ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
تصعيد الضغوط من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد إيران، الذي توقعنا حدوثه في مقالة الأسبوع الماضي، في سياق ابتعاد أو حتى انسحاب الولايات المتحدة عن الاتفاق النووي الدولي مع إيران، أصبح الشعار الرسمي للرئيس ترامب في تعامله في المرحلة المقبلة مع إيران. في الواقع، استخدم الرئيس الأمريكي فرصته الأولى لمخاطبة العالم من وراء منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليوجه تهديدات ويتقدم بشروط صعبة، وقد يراها البعض تعجيزية، لكل من إيران التي جمدت مؤقتا برنامجها النووي، وكوريا الشمالية التي تواصل بسرعة كبيرة برامجها النووية والصاروخية حيث بدت –أكثر من إيران- وكأنها تسير على طريق مواجهة شبه حتمية مع الولايات المتحدة، مع خطر استئناف الحرب الكورية منذ توقف القتال في شبه الجزيرة الكورية دون اتفاق سلام في 1953. إشارات بعض المحللين العسكريين إلى احتمال إعادة نشر الأسلحة النووية التكتيكية في كوريا الجنوبية، فضلا عن حديث وزير الدفاع جيمس ماتيس عن وجود خيارات لاستخدام القوة العسكرية بطريقة لا تضحّي بعدد كبير من المدنيين الكوريين الجنوبيين في العاصمة سيول ومحيطها، أثارت قلق بعض المراقبين الذين رأوا فيها مؤشرا بأن المخططين العسكريين في وزارة الدفاع ربما يدرسون امكانية استخدام رؤوس نووية صغيرة الحجم لتحييد التفوق المدفعي الميداني لكوريا الشمالية.
وهناك قلق في أوساط الدبلوماسيين المحترفين، كما في مراكز الأبحاث والأوساط المختصة بشؤون الشرق الأوسط والأقصى، من أنه إذا قرر الرئيس ترامب بالفعل البدء بعملية تعطيل أو تقويض الاتفاق النووي مع إيران، فإنه سيجازف عندها بمواجهة “أزمتين نوويتين” في الوقت ذاته الأولى في الشرق الأوسط، والثانية في الشرق الأقصى مع نظامين شرسين لا يتصرفان بالضرورة وفقا للأعراف الدولية. وهذا التطور الخطير يمكن أن يحدث في الوقت الذي لم تعد فيه الولايات المتحدة دولة كبيرة تقود أحلاف قوية ومتماسكة، إن كان مع حلفائها التقليديين في أوروبا (حلف الناتو) أو مع حلفاؤها في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، لأن ترامب في أقل من سنة نجح في زعزعة علاقات واشنطن التقليدية القوية مع هذه الدول.
مضمون تهديدات ترامب إلى نظام كوريا الشمالية الذي تديره “عصابة من المجرمين”، وإيران التي يحكمها “نظام إجرامي”، غير مألوفة، كما أن تهديد ترامب بأنه إذا اضطرت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها، عندها لن يكون “أمامنا غير خيار تدمير كوريا الشمالية بكاملها” صدم العديد من أعضاء الوفود الذين شهقوا بأصوات خافتة. خطاب ترامب أمام الدورة الثانية والسبعين للأمم المتحدة تاريخي بامتياز: بمضمونه ونبرته الحارقة، كما بتناقضاته وغرابته، وبتمسكه برؤية قومية انعزالية يلخصها شعار “أمريكا أولا”، وابتعاده عن المسلمات السياسية الليبرالية في السياسة الخارجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة عبر رؤسائها الديمقراطيين والجمهوريين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا الابتعاد عن المسلمات التقليدية جاء نافرا في غياب تأكيد ترامب، كما كان يفعل أسلافه من وراء منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، على التزام الولايات المتحدة بنشر قيم الديمقراطية ومؤسساتها والحوكمة الصالحة واحترام حقوق الإنسان. ولتأكيد هذا الموقف شدد ترامب إعجابه ببعض القادة الاوتوقراطيين خلال استقباله لهم على هامش أعمال الجمعية العامة، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان في الوقت الذي كانت الصحافة الأمريكية تبرز انتقادات سجل البلدين الرديء في مجال احترام حقوق الإنسان.
ترامب الباطني ؟
بعد خطابه الناري، دغدغ ترامب فضول الصحفيين الذين سألوه عما إذا كان قد حسم أمره بشأن تصديقه أو عدم تصديقه على التزام إيران بتطبيق الاتفاق النووي والذي يجب وفقا للقانون الأمريكي أن يتخذه كل تسعين يوما، المصادف في 15 من الشهر المقبل، قائلا “لقد اتخذت قراري”، ولكنه رفض الإفصاح عنه قائلا وهو يضحك : “سوف أخبرك بذلك” لاحقا. ولا أحد يعلم إلى أي وقت سيحافظ ترامب على باطنيته، كما لا يستطيع أحد أن يقول أنه لن يكشف أو يلوح لمضمون قراره في تغريدة، أو خلال سجال ودي – أو صدامي- مع الصحفيين. المؤشرات والتلميحات الضمنية في خطاب ترامب في الأمم المتحدة وتصريحات كبار المسؤولين مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، كلها ترجح رفض ترامب التصديق على التزام إيران بتطبيق “روح” الاتفاق النووي، والقول إن إصرار إيران على مواصلة برنامجها الصاروخي، ومواصلة دورها السلبي في العراق وسوريا واليمن، ودعمها لتنظيمات تصنفها واشنطن إرهابية مثل حزب الله، كلها تبرر هذا القرار.
