضل الحالات تأجيل المواجهة مع خصومه، والتي كانت شوارع وساحات كبريات المدن الإسرائيلية مسرحها الرئيسي منذ حوالي ثلاثة أشهر، وإعطاء نتنياهو بعض الوقت لتجميع قواه، ومحاولة الالتفاف على خصومه الكثر من خلال بدء مفاوضات معهم، وفي الوقت ذاته المحافظة على ائتلافه مع حلفائه المتشددين، الذين يرفضون أي مساومات حول مضمون التعديلات.
وحتى مثل هذا التأجيل، المحدود زمنيًا، جاء بعد تنازل نوعي من نتنياهو لوزير الأمن القومي ايتمار بن غفير، للحصول على موافقته على تأجيل إقرار التعديلات القضائية. نتنياهو وافق على السماح لبن غفير، المتهم في السابق بالتحريض على أعمال عنف عنصرية ضد الفلسطينيين، إنشاء ما يسمى “حرس وطني” مؤلف من عناصر عسكرية من حرس الحدود، واحتمال استخدام هذا “الحرس الوطني” كميليشيا لترهيب خصوم الحكومة من يهود وعرب.
التعديلات القضائية الجذرية التي يريد نتنياهو وحلفائه فرضها على إسرائيل تهدف بالدرجة الأولى إلى تقييد استقلالية وحريات المحكمة العليا، من خلال السماح للبرلمان والحكومة تعيين القضاة وتقليص صلاحياتهم. القوى والأحزاب الدينية والقومية المتطرفة ترى أن المحكمة العليا ليبرالية وعلمانية، ولا تبالي بمطالب اليهود المتدينين، الذين يريدون تفادي الخدمة العسكرية، والتمتع بفوائد اجتماعية ومالية بشكل حصري. نتنياهو من جهته يريد تقييد صلاحيات المحكمة العليا كوسيلة للإفلات من أي عقاب قضائي، وهو الذي يواجه تهم قضائية عديدة تشمل الفساد والاحتيال وقبول الرشاوى.
هناك أهداف أخرى للتعديلات القضائية من منظور الأحزاب الدينية المتطرفة نادرًا ما تناقش علنًا. هذه الأحزاب تريد من أي محكمة عليا غير ليبرالية أن تقيد من الحريات السياسية للمواطنين العرب في إسرائيل، وهذا قد يشمل تحريم تشكيل أي أحزاب سياسية غير صهيونية أو مناوئة للصهيونية (أي أحزاب يشكلها المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل).
أزمة التعديلات القضائية وضعت العلاقات الأميركية-الإسرائيلية في دوامة عميقة، ولكن العلاقات الثنائية منذ أن بدأ نتنياهو بتشكيل حكومته، أي قبل أن يصبح رسميًا رئيسًا للوزراء، كانت فاترة، بسبب اعتراض واشنطن على تعيين وزراء متطرفين وعنصريين في مناصب حساسة في الحكومة، مثل ايتمار بن غفير وبيزاليل سموتريتش. ولكن بايدن ومستشاريه تفادوا انتقاد نتنياهو علنًا، لحرصهم على العمل معه لمواجهة إيران، وهذا ما تم التعبير عنه بإجراء مناورات عسكرية ضخمة بين قوات البلدين لبعث رسالة قوية إلى طهران، ولرغبة واشنطن بتوسيع دائرة اتفاقيات إبراهام، وتحديدًا جذب السعودية إلى هذه الدائرة.
وقبل عشرة أيام وجهت إدارة بايدن انتقادًا قويا لقرار أقره البرلمان الإسرائيلي، ويقضي بنقض اتفاق لفك الارتباط من شمال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وقّع في سنة 2005 بعد انسحاب المستوطنين اليهود من تلك المنطقة الواقعة بين مدينتي جنين ونابلس. القرار الجديد يسمح للمستوطنين الإسرائيليين بدخول المنطقة من جديد، مع ما يعنيه ذلك من ازدياد فرص الاحتكاك بين المستوطنين اليهود والسكان الفلسطينيين في منطقة حساسة شهدت اشتباكات عنيفة في السابق. واشنطن وصفت القرار الجديد “بالاستفزازي”، واستدعت سفير إسرائيل في واشنطن للاحتجاج عليه.
