أظهر الرئيس جوزيف بايدن، بمواقفه وقراراته وتعييناته، أنه يدرك إن الولايات المتحدة تواجه بالفعل تحديات داخلية وخارجية نادراً ما واجهها أسلافه، ويمكن وصف أسلوبه بالعمل خلال أول يومين له في البيت الابيض أنه رجل يسعى حثيثاً لمحو آثار السياسات والقرارات المتهورة، وحتى الانقلابية، التي اتخذها سلفه دونالد ترامب في الداخل والخارج، وهي عملية معقدة وسوف تستحوذ على الكثير من طاقاته ووقته.
هناك أخطر جائحة تواجهها الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن، وأسوا أزمة اقتصادية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وعالم تحاول فيه دول صاعدة اقتصادياً، مثل الصين، تحدي نفوذ واشنطن اقتصادياً في العالم واستراتيجيا في شرق آسيا، ومثل روسيا التي تلجأ إلى استخدام الهجمات الالكترونية لإضعاف الولايات المتحدة داخليا وتحدي حلفائها في أوروبا. في الشرق الأوسط، سيواجه الرئيس بايدن عدداً من دول المنطقة، ومنها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وتركيا، ومن وخارجها (روسيا) تتصارع فيما بينها لتقرير مستقبل دول أخرى ضعيفة انزلقت في السنوات الماضية إلى حروب أهلية. معظم هذه الدول، باستثناء روسيا وإيران، حليفة لواشنطن، ولكنها ترى أن الاستثمار الاستراتيجي والسياسي في المنطقة ينحسر، وأن عليها أن تصون مصالحها وتحقق طموحاتها بنفسها. ولكن إدارة بايدن لن تقوم بمبادرات جذرية لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وليس لديها توقعات سريعة بإحياء الاتفاق النووي مع إيران، أو لعب دور هام في الحرب السورية. حتى اصلاح العلاقات مع حلفاء قدامى، مثل تركيا والسعودية، لن تكون سريعة أو سهلة.
للمرة الاولى منذ حقبة الماكارثية في منتصف خمسينات القرن الماضي، حين تعرضت الحريات المدنية لضغوط قوية باسم مكافحة الشيوعية، تواجه الديموقراطية الأميركية بقيمها ومؤسساتها، تحدياً خطيراً كما كشف اجتياح مجموعة من الرعاع والمتطرفين والعنصريين البيض لمبنى الكابيتول، قد لا تخرج منه الولايات المتحدة دون عنف إضافي. ومع مرور كل يوم تكشف التحقيقات إن ما حدث في السادس من يناير في واشنطن هو أخطر مما اعتقده الكثيرون فور انتهاء احتلال الكابيتول لبضعة ساعات. الاجتياح لم يكن نتيجة تهور وحماس مفاجئ لجمهور غير منضبط، بل نتيجة تخطيط من قبل جماعات متطرفة تهدف إلى خلق حقائق سياسية جديدة. الولايات المتحدة كانت محظوظة لأن التخطيط كان رديئاً وضعيفاً، ما أدى الى اخفاق الاجتياح واعتقال بعض قادته.
إعادة العافية للديموقراطية الأميركية والوحدة الوطنية، وهي القضايا الملحة التي شدد عليها الرئيس بايدن في خطاب القسم، سوف تستغرق وقتاً طويلاً لأن اجتياح الكابيتول هو نتيجة سنوات طويلة من التضليل ونشر نظريات المؤامرة وشيطنة الأخرين، ولذلك فإن معالجة هذه الآفات التي تعاني منها الديموقراطية الأميركية سوف تستغرق بعض الوقت، وسوف تتطلب مراجعة ذاتية نقدية لن تكون سهلة.
كما كان متوقعاً ركز الرئيس بايدن خطابه على القضايا الداخلية الملحة، ولكنه طمأن العالم الخارجي أن الولايات المتحدة قد تعرضت لامتحان صعب “ولكنها خرجت منه أقوى مما كانت”. وأضاف ” سوف نعيد اصلاح تحالفاتنا، وسوف نتعامل مع العالم من جديد، ليس لمواجهة تحديات الأمس، بل تحديات اليوم والغد. وسوف نقود (العالم) ليس فقط بسبب مثال قوتنا، بل بقوة مثالنا، وسوف نكون شريكاً قوياً وموثوقاً به من أجل السلام والتقدم والأمن”.
المسؤولون الذين اختارهم الرئيس بايدن لإدارة سياساته الخارجية والأمنية، مثل وزير الخارجية والدفاع انطوني بلينكن ولويد أوستن، ونائبة بلينكين، ويندي شيرمان، والمدير المعين لوكالة الاستخبارات المركزية (السي آي ايه) ووليام بيرنز لهم خبرة في شؤون الشرق الأوسط وساهموا في رسم سياسات واشنطن في المنطقة خلال ولاية الرئيس باراك أوباما. ولعبت ويندي شيرمان ووليام بيرنز أدواراً رئيسية في المفاوضات التي أدت الى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا.
