عندما التقى البابا فرنسيس بآية الله العظمى علي السيستاني، أهم رجل دين شيعي في العراق وخارجه، في منزله المتواضع بالنجف، تركز معظم التغطية الإعلامية على الأهمية الدينية للمسيحيين والمسلمين. لكن زيارة البابا، وهي الأولى من نوعها على الإطلاق مع مرجع شيعي رفيع المستوى يحمل لقب آية الله، أظهرت دور السيستاني والنخب الدينية كجهات فاعلة سياسياً.
في غالبية الأدبيات حول المذهب الشيعي في الإسلام، هناك تناقض حاد بين الحكم الديني في إيران، حيث يحتفظ رجل الدين بالسلطة المطلقة على شؤون الدولة، وبين رجال الدين في العراق، الذين يعتبرون رسمياً جزءاً من المدارس الشيعية الأكثر هدوءً، ما يعني استبعادهم رسمياً عن أمور السياسة. فرجال الدين العراقيون أنفسهم يخبرون الزوار الأجانب أنهم لا يتدخلون في السياسة إلا للضرورة (المصلحة)، وهي مفهوم في الفقه الإسلامي يتم الدفع به – تقليدياً في أوقات الخطر الشديد – لحماية رفاهية عامة الناس.
ومع ذلك، فإن الدور الذي يلعبه العديد من رجال الدين العراقيين يدمج في الحقيقة ما بين الدين والسياسة، الأمر الذي يلقي بنوع من الضبابية على تأثيرهم عبر هذين المجالين. منذ غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003، دخل رجال الدين المعترك السياسي بمنعطفات حاسمة. وهكذا برزت سلطة رجال الدين كجهة فاعلة خارج الدستور. ومع ذلك، لم يُظهر السيستاني أي اهتمام باتباع النموذج الديني الإيراني وإضفاء الطابع الدستوري على سلطته.
من خلال استعراض خطب الجمعة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات عبر الإنترنت على مدار العامين الماضيين، عبّر العديد من رجال الدين العراقيين، وليس السيستاني فقط، عن آرائهم السياسية. فقد أعربوا عن دعمهم للحركة الاحتجاجية المناهضة للحكومة، والتي بدأت بشكل جدي في كبرى المدن العراقية في عام 2019، كما أعربوا عن معارضتهم للفساد المستشري داخل الحكومة، وازدرائهم للعنف الطائفي المستمر، وضرورة الإصلاح الانتخابي. في الوقت الحالي، ينصب تركيز المشاركة السياسية لرجال الدين على قضيتين: الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في أكتوبر/تشرين الأول، والاحتجاجات المتواصلة في جميع أنحاء البلاد.
إن ما يثير الاهتمام بشكل خاص فيما يتعلق بآراء رجال الدين في التظاهرات هو أن المحتجين الشيعة يعارضون حكومة يقودها الشيعة، ويدعمهم في ذلك العديد من رجال الدين. وهكذا، ففي الوقت الذي يعرب فيه بعض رجال الدين عن دعمهم للمحتجين، فإنهم حقيقةً يشكلون جزءاً من المعارضة ضد الحكومات الشيعية المتعاقبة، والتي كانوا يأملون أن تشكل خلاصهم بعد عقود من القمع تحت حكم الدكتاتور العراقي صدام حسين.
في بعض الحالات، عملت وجهات نظرهم الصريحة، والتي غالبًا ما توصف بأنها ذات ميول علمانية على رفع شعبيتهم بين الشباب العراقي. في بداية الاحتجاجات، كان قادة الاحتجاجات يصبون للحصول على دعم السيستاني. وحسب إحصائيات منظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى لحقوق الإنسان، فإنه قد تم قتل أكثر من 600 عراقي في التظاهرات وأصيب 16 ألفًا آخرون.
يلقي العراقيون باللائمة في أعمال العنف على الميليشيات المدعومة من إيران داخل قوات الحشد الشعبي، الذي يعتبر رسمياً جزءاً من جهاز أمن الدولة العراقية. ودعا العديد من المحتجين إيران إلى التوقف عن التدخل في شؤون بلادهم. في عام 2014، أصدر السيستاني فتوى دعا فيها جميع العراقيين إلى حمل السلاح ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، خشية أن يغزو بغداد والمدن الشيعية الرئيسية. كان المسلحون آنذاك قد احتلوا بالفعل الموصل وأجزاء كبيرة من البلاد. ولبى الدعوة الآلاف من الشيعة، ليس فقط من العراق، وإنما من الدول العربية المجاورة أيضاً. ومع مرور الوقت، خضعت الميليشيات لسيطرة قادة قوات الحشد الشعبي الذين تدعمهم إيران. واليوم، تتصرف الميليشيات خارج سيطرة الحكومة العراقية وتعتبر مصدراً كبيراً لعدم الاستقرار.
في البصرة جنوبي العراق، التي تعتبر مركز الحركة الاحتجاجية، كان آية الله محمد اليعقوبي من المؤيدين صراحة للاحتجاجات، ومن المنتقدين الدائمين للحكومة التي يقودها الشيعة، والتي تتألف من الأحزاب الشيعية وقادة الميليشيات، الذين يعتقد المحتجون وبعض رجال الدين أنهم فاسدون. وندد اليعقوبي بشكل خاص بالعنف الذي شنته قوات الحشد الشعبي على المحتجين. وفي ردهم على أعمال العنف التي تعرضوا لها، هاجم المحتجون المباني التي تؤوي عناصر من قوات الحشد الشعبي والقنصلية الإيرانية في النجف وأضرموا فيها النيران.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد وقت قصير من بدء الاحتجاجات، أصدر اليعقوبي بيانًا جاء فيه: “أعتقد أن من أثمن الثمار التي حققها الشباب في انتفاضة التحرير هي استعادة الهوية الوطنية التي سلبها الطائفيون، والفاسدون، والعملاء، حتى إنهم أفقدونا الأمل… لكن الشباب الشجاع فجّر هذا البركان في نفوس الجميع… أدعو الحكومة والقادة السياسيين والعسكريين أن يدركوا أن هؤلاء الشباب هم الثروة الحقيقية للبلاد”.
