تلقت العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية التي تشكّل سمة أساسية من سمات المشهد السياسي في الشرق الأوسط وركيزة من ركائز الأمن العربي ضربة موجعة أخرى في 16 كانون الثاني/ يناير عندما أصدرت المحكمة الإدارية العليا المصرية حكمًا ببطلان اتفاقية القاهرة القاضية بنقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير غير المأهولتين اللتين تتمتّعان بموقع استراتيجي إلى الرياض. وتجمع الشراكة المصرية السعودية تباعًا بين البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكان والبلد الأغنى (وفقًا للناتج المحلي الإجمالي الوطني) في العالم العربي. ومنذ أن عادت المياه إلى مجاريها بين البلدين الذين يجمعهما تحالف قديم بعد وصول الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي إلى سدّة الرئاسة في عام 2014 اعتبر العرب من السنة هذا التحالف إلى حدّ بعيد كحصن أساسي ضد مجموعة من التهديدات الخطيرة والمتزايدة تشمل تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) واتّساع نفوذ إيران والاضطرابات السياسية كتلك التي حصلت في خلال “الربيع العربي” وتلتها بطبيعة الحال فترات طويلة من عدم الاستقرار. ولكن أدّت سلسلة من الخلافات إلى توتّر العلاقات بين القاهرة والرياض على نحو علني ومثير للقلق، لا سيّما بالنسبة لبعض بلدان الخليج العربية المقرّبة من البلدين. فما حجم الأضرار التي حصلت؟ وما وضع جهود الوساطة التي تبذلها الإمارات العربية المتحدة وغيرها؟ وكيف ستتطوّر العلاقات المصرية السعودية على المدى المتوسط والطويل؟
فالنزاعات المحددة كافة، كقضية الجزيرتين، ما كنت لتكفي منفردة للتسبّب بمستوى الاضطراب الحالي. ولكن عندما تجتمع، تشكّل مع الخلاف الجوهري الضمني الذي يؤدّي إلى معظم التوترات بين القاهرة والرياض مشكلة خطيرة للبلدين والعالم العربي بشكل عام والولايات المتحدة، الحليفة الأساسية لكليهما. (للحصول على معلومات مفصّلة حول خلفية العلاقات بين مصر وبلدان الخليج العربية بما في ذلك قضية جزيرتي تيران وصنافير الحالية مراجعة التقرير الصادر في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2016 عن معهد دول الخليج العربية في واشنطن، “الشراكة بين مصر ومجلس التعاون الخليجي: أساس الأمن الإقليمي بالرغم من التصدعات”).
من بين مجموعة من المخاوف الإقليمية، تحتل مسألة الدين والسياسة مكانة أساسية في الخلافات بين القاهرة والرياض. فالحكومة المصرية، تمامًا مثل حكومة الإمارات، ترفض رفضًا قاطعًا أي شكل من أشكال الإسلام المسيّس أو أسلمة السياسة في العالم العربي. وتتّفق مصر والإمارات العربية المتحدة على وجود درجات للتشدّد ضمن الحركات الإسلامية واختلافات بين الجماعات ولكن تعتبران أنها تنبع كافة من أصول مشتركة ولديها الافتراضات الأساسية المسبقة عينها التي تؤدّي إلى استنتاجات منطقية مماثلة بالرغم من الاختلافات الاستراتيجية والتكتيكية. ويرى البلدان بالتالي أن الإسلاميين بشكل عام يعملون ضمن سلسلة متكاملة فيعزّزون مكانة بعضهم بدلًا من التصدّي لهم بشكل عام ويرفضان فكرة الدور المفيد الذي قد يلعبه بعض الإسلاميين “المعتدلين” مثل الأحزاب التابعة للإخوان المسلمين في التصدي للإسلاميين الأكثر تشدّدًا مثل المجموعات السلفية الجهادية كالقاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام. يُعتبر الإسلاميون كافة كجوانب متعددة لتهديد رئيسي واحد. وتجلّت وجهة النظر المشتركة هذه بوضوح من خلال التعاون المصري الإماراتي في ليبيا، بما في ذلك العمل العسكري المشترك ضد الجماعات المتطرّفة هناك.
