ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تكشف تغطية وسائل الإعلام الإيرانية، الخاضعة لرقابة الدولة، للمناورات الدبلوماسية التي قامت بها المملكة العربية السعودية مؤخرًا عن حسد وإعجاب، حيث حث المحللون النظام الإيراني على اتباع استراتيجية مماثلة. إن موافقة السعودية على تطبيع العلاقات مع إيران، مع سعيها إلى إبرام اتفاق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بوساطة أمريكية، والتعاطي مع الولايات المتحدة والصين وروسيا وفقًا لمصلحتها الخاصة، يجب أن يكون نموذجًا تحتذي به إيران، التي سلبها عداؤها للولايات المتحدة القدرة على القيام بمناورات مماثلة. وقد يُعزى سماح الرقابة الإيرانية بمثل هذه المناقشات إلى اقتناع بعض النخب والمؤسسات الحاكمة في إيران بأن موقف طهران غير المتوازن تجاه بكين وموسكو جعلها شديدة الاعتماد على الشرق، مما يتطلب الانفتاح على واشنطن لاستعادة التوازن.
طوال تاريخها الحديث، كان قادة إيران، وربما شعبها إلى حد كبير، ينظرون إلى السعودية باعتبارها تابعة للولايات المتحدة، وليس كقوة إقليمية مستقلة لها مصالحها الخاصة. وبينما اتهم الشاه محمد رضا بهلوي السعودية بخدمة المصالح الاقتصادية الغربية بمعارضتها لسياسة رفع أسعار النفط الإيرانية في منظمة أوبك، اتهمت الجمهورية الإسلامية السعودية بأنها ليست سوى أداة في يد الولايات المتحدة. وفي خطابه الشهير الذي أعلن فيه قبول وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة لإنهاء الحرب مع العراق في 20 يوليو/تموز 1988، اتهم آية الله العظمى روح الله الخميني آل سعود بنشر ما أسماه “الإسلام الأمريكي”، “وزرع الفتنة بين المسلمين”، و”والانحناء لسيدهم الأعلى، أمريكا الجشعة”. بهذا المنطق، نظرت طهران، خاصة في ظل الجمهورية الإسلامية، إلى العلاقات الإيرانية-السعودية باعتبارها أحد مكونات العلاقات الإيرانية-الأمريكية، لذا استهدفت إيران في بعض الأحيان السعودية كوسيلة للانتقام من الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة ضد إيران.
ولم تتغير نظرة القيادة الإيرانية للسعودية، حتى بعد صعود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة. إلا أنه مع ترسيخ النظام الجديد لمكانته في الرياض، بدأ المحللون وصناع السياسات في طهران ينظرون شيئًا فشيئًا إلى السعودية كجهة فاعلة مستقلة تسعى إلى تحقيق مصالحها، بعيدًا عن الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى.
في مقابلةٍ أجراها مع وكالة شفقنا الإخبارية الشيعية بتاريخ 1 أغسطس/آب، أشاد مير قاسم مؤمني، الخبير في الشؤون الإقليمية البراجماتي، ضمنيًا بقدرة الرياض على المناورة الدبلوماسية، لكنه حذر أيضًا من تداعيات اتفاق التطبيع المحتمل بين السعودية وإسرائيل. وبشأن إعلان العاشر من مارس/آذار، الذي وقعته كل من إيران والسعودية والصين، والذي وافقت فيه إيران والسعودية، من بين أمورٍ أخرى، على استعادة العلاقات الدبلوماسية، قال مؤمني، “تخشى السعودية من نشوب حرب بين إيران وإسرائيل، وتشعر بأن الصواريخ الإيرانية قد تستهدفها في أي حرب. لتأمين نفسها، توصلت إلى اتفاق تقول فيه “ليس لدي أي مشكلة معكم. دعوني وشأني!”. وحذر مؤمني أيضًا قائلاً، “إن علاقة السعودية بإيران هي علاقة نفعية، أما علاقتها بإسرائيل فتقوم على المصالح المشتركة”.
كان هذا أيضًا رأي أصغر زركار، الأستاذ في جامعة آزاد الإسلامية فرع طهران. حيث قال في مقابلةٍ أجراها في الثالث من أغسطس/آب مع وكالة انتخاب الإخبارية الإصلاحية، إن السعودية وافقت على تطبيع العلاقات مع إيران “لتأمين خططها للتنمية الاقتصادية” ضد الهجمات الإيرانية المحتملة، وتقوم في الوقت نفسه بتطبيع “العلاقات القائمة بالفعل مع إسرائيل” بما يتماشى مع مصالح أمنها القومي.
