بعد عام واحد من نقطة التحول الحاسمة للحرب في سوريا -سقوط الأجزاء التي كان يسيطر عليها المتمردون في حلب لصالح القوات الموالية للنظام- فإن الصراع الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا ومتماسكًا نسبيًّا في البلاد قد تجزأ إلى سلسلة من المعارك المكثفة، بطابعها المحلي جدًّا، والتي يبدو للوهلة الأولى أن لها ارتباطًا فضفاضًا فقط بالبلاد: اندلاع دراماتيكي للقتال في جنوب سوريا يؤلّب إسرائيل ضد الحكومة السورية والقوات الإيرانية؛ القتال المرير بين الأتراك والأكراد في الشمال، من شأنه أيضًا أن يزيد من توتر الموقف المتأزم بين أعضاء وزملاء الناتو واشنطن وأنقرة؛ وسلسلة مروعة من الهجمات التي يشنها نظام الأسد، في كل من الشمال البعيد وضواحي دمشق، خلفت مئات القتلى من المدنيين في غضون أيام قليلة.
هذه المعارك التي تبدو متباينة، تتم مراقبتها عن كثب من قبل القوى الإقليمية التي لا تشارك مباشرة، بما في ذلك دول الخليج العربية، لما للنتائج من أثر بالغ على المشهد الاستراتيجي الإقليمي في السنوات القادمة. وفي الوقت الذي تلعب فيه العديد من العوامل دورها، تبقى بالدرجة الأولى سياسات إيران وطموحاتها هي التي ربما تفضي إلى تأثيرات قد تقلب الموازين، بحيث إن أية تعديلات صغيرة في إحدى زوايا الخريطة يمكن أن تغير المشهد الأكبر، إن لم تعيد تشكيله ككل.
ثمة عامل رئيسي آخر في هذا التشرذم المتزامن وتكثيف الصراع في سوريا يرتبط بانهيار دولة “الخلافة” الإسلامية مؤخرًا في العراق والشام التي أقيمت في شرق سوريا وكان مقرها في مدينة الرقة. وعلى مدار عام 2017 تقريبًا، كانت عمليًّا جميع الجهات الفاعلة الأخرى في سوريا ملتزمة بالقضاء على داعش. لكن هزيمتها كثفت من حدة المعارك الأخرى في سوريا والتي تم احتواؤها أو تأجيلها في حين كانت تلك هي أولوية مشتركة.
ولا يظهر هذا بوضوح في أي مكان أكثر مما هو عليه في شمال سوريا، حيث شنت تركيا هجومًا كبيرًا يهدف إلى كبح قوة الميليشيات الكردية التي كانت القوات البرية الرئيسية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وتعتبرهم تركيا فرعًا من حزب العمال الكردستاني الذي خاض صراعًا دمويًّا من أجل استقلال كردستان عن تركيا منذ عقود. كما صنفت واشنطن رسميًّا حزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية. ومع ذلك، فقد أقامت هذه الميليشيات الكردية السورية علاقات وثيقة مع القوات الأمريكية، ويعمل أكثر من 2000 منهم في شمال سوريا لتنسيق المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ونتيجة لذلك، تشعر واشنطن بعدم الارتياح الشديد إزاء هجوم أنقرة على الميليشيات التي تتماشى بشكل وثيق مع الولايات المتحدة. وبينما يتركز القتال حول مدينة عفرين، هناك مؤشرات على أنه قد يتحول باتجاه منبج، حيث يعمل المقاتلون الأكراد والقوات الخاصة الأمريكية بتنسيق وثيق. وبالتالي فإن مواجهة غير معتادة مطلقًا بين أعضاء الناتو قد تتدهور وتتحول إلى صراع مفتوح لم يسبق له مثيل. ويظهر أن الزيارات المتكررة إلى تركيا من قبل مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر ووزير الخارجية ريكس تيلرسون تهدف إلى منع حدوث أي قتال بين حلفاء الناتو.