أعلن الرئيس بايدن في أكثر من مناسبة خلال حملته الانتخابية إنه يريد إحياء الاتفاق النووي مع إيران إذا وافقت طهران على العودة للعمل ببنوده. ولكنه يضيف أنه يريد أن يستأنف المفاوضات لتطوير الاتفاق ليشمل الترسانة الصاروخية الإيرانية الهامة، والتي تجاهلها الاتفاق الموقع في 2015، وكذلك ضبط السلوك الإيراني الإقليمي السلبي. وخلال مثوله أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قال الوزير المعين بلينكن إنه في حال عودة إيران إلى الالتزام بالاتفاقية، عندها ستعمل الولايات المتحدة مع حلفائها “لبناء اتفاقية أقوى ومدتها أطول لتشمل قضايا أخرى مثل الصواريخ ونشاطات إيران التخريبية في المنطقة” ولكنه نبّه أن بلاده “لا تزال بعيدة عن هذه المرحلة… ولا أعتقد أن هذا سيحدث في أي وقت قريب”. وشددت أفريل هاينز مديرة الاستخبارات الوطنية حين قالت للجنة الاستخبارات “بصراحة، لا نزال بعيدين كثيراً عن تلك المرحلة”. ويتوقع المسؤولون والمحللون الأميركيون أن تعارض طهران وضع قيود جدية على قدرتها على تطوير صواريخ باليستية، كما ستقاوم بشدة أي قيود جدية على تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية.
ومن المتوقع أن تتعرض العلاقات الأميركية-السعودية لبعض التوتر بسبب الخلاف حول حرب اليمن، التي تريد إدارة الرئيس بايدن إنهائها. وقال وزير الخارجية المعين بلينكن إن الرئيس بايدن “يريد مراجعة مجمل العلاقات مع السعودية لضمان أنها لن تتعارض مع مصالح وقيم الولايات المتحدة”. بلينكن وضع اللوم على الحوثيين وعلى السعودية في زج اليمن بأسوأ أزمة إنسانية في العالم. وفي هذا السياق انتقد قرار إدارة الرئيس ترامب في أيامها الأخيرة تصنيف الحوثيين كتنظيم إرهابي، لأن ذلك سيؤثر سلباً على ايصال المساعدات الانسانية لليمنيين المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وقال إن حكومته ستعيد النظر بالقرار. وجدد بلينكن “عزم الرئيس بايدن على إنهاء دعمنا للحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن، وسوف يفعل ذلك بسرعة”. ولكن بلينكن أضاف إن الولايات المتحدة سوف تساعد السعودية في الدفاع عن نفسها إذا تعرضت لاعتداء من الحوثيين.
وسوف تتعرض العلاقات الأميركية-التركية لتوترات إضافية، لأن الرئيس السابق ترامب لم ينتقد بقوة قرار الرئيس طيب رجب أردوغان شراء منظومة صواريخ أس-400 المضادة للطائرات، وبسبب سجله الرديء بشأن حقوق الانسان. الوزير المعين بلينكن أشار إلى احتمال زيادة العقوبات المفروضة على تركيا “المسماة شريكاً استراتيجيا”.
إدارة الرئيس بايدن لن تلغ قرار الرئيس السابق ترامب نقل السفارة الأميركية من تل ابيب إلى القدس، كما رحبت باتفاقيات إبراهام، والتي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والامارات والبحرين والسودان والمغرب. وتحدث بلينكن عن أهمية التعاون “مع حلفائنا وشركائنا في المنطقة، وهذا يشمل إسرائيل ودول الخليج”. وأضاف، إن إدارة بايدن سوف تحاول البناء على اتفاقيات تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية، التي اعتبرها تطوراً إيجابياً. وفي هذا السياق كرر بلينكن القول إن الرئيس بايدن لا يزال يؤمن بحل الدولتين للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكنه اعترف إنه لا يرى إمكانية لتحقيق تقدم في المفاوضات في هذه الظروف.
ومن المتوقع أن تركز الإدارة الجديدة جهودها في الأشهر المقبلة على إصلاح العلاقات الأميركية-الأوروبية، وتحديداً دول حلف شمال الناتو، بعد أن زعزعها الرئيس ترامب الذي قلل من أهمية الحلف. كما سيحاول بايدن والوزير بلينكن إصلاح العلاقات مع كندا والمكسيك ومع حلفاء واشنطن في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية. الرئيس بايدن قد يخفف من وتيرة الانسحابات العسكرية من الشرق الأوسط، ولكنه يريد سحب القوات من أفغانستان إذا تم التوصل إلى اتفاق بين حكومة كابول وحركة طالبان.
الرئيس بايدن يدرك إن هناك تيار قوي في الحزب الديموقراطي يريد تقليص الالتزامات العسكرية في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، ويعارض بقوة استخدام القوة العسكرية إلا إذا كان ذلك في سياق الدفاع عن النفس. ويجب التذكير بأن الرئيس بايدن كان من مؤيدي قرار غزو العراق حين كان عضواً في مجلس الشيوخ، وكان نائباً للرئيس أوباماً حين أيدت الولايات المتحدة الحرب في اليمن، كما أن معظم أركان إدارته خدموا أيضاً في إدارة الرئيس أوباما. ويرى محللون إن هؤلاء المسؤولين يقولون إنهم استفادوا من تجربة وأخطاء إدارة الرئيس أوباما في المنطقة، وسوف يحاولون تفاديها إن كان في تعاملهم مع أزمات اليمن والعراق، وفي أي مفاوضات جديدة مع إيران.