وسرعان ما انضم دبلوماسي سابق إلى جوقة المحللين والأكاديميين الذين أعربوا عن إعجابهم الشديد بالدبلوماسية السعودية. في مقابلةٍ أجراها في العاشر من أغسطس/آب مع شبكة شرق الإخبارية الإصلاحية، قال قاسم محب علي، المدير السابق لشؤون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الإيرانية، إن “جميع دول الخليج الفارسي حاولت التقرب من إيران من أجل تقليل تكلفة علاقاتها مع إسرائيل”، في إشارة إلى التهديدات الإيرانية بشن هجمات على تلك الدول. كما انتقد محب علي “افتقار إيران إلى القدرة على المناورة الدبلوماسية” لمواجهة مناورات الدول العربية.
وفي حين امتنع محب علي عن توضيح ما يعنيه بـ”افتقار إيران إلى القدرة على المناورة الدبلوماسية” صراحة، أشاد محلل الشؤون الإقليمية حمزة صالحي بسياسة السعودية الخارجية المرنة، ووجه انتقادات لاذعة لسياسة إيران الخارجية، في مقال نُشِر في 25 أغسطس/آب في صحيفة انتخاب.
وكتب صالحي، “بتبنيها سياسة مرنة ومتوازنة، وخطة للتقارب التكتيكي مع الصين، لم تنجح السعودية في جذب انتباه الولايات المتحدة فحسب، بل جعلت الصينيين يتقربون منها للحد من النفوذ الأمريكي في المنطقة. فمن خلال المرونة والمناورات التكتيكية المرتكزة على مصالحها الوطنية، تمكنت السعودية من انتزاع امتيازاتٍ كبيرة من الطرفين”. وأضاف، “في المقابل، أضرّت إيران بقدرتها على المناورة، وقللت من قيمتها الجيوسياسية، باتباعها مسارًا واحدًا وسياسةً متعنتة”. واقترح صالحي وسيلة لاستعادة سياسة خارجية أكثر توازنًا، حيث حثّ المسؤولين الإيرانيين على إحياء الاتفاق النووي، أو التوصل إلى اتفاق مماثل مع الولايات المتحدة. وقال صالحي، “سيجبر ذلك الصين على بذل جهد أكبر لإبقاء إيران في صفّها… كما أن إيران لن تتمكن من رفع العقوبات المفروضة عليها وانتزاع الامتيازات من الغرب فحسب، بل ستحسن أيضًا إلى حدّ كبير من موقفها التفاوضي مع الصين وروسيا.”
هناك دلائل تشير إلى أن النظام والمؤسسات القوية، مثل الحرس الثوري الإسلامي، تتفق جزئيًا مع هؤلاء المحللين، وتشارك بالفعل في إجراءات تدعم الانفتاح الحذر على واشنطن، كما يتضح من اتفاق تبادل السجناء الأخير بين الولايات المتحدة وإيران، والذي من المتوقع أن يتم مقابل الإفراج عن نحو 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية. ولم تكتفِ أبواق الحرس الثوري الإيراني بالدفاع علانية عن الاتفاق فحسب، بل وصفته أيضًا بأنه مقدمة لمزيد من الاتفاقيات مع الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني2024.
إن نتيجة الانتخابات الأمريكية ليست سوى عامل من بين عدة عوامل داخلية وخارجية، من شأنها التأثير على قدرة إيران على إعادة توجيه سياستها الخارجية، وتبني موقف أكثر توازنًا في علاقاتها بالقوى العظمى في الشرق والغرب. على الصعيد الداخلي، يتعين على المؤسسات التي استفادت حتى الآن من موقف طهران المناهض للولايات المتحدة، ولا سيما الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس المسؤول عن عملياته الخارجية، أن ترى المكاسب التي ستحققها الشراكة المثمرة مع الولايات المتحدة أكثر من البقاء في مواجهة معها. هذا ما حدث بالفعل عندما قبلت إيران الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الدولية، وخطط الاستثمار الأجنبي المباشر في إيران، والتي توقع الحرس الثوري الإيراني الاستفادة منها. كما يتعين على المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أن يُظهر المرونة الأيديولوجية والسياسية اللازمة لتأييد هذا التوجه الجديد في السياسات. وهنا قد يجد خامنئي أنه من الأسهل إعطاء الضوء الأخضر لإعادة توجيه السياسة الخارجية بشكلٍ ضمني وغير واضح نحو الولايات المتحدة، حتى يتمكن من الجمع بين البراجماتية السياسية، والحفاظ على وهم إيران الثورية. أما على الصعيد الخارجي، قد تتبخّر التجربة برمتها إذا خسر الرئيس جوزيف بايدن الانتخابات. ففي حال فشل بايدن في الفوز بولاية ثانية، من المرجح ألا تلقى مبادرات إيران قبولاً كبيرًا في واشنطن. وقد لا يلقى انفتاح طهران البراجماتي المحتمل على واشنطن أيضًا ترحيبًا من حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، الذين يحرسون بغيرة مكانتهم كحلفاء استراتيجيين للولايات المتحدة. ومع ذلك، يبدو أن النهج السعودي الجديد يمثل نموذجًا يفكر القادة الإيرانيون في الاحتذاء به.