إن دول الخليج العربية ستشعر بالقلق إزاء التنسيق الوثيق الواضح بين أنقرة وموسكو قبل وأثناء الهجوم التركي. فقد سحبت روسيا قواتها من المنطقة قبل الهجوم التركي، وشرعت القوات الموالية للنظام والمدعومة من روسيا في العمل بشكل متزامن في مناطق أخرى، أبرزها حلب. ويبدو جليًّا أن روسيا وتركيا توصلتا إلى اتفاق فعلي جديد وغير معلن على نزع الخلاف بينهما قبل هجوم أنقرة. وكانت تركيا في وقت سابق متماشية بشكل وثيق مع دول الخليج العربية، وخاصة السعودية وقطر، في التشجيع على الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ودعم جماعات المعارضة المسلحة. ومع ذلك، منذ أكثر من عامين، حصرت تركيا تركيزها في سوريا على منع إنشاء منطقة موحدة يحكمها الأكراد على طول حدودها الجنوبية مع سوريا وعلى تقليص قوة الميليشيات الكردية. تبدو أنقرة متوائمة مع بقاء الأسد في السلطة، على الأقل في الوقت الحالي، وقد كان الانسحاب العملي التركي من الحملة على تغيير النظام في سوريا عاملاً رئيسيًّا في انتصار الأسد في حلب عام 2017. ويؤكد التنسيق الوثيق الحالي بين تركيا وروسيا أن دور أنقرة في سوريا تحول إلى نقطة لا تتماشى فقط مع روسيا، بل في الواقع مع نظام الأسد وداعميه الإيرانيين، ومصالحها الآن لا تتوافق مع مصالح واشنطن ودول الخليج العربية.
كما أن التركيز الأمريكي في سوريا تحول أيضًا من تدمير تنظيم الدولة الإسلامية إلى حملة طويلة الأمد ومتعددة الأوجه لمنع إيران من الظهور كالمستفيد الرئيسي من الحرب السورية. وفي كانون الثاني/ يناير، كان تيلرسون أول مسؤول أمريكي رفيع المستوى يؤكد أنه على الرغم من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، فإن آلاف الجنود الأمريكيين سيبقون في سوريا إلى أجل غير مسمى من أجل مكافحة النفوذ الإيراني وتشجيع استبدال نظام الأسد بحرمانه من تحقيق نصر شامل. إلى جانب منع أي انبعاث كبير من قبل داعش، سيركز دور الولايات المتحدة في سوريا، من بين أمور أخرى، على حرمان إيران من القدرة على إنشاء وترسيخ “جسر بري” عبر العراق وسوريا لربط إيران بلبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط. وبالنسبة لدول الخليج العربية، فإن منع هذا التطور أمر ضروري، لأنه سيجعل إيران تسيطر على رقعة واسعة من المنطقة محاذية لها نسبيًّا عبر منطقة شمال الشرق الأوسط.
لذلك، فإن دول الخليج العربية ستعمل مع واشنطن وتعتمد عليها لضمان عدم إنشاء مثل هذا الجسر البري، وضمان إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، إن لم يكن إقصاءه بالكامل. ونفى وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس في أوائل شباط/ فبراير أن تكون إيران قد نجحت في إنشاء هذا الجسر البري. وبعد تصريحاته بوقت قصير، هاجم الجيش الأمريكي، للمرة الأولى، مقاتلي نظام الأسد في شمال سوريا الذين كانوا يتقدمون نحو الميليشيات الكردية والقوات الخاصة الأمريكية. وأكدت هذه الضربة أن واشنطن مستعدة للعمل عسكريًّا لحماية حلفائها وحرمان القوات الموالية للنظام من تحقيق انتصار شامل في شمال شرق سوريا. لكن القتال اكتسب أهمية على نطاق واسع، بما في ذلك لدى دول الخليج العربية، نظرًا لقربه من المعبر الحدودي بين القائم في العراق والبوكمال في سوريا، والسيطرة عليه ستكون ضرورية لطهران ووكلائها، وعلى رأسهم حزب الله، لإرساء حلقة وصل آمنة بين إيران ولبنان.