خلال الأسبوع الماضي، أدلى الرئيس بايدن بتصريحات علنية أعرب فيها عن “قلقه العميق” لما يجري في إسرائيل، وانتقد فيها خطة التعديلات القضائية لحكومة نتنياهو، وحضه على التراجع عنها، مؤكدًا أنه لا يمكن للحكومة الإسرائيلية “مواصلة هذا المسار، وأعتقد أنني أوضحت موقفي” من هذه المسألة، مشيرًا أيضًا إلى أن اليهود الأميركيين أوضحوا موقفهم السلبي منها أيضًا. وواصل بايدن ضغوطه العلنية على نتنياهو حين قال “آمل أن يتصرّف رئيس الوزراء (نتانياهو) على نحو يحاول فيه التوصل إلى تسوية حقيقية”. وفي خطوة اعتبرت مهينة لنتنياهو، ناقض بايدن تلميحات سفيره في إسرائيل توماس نايدس بأن نتنياهو سيتلقى دعوة لزيارة واشنطن قريبًا. وحين سؤاله عما إذا كان سيدعو نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، أجاب بايدن “كلا، ليس في المدى القريب”.
انتقادات بايدن العلنية لنتنياهو، واستبعاده من البيت الأبيض أدت بدورها إلى زيادة الانتقادات الحامية من السياسيين الإسرائيليين لنتنياهو، واتهامه بمحاولة تقويض علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة في مرحلة حساسة للغاية، وخاصة على خلفية التوتر المتفاقم مع إيران. انتقادات بايدن لنتنياهو، عرضت الرئيس الأميركي لانتقادات مباشرة من شخصيات سياسية حليفة لنتنياهو، لحقها نتنياهو بتوجيه انتقاد مباشر لبايدن ادعى فيه أن “إسرائيل هي دولة ذات سيادة، وتتخذ قراراتها انطلاقًا من إرادة شعبها، وليس وفقا للضغوط الخارجية، بما فيها تلك الآتية من أفضل الأصدقاء”.
وسارع منتقدو نتنياهو داخل وخارج إسرائيل إلى تذكيره بتدخله السافر في الشؤون الأميركية الداخلية، كما فعل في سنة 2015، حين تحدى إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما علنًا، وألقى خطابًا بدعوة من قادة الكونغرس الجمهوريين ندد فيه بالمفاوضات النووية مع إيران، التي كانت إدارة الرئيس أوباما والدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا تجريها مع طهران، وأعتبر الاتفاق النووي اتفاقا “سيئا”. آخرون انتقدوا نتنياهو لأنه ساهم في اقناع الرئيس السابق دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2018، في خطوة سهلت على إيران انتهاك بنود الاتفاق لجهة تطوير أجهزة الطرد المركزي، وزيادة نسبة تخصيبها لليورانيوم بما يتعدى بنود الاتفاق.
خلال حياته السياسية الطويلة، كان نتنياهو، الذي احتل منصب رئيس الوزراء في إسرائيل لأطول فترة في تاريخها يخرج من الأزمات السياسية والتحديات التي كان يواجهها بمهارته التكتيكية المعروفة، وقدرته على استغلال خلافات خصومه. ولكنه يواجه الآن معضلة صعبة للغاية قد تؤدي إلى الاطاحة به قبل أن يكمل أول ستة أشهر له في الحكم. نتنياهو لا يستطيع التوفيق بين صيانة ائتلافه الحكومي بأقطابه المتطرفين والعنصريين، الذين يرفضون التخلي عن خطة التعديلات القضائية، واحتواء الحركة الاحتجاجية الضخمة في البلاد، وتعهد المتظاهرين بالعودة إلى الشوارع والساحات العامة إذا لم يتخل عن الخطة. كما أن نتنياهو لن يستطيع الموازنة بين متطلبات العلاقات مع واشنطن، واقرار خطته للتعديلات القضائية. بمعنى آخر، وأكثر فظاظة، على نتنياهو أن يختار بين ايتمار بن غفير وتطرفه الديني والعنصري، وجوزيف بايدن ودعمه السياسي والعسكري المحوري لإسرائيل خلال المرحلة الحرجة التي زجها بها نتنياهو وحلفائه.