أما المملكة العربية السعودية فتنظر إلى بعض الجماعات الإسلامية ولا سيما بعض السلفيين كحلفاء في حالات محدّدة. فقد خفّفت مؤخرًا لدرجة ما من حدّة موقفها تجاه الإخوان المسلمين وتعاملت مع شخصيات سياسية تابعة لهم في اليمن ودعمت الثوّار الإسلاميين في سوريا وبعض أنحاء العالم العربي. تشكّل علاقة الإمارات العربية المتحدة بالسعودية حجر أساس سياسة أمنها القومي وتحرص على عدم السماح للخلافات حول موقفها من الجماعات الإسلامية بإلحاق الضرر بعلاقاتها مع الرياض. لذلك، تتعامل الإمارات بحذر شديد عمومًا مع السعودية عند الاختلاف في الآراء. في اليمن، اعتمدت طريقة عمل مختلفة نوعًا ما عن السعودية ولكن في مناطق مختلفة من البلاد؛ ففي حين تتمركز القوات الإماراتية حاليًا في الجنوب بشكل أساسي وتحارب الدولة الإسلامية والقاعدة تواصل السعودية معركتها ضد المتمرّدين الحوثيين وحلفائهم اليمنيين في الشمال. وفي سوريا، انحازت الإمارات للمقاربة الأمريكية والأردنية وأعطت الأولوية لمحاربة الدولة الإسلامية ونشطت في جنوب البلاد بالتنسيق مع واشنطن وعمان واتبعت خطواتهما. لم يؤدّ هذا الاختلاف في الأولويات إلى أي مشاكل كبرى مع السعودية.
في المقابل، تعارض موقف مصر على نحو متزايد مع موقف السعودية من سوريا. لم تُظهر القاهرة قط حماسًا كبيرًا لحملة الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد التي شكّلت ركنًا أساسيًا من أركان السياسة الخارجية السعودية والقطرية في السنوات الأخيرة وفي عام 2016 أصبحت معارضتها لتغيير النظام في دمشق أكثر علنية. وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر، عبّر السيسي صراحة عن دعمه لانتصار قوّات الأسد في النزاع. وتحسّنت العلاقات بين مصر وروسيا وشكّل الاتفاق الأساسي بشأن سوريا عنصرًا جوهريًا. وتجدر الإشارة إلى أن مصر هي حاليًا عضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي وقد صوّتت للقرارين الذين ترعاهما روسيا وفرنسا والذين يعكسان وجهتي نظر مختلفتين جدًا بشأن الوضع الراهن، والأهم من ذلك، مستقبل سوريا. وأثار دعم القاهرة لوجهة النظر الروسية غضبًا شديدًا في الخليج ولا سيما في السعودية وشكّل ذلك السبب المباشر الذي دفع بالرياض إلى وقف إمداد مصر بالنفط بالرغم من وجود اتفاقية تمتد على مدى سنوات متعددة بشأن شراء النفط بقيمة مخفضة. ووردت أيضًا تقارير حول إرسال مصر للدعم العسكري والمادي لمساندة نظام الأسد في دمشق ولكن ليس هناك أي دليل على ذلك ويرى معظم المراقبين أن هذا الأمر مستبعد جدًا.
لا بدّ من الذكر أن الخلافات بشأن سوريا هي أبرز مظهر من مظاهر هذا الاختلاف الأوسع نطاقًا حول الدين والسياسة. وفي حين حرصت الإمارات العربية المتحدة على عدم السماح لآرائها حول الموضوع المماثلة لآراء الحكومة المصرية بالتأثير في علاقاتها مع الرياض، كانت مصر أقل حذرًا وقد ظهر ذلك أيضًا في ما يتعلّق بالصراع في اليمن. فقد أملت الإمارات والسعودية أن تساهم مصر عسكريًا في الحملة في اليمن أكثر مما فعلت إذ شاركت القوات البحرية والبرية المصرية ولكن ليس بأعداد كبيرة. وأُفيد أن زيارة وفد من ممثلي الحوثيين إلى القاهرة في عام 2015 زادت من استياء الرياض.