كما أن كمال الحيدري، وهو رجل دين شيعي من العراق، ويعيش الآن في إيران، قد أيد التظاهرات وطالب بالإصلاح: “هيمنت طبقة فاسدة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقادت الأمة إلى حالة من اليأس والإحباط في داخل الوطن”.
إحدى أبرز المظالم لدى المحتجين هي الافتقار إلى الشفافية في الانتخابات الوطنية، والتنافس على السلطة بين الفصائل السياسية بعد إغلاق صناديق الاقتراع. بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2018، مرت أشهر قبل اتفاق النخب السياسية على رئيس للوزراء. وبحسب القانون العراقي، يمكن تشكيل حكومة جديدة من قبل السياسي الذي يستطيع أن يضمن الدعم الأكبر من بين الكتل النيابية بعد إجراء الانتخابات.
كان وكلاء إيران العراقيون في المفاوضات السبب الرئيسي للتأخير في عام 2018، لأنهم حاولوا التأثير على عدد من الكتل البرلمانية لكي يضمنوا أن يسعى أي رئيس وزراء جديد إلى تعزيز مصالح طهران في العراق. وهذا ما تسبب في المأزق.
تسلّم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي السلطة في عام 2020، بعد أن اضطر رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، بسبب مطالب نشطاء المجتمع المدني والمحتجين. وافق الكاظمي، رئيس الوزراء المؤقت، على إجراء انتخابات برلمانية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بدلاً من 2022 كما كان مقرراً في البداية، وهو مطلب آخر من مطالب المحتجين.
في يناير/كانون الثاني، في كلمة ألقاها أحد أنصار اليعقوبي، بمناسبة ذكرى وفاة فاطمة الزهراء، ابنة النبي محمد، تمت قراءة بيان منسوب إلى اليعقوبي أكد فيه مجدداً على مطالبته بالإصلاح السياسي والانتخابي بشكل خاص.
يشير بيان اليعقوبي إلى خيبة أمل العراقيين من النظام الانتخابي؛ ووفقًا لخبراء عراقيين، فقد أدلى ما يقدر بنحو 20٪ من أصحاب حق الاقتراع بأصواتهم في عام 2018، على الرغم من أن التقديرات الرسمية للمشاركة كانت حوالي 44٪ من الناخبين. واستجابة لمطالب المحتجين، أصدرت الحكومة قانوناً انتخابياً جديداً. وعلى الرغم من أن القانون الجديد يحافظ على نفوذ العديد من الأحزاب السياسية القائمة، إلا أنه يسمح للمستقلين بالإضافة إلى الفصائل والأحزاب الصغيرة بالمشاركة في الانتخابات. دعم السيستاني قانون الإصلاح الانتخابي. في الواقع، في الأوقات الحاسمة، مثل اجتماع سبتمبر/أيلول 2020 مع الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس بلاشارت، حدد السيستاني المعايير التي يعتقد أنه يجب أن يشملها القانون. ودعا كذلك إلى إجراء انتخابات مبكرة.
كما تطرق مؤخراً رجل دين آخر، الشيخ عمار الربيعي، في صلاة الجمعة في البصرة إلى مسألة الانتخابات المقبلة. حيث حث أتباعه، خلال خطبة الجمعة في سبتمبر/كانون الثاني، على التصويت قائلاً إن ذلك واجب وطني، ودعا إلى زيادة الوعي العام في اختيار القادة. وحذر من “الفتنة التي تنجم عن وصول أشخاص غير مؤهلين” إلى السلطة، مشيرًا إلى “أساليبهم الفاسدة، مثل الخداع والتضليل والتمويه على الرأي العام، واستغلال السلطة لسلب الأموال السياسية”.
على الرغم من أن رجال الدين الرئيسيين يمارسون فعلاً السلطة السياسية من خلال نفوذهم الديني، إلا أن عدداً متزايداً من العراقيين، وفقًا لاستطلاعات الرأي، يقولون إنه لا مكان للدين في الحكم. في استطلاع للرأي أجراه المعهد الجمهوري الدولي، مقره في واشنطن العاصمة، في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول عام 2020، سُئل العراقيون عما إذا كان يجب أن يلعب الدين دورا في الحكومة. من بين الذين تم استطلاع آرائهم، قال 40٪ إنه يجب إبعاد الدين عن الشؤون الحكومية، وقال 26٪ إنه يجب أن تكون مبادئ التعاليم الدينية أحد الاعتبارات، ولكن لا يجب أن تكون الاعتبار الوحيد.
الزمن وحده سوف يحدد ما إذا كان رجال الدين العراقيون يستطيعون الاستمرار في المحافظة على فارق ضئيل بين الدين والسياسة: مناصرة مظالم المتظاهرين وتلبية مطالبهم المشحونة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية. ستكون نتيجة الانتخابات القادمة بمثابة اختبار لهذا التأثير الديني، ولمدى التحكم الذي يمكن للمحتجين، وغالبيتهم من الشباب، أن يواصلوا ممارسته على السياسة العراقية.