وكما أظهرت الأحداث الدرامية التي شهدتها عطلة نهاية الأسبوع، فقد أصبحت إسرائيل أيضًا تشعر بالانزعاج المتزايد لاتساع الدور الإيراني، وتعزيز وجود حزب الله في سوريا، بما في ذلك بالقرب من مرتفعات الجولان التي تحتلها (وضمتها) إسرائيل. لقد استخدمت إسرائيل بشكل دوري القوة الجوية لعرقلة نقل الأسلحة الثقيلة من سوريا إلى حزب الله في لبنان، وقد تبادل قادة إسرائيل وحزب الله التهديدات الخطيرة لمدة عام على الأقل. ويبدو أن إسرائيل مسؤولة عن القصف الأخير لما ذكر أنها منشأة عسكرية يسيطر عليها الإيرانيون في سوريا. وإما من قبيل الرد أو من قبيل اختبار “قواعد اللعبة” المتغيرة باستمرار، تدعي إسرائيل أن طائرة استطلاع من دون طيار إيرانية الصنع أطلقت إلى داخل أراضيها من سوريا قبل أن تسقطها المروحيات الإسرائيلية. ثم شنت إسرائيل سلسلة من الغارات الجوية الانتقامية ضد النظام السوري والأهداف الإيرانية (بما في ذلك “المقطورة الإيرانية” التي يبدو أنها أطلقت الطائرة من دون طيار)، والتي تم خلالها إسقاط أو تحطم طائرة إف-16 الإسرائيلية بنيران مضادات الطائرات الثقيلة. ويبدو أن هذه هي المرة الأولى التي تتواجه فيها القوات العسكرية الإسرائيلية والإيرانية معًا مباشرة.
وإضافة إلى نقل الأسلحة المتطورة لحزب الله، وسعت إسرائيل من دائرة خطوطها الحمراء، لتشمل إنشاء قاعدة عسكرية إيرانية أو بناء منشآت ومصانع أسلحة إيرانية في سوريا. وقد شعرت إسرائيل بالقلق إزاء تعاظم حجم المليشيات الموالية لإيران إلى ما يقدر بنحو 10 آلاف عنصر، قادمين من أفغانستان والعراق وحتى من باكستان إلى جنوب سوريا. وبينما يتركز اهتمام إسرائيل على جنوب سوريا، ليس على الأقل بسبب مخاوفها بشأن الأمن في مرتفعات الجولان، تمامًا مثل واشنطن ودول الخليج العربية، تلتزم إسرائيل بضمان عدم خروج إيران من الصراع السوري باعتبارها مهيمنة إقليميًّا، لتعزيز الوصول إلى حزب الله في لبنان دون عوائق.
إن الخوف بشأن نفوذ إيران المتنامي في المنطقة هو الخيط الذي يربط بشكل واضح بين مزيج من الصراعات المحلية التي تبدو متباينة، وإن كانت مترابطة في الواقع، داخل سوريا، وخاصة من منظور الخليج العربي. ويركز الدور الأمريكي المتواصل، والذي يثير المزيد من الجدل، في شمال وشمال شرق سوريا على كبح جماح سلطة إيران ونفوذها في المناطق الرئيسية، بما فيها امتداد الحدود السورية مع العراق. إن الغارات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف تابعة لإيران والنظام السوري تؤكد الضرورة الملحة المشتركة بين العديد من القوى الإقليمية في الحد من المكاسب الضخمة التي حققتها إيران وحزب الله خلال الحرب السورية، وإجبارها على التراجع في نهاية المطاف. ويتعين على الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج العربية أيضًا أن تحاول إقناع روسيا، التي يمكن القول إنها أقوى لاعب في سوريا اليوم، بأن الهيمنة الإيرانية على سوريا ليست في مصلحة موسكو.
إن الضربات الجوية الإسرائيلية في الجنوب والتواجد العسكري المكثف لواشنطن في الشمال يرسلان إشارة قوية إلى روسيا حول مدى خسارة موسكو إذا سمحت لأجندة إيران الإقليمية بإشعال صراعات أكبر وأكثر ضررًا وزعزعةً للاستقرار في سوريا. وستوجه رسالة مماثلة إلى تركيا أيضًا في نهاية المطاف. وستراقب دول الخليج العربية عن كثب، وستبذل قصارى جهدها للتأثير على هذه التطورات، حيث إنها لا تزال تشعر بأن توازن القوى في المنطقة سوف تشكله النتائج البعيدة المدى للحرب في العراق وسوريا. إن تكثيف الصراعات المحلية نسبيًّا في جميع أنحاء سوريا، وما تنطوي عليه جميعًا من قوى خارجية كبيرة مباشرة، هو البارومتر الذي يوضح كم أصبحت ركائز اللعبة في ذلك البلد حاسمة.