يُعتبر الخلاف حول جزيرتي البحر الأحمر، تيران وصنافير، القضية الأكثر إثارة للجدل والتي اتّخذت حيّزًا هامًا من الجانب العلني للعلاقات المتوترة بين مصر والسعودية. وفي حين بنى المدافعون عن أحقيّة كل بلد بالجزيرتين قضية، تميل السجلات التاريخية لصالح الرواية المشتركة للحكومتين السعودية والمصرية التي تفيد بأن الجزيرتين نُقلتا مؤقتًا إلى عهدة مصر لمنع إسرائيل من الاستلاء عليهما في السنوات الأولى للصراع العربي الإسرائيلي. ولكن الحكومة المصرية أساءت التعامل مع المسألة ولم تعدّ الأسس السياسة لخطة النقل التي تم فرضها كأمر واقع واعتُبرت كضربة للعنفوان الوطني المصري. وسمح الاحتجاج العام الذي تلاها للمواطنين المصريين المعارضين للإدارة الحالية وللقوى الإقليمية ووسائل الإعلام المتعاطفة مع الإخوان المسلمين بتصوير الاتفاق كنوع من الخضوع المصري للنفوذ المالي والضغط السعوديين لا سيما وأنه قد أُعلن عن عملية النقل في أثناء زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى القاهرة في نيسان/ إبريل 2016. وأخطات أيضًا السعودية في قراءة المشهد السياسي في مصر. وبدت السعودية متطلّبة وثقيلة الوطء للكثير من المصريين وشاركت في عملية أدّت إلى الاختصام مع حليف أساسي وأضعفت إدارة السيسي التي لطالما عملت على دعمها. إن المنظمات والمحامين الذين رفعوا دعوات قضائية ضد الخطة في مصر هم من أشدّ منتقدي الحكومة الحالية مع العلم أن الشعب المصري بمختلف ميوله السياسية يعارض إلى حدّ كبير نقل ملكية الجزيرتين إلى السعودية. وسمح توقيت الإعلان لمنتقدي الخطة باعتبارها كمقايضة بالرغم من التاريخ المعقّد والحجج المتينة لنقل الملكية. وصُوّرت الحكومة المصرية خطأ على أنها “باعت” جزءًا من تراث مصر للمملكة العربية السعودية لتحقيق مكاسب مادية.
وترى الحكومتان نقل ملكية الجزيرتين كوفاء لتعهّد قطعته مصر للسعودية منذ عقود بإعادتهما ما إن يتضاءل التهديد الإسرائيلي، كما هو الحال حاليًا بنظرهما، فضلًا عن تسهيل لمشروع بناء ضخم سيتكفّل السعوديون بتكاليفه كافة تقريبًا. وكان لا بدّ من تفسير كل ذلك مسبقًا للمواطنين المصريين. وبدلًا من ذلك، سُمح للخلاف على الجزيرتين بالظهور كرمز للانحدار العام لمصر ولا سيّما فقدان نفوذها الإقليمي واعتمادها الملموس على المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربية الغنية واعتبارها أدنى مرتبة منها. ويشكّل هذا الجدال بالتالي نموذجًا عن الحالة المعنوية الوطنية المصرية المثبطة بالمعنى العريض ومتنفّسًا لها، فضلا عن استخدامه كوسيلة لتأنيب إدارة السيسي وتصويرها على أنها لا تتمتع بحسّ وطني كاف.
إن الحكم الأخير الذي صدر عن المحكمة ليس نهائيًا بأي حال من الأحوال. فالحكومة تخطط للطعن لدى هيئة قضائية أخرى وأحالت المسألة إلى البرلمان أيضًا إذ تدّعي أنه الهيئة الوحيدة القادرة على اتخاذ قرار نهائي بشأن المسألة. وتتفق المصادر المصرية المطّلعة على أن الخلاف سيستمر على الأرجح لأشهر وربما لن يتم حلّه قبل منتصف العام على الأقل إن ليس في وقت لاحق. ولكن المصريين ليسوا وحدهم المغتاظين من هذه القضية. ففي حين حافظت الحكومة السعودية على موقف حذر وهادئ نسبيًا بشأن الخلاف في الأشهر الأخيرة، عبّر بعض المعلقين السعوديين عن امتعاضهم واقترح عدد منهم احتمال إحالة القضية إلى التحكيم الدولي.
وبرز توتر إضافي بين القاهرة والرياض في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2016 عندما زار وفد سعودي رفيع المستوى مشروع سد النهضة في إثيوبيا الذي تعتبره مصر مصدر تهديد لإمدادات مياه نهر النيل الهامة جدًا بالنسبة إليها. واعتُبرت الزيارة في القاهرة كدعم سعودي ضمني للمشروع وأثارت احتجاجات من مصريين رفيعي المستوى. وأجاب المعلّق السعودي المرموق عبد الرحمن الراشد قائلًا إن أهمية مصر لدى المملكة العربية السعودية أكبر من أهمية إثيوبيا ولكن “إذا لم تسلك مصر درب الإصلاح سريعًا ستخسر فرصًا تاريخية في الخليج ولن تصبح شريكًا اقتصاديًا ضخمًا. فضلًا عن ذلك، ستستمر بطلب المساعدة ومن المستحيل مواصلة تقديمها.”