وإذا حاول الرئيس ترامب عبر عدم تصديقه على التزام طهران بالاتفاق النووي، إرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات للحصول على تنازلات جديدة، فإنه من المرجح أن يعرض نفسه للفشل، ليس فقط لأن إيران ترفض ذلك، ولكن أيضا لأن روسيا والصين تؤيدانها في هذا الموقف. وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني قد كرر رفض حكومته القوي للعودة إلى طاولة المفاوضات حين قال للصحفيين في نيويورك إن التفاوض “مع حكومة أمريكية تدوس على اتفاق قانوني سيكون مضيعة للوقت”. قد يقبل حلفاء واشنطن في باريس ولندن وبرلين العودة إلى التفاوض، ولكنهم لا يؤيدون أي قرار أحادي الجانب بالانسحاب من الاتفاق. ويقول مؤيدو الاتفاق النووي، وخاصة المسؤولون السابقون الذين توصلوا إليه، ومعهم الكثير من المعلقين أنه إذا قرر ترامب تعطيل الاتفاق أو الانسحاب منه في غياب انتهاكات إيرانية واضحة، فإن ذلك سوف يجعل من المستحيل على الولايات المتحدة أن تقنع كوريا الشمالية بالتفاوض معها في المستقبل، لأن صدقية الولايات المتحدة واحترامها لتوقيعها على اتفاقيات دولية ملزمة ستتعرض لضربة كبيرة. وحتى الآن يقول مفتشو الوكالة الدولية للطاقة النووية وأجهزة الاستخبارات الأمريكية إن إيران ملتزمة بتطبيق بنود الاتفاق. واللافت هو أن موقف ترامب السلبي من الاتفاق النووي جدد النقاش في واشنطن حول الاتفاق النووي وجدواه والذي استعر خلال المفاوضات التي سبقته وتلت التوقيع عليه، وخاصة عدم شموله للبرامج الصاروخية الإيرانية، نظرا لمركزية الصواريخ في أي ترسانة نووية لأنها الوسيلة الرئيسية لحمل وإيصال الرؤوس النووية إلى أهدافها. كما أن النقاش أثار من جديد إخفاق إدارة الرئيس السابق أوباما في التصدي للدور الإيراني التخريبي في العراق وسوريا واليمن ولبنان خلال المفاوضات السرية والعلنية مع إيران. وكان الرئيس أوباما يتجنب الدخول في مواجهات مع إيران في الدول العربية التي تؤثر عليها أو حتى تهيمن عليها طهران، بحجة أن أي توتر في هذا المجال قد يدفع بإيران إلى الانسحاب من المفاوضات النووية. اللافت أن مسؤولين بارزين في إدارة أوباما، ومن بينهم نائب وزير الخارجية بيل بيرنز، الذي بدأ المفاوضات السرية مع إيران في سلطنة عمان، كانوا يؤكدون لأوباما أن إيران جاءت إلى طاولة المفاوضات مرغمة لأنها لم تعد قادرة على دفع الثمن الاقتصادي والسياسي لنظام العقوبات الدولية الصارم المفروض عليها آنذاك والذي أرغمها على تخفيض عملتها بنسبة 50 بالمئة وتخفيض صادراتها النفطية إلى النصف، وبالتالي فإن انسحابها من المفاوضات النووية لم يكن خيارا سهلا لأنها كانت بحاجة للاتفاق لكي تفلت من العقوبات وتتلقى عشرات المليارات من أموالها المجمدة في الولايات المتحدة.
ودعا وليام بيرنز في مقال كتبه مع زميله جايك سوليفان الذي شاركه في المفاوضات ونشرته صحيفة النيويورك تايمز إلى الحفاظ على الاتفاق، ورأى أن “الطريقة الذكية للتقدم هي في ابقاء القوى الدولية متحدة ووضع عبء مسؤولية تطبيق الاتفاق على إيران”، وتابع الكاتبان بالتأكيد أن “هذا يعني العمل مع شركائنا بشكل لا يكل لتطبيق الاتفاق، وتعزيز العقوبات التي تعاقب إيران على سلوكها السيء خارج إطار الاتفاق النووي، بما في ذلك برنامجها الصاروخي، ورعايتها للإرهاب، والعمل عن كثب مع شركائنا العرب لردع التدخلات الإيرانية في شؤونهم الداخلية، وأن نؤكد لإيران بوضوح قلقنا جراء انتهاكاتها لحقوق الانسان…”.