وكما ذُكر سابقًا، إن الإمارات العربية المتحدة قلقة بشكل خاص من هذا الخلاف بين أهم حلفائها الأساسيين. فالمملكة العربية السعودية أساسية لاستراتيجية أمنها القومي في حين تتفق مع مصر حول مسألة الإسلاميين الرئيسية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، قام ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد بزيارتين سريعتين متتاليتين لمصر ومن ثمة السعودية في محاولة على ما يبدو لوساطة عالية المستوى بين قوّتين عربيتين أساسيتين. وعلى نحو مثير للاهتمام ربما للسخرية، رحّبت الحكومة السورية وغيرها بهذه الجهود. ولكن يبدو أنها لم تحقّق نتائج ولا تزال التوترات حول سوريا والجزيرتين ومسائل أخرى قائمة. وتفيد مصادر إماراتية أن الإمارات لم تتخلَّ عن محاولات التقريب بين الطرفين ولكنها تواصل ذلك عن طريق “المحادثات” بدلًا من الوساطة وتحاول القيام بالأمور بهدوء بما أنه من المستبعد التوصل لنتيجة فورية على المدى القصير.
ولكن على المدى الطويل، سترى الإمارات على الأرجح تحسّن الأوضاع بين حليفتيها الأساسيتين. ولا تزال السعودية وحلفاؤها في دول الخليج العربية ملتزمة بشكل أساسي باستقرار مصر وتعتبرها مهمة جدًا بالرغم من التوترات مع الرياض وأكبر من أن تفشل بكل ما للكلمة من معنى. وساهمت السعودية وحدها بطريقة أو بأخرى بمبلغ قيمته 25 مليار دولار في الاقتصاد المصري منذ عام 2013 وتتدفّق مليارات إضافية من بلدان خليجية أخرى أبرزها الإمارات. وحتى في الوقت الذي كانت فيه الخلافات تزداد حدّة في الصيف المنصرم، تعهّدت السعودية بمبلغ ملياري دولار في مساعدة مباشرة للخزينة المصرية، من جهة لمساعدة مصر على تأمين قرض هام جدًا من صندوق النقد الدولي. وعندما قطعت السعودية إمدادات النفط بعدما دعمت القاهرة قرار مجلس الأمن بشأن سوريا الذي يحظى برعاية روسية (وهذا إجراء سعودي آخر اعتبره بعض المصريين قسريًا ومستبدًا) تدخّلت الكويت حليفة الرياض في مجلس التعاون الخليجي وقدّمت صفقة بسعر مخفّض للتعويض عن معظم النقص. وضَمن اتفاق منفصل مع العراق معظم احتياجات مصر من الطاقة للمستقبل المنظور، مع العلم أن استئناف إمدادات الطاقة السعودية بشروط ميسرة سيشكّل مؤشرا رئيسيًا للتقارب على نطاق أوسع بين البلدين.
يتوقّع المراقبون من الأطراف كافة حصول هذا التقارب في نهاية المطاف لأن لا مصر ولا دول الخليج العربية، ومن ضمنها المملكة العربية السعودية، يمكنها الاستغناء عن تعاون الطرف الآخر الأساسي ودعمه لا سيّما في ظلّ سلسلة التحديات الأمنية المحلية والإقليمية غير المسبوقة التي تواجهها الدول العربية. ومن المستبعد جدًا أن تتجاوز التوترات بشأن المسائل من مثال الحرب في سوريا أو اختلاف وجهات النظر حول الاختلافات بين الفصائل الإسلامية الضرورات الاستراتيجية التي ستدفع بالقاهرة والرياض على المدى الطويل إلى العمل معًا في مجالات حيوية متعددة تهمّ الطرفين. سيستغرق حلّ قضية الجزيرتين على الأرجح وقتًا طويلًا في متاهة النظام القانوني والإداري والسياسي في مصر حيث أن المماطلة بالقضية لأجل غير مسمّى تناسب الأطراف كافة في القاهرة وذلك لتجنّب مواجهة تامّة مع الرأي العام المحلّي أو السعودية. وفي حين يصعب توقّع النتيجة الي ستسفر عنها قضية الجزيرتين، لن تنهار العلاقات بين البلدين بالرغم من الامتعاض والانزعاج الذين سيظهران حتمًا في الرياض حتى لو فشلت الخطة وتراجعت مصر عن تسليم الجزيرتين للسعودية. وصف مراقبون مطّلعون من مصر والسعودية والإمارات العلاقة “بالزواج المتأزّم” ولكنه سيدوم بالرغم من الاختلافات من دون أي احتمال للطلاق.