شهدت الأسابيع الأخيرة تحولات كبرى في الصراع الليبي، حيث أدى تغيير ديناميكيات الحروب بالوكالة الجارية في البلاد إلى تطورات عسكرية على الأرض، الأمر الذي أدى إلى تغيير جوهري في خطوط القتال في الحرب. فمنذ سقوط معمر القذافي في عام 2011، واجه استقرار ليبيا تحديات، بسبب الانقسامات الداخلية والمنافسات الخارجية. وتمتلك ليبيا أكبر احتياطي للنفط في أفريقيا، وقد أصبحت ميدان قتال للحروب بالوكالة على النفوذ الجيواستراتيجي شرق البحر الأبيض المتوسط. واشتدت الانقسامات والتدخلات الأجنبية في الحرب الليبية بعدما شن اللواء خليفة حفتر هجوماً عسكرياً على حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس في أبريل/نيسان 2019.
من الصعب تتبع كافة الجهات الأجنبية التي تقدم الدعم العسكري والمالي للفصائل الليبية. فالجهات المهيمنة على المشهد حاليًّا هي تركيا وروسيا، إضافة إلى الإمارات العربية المتحدة ومصر وفرنسا، وبدرجة أقل قطر والمملكة العربية السعودية. وفي غضون ذلك، بذل الاتحاد الأوروبي وألمانيا جهوداً لكبح مستوى التدخل الأجنبي. وكانت عملية برلين في بداية عام 2020 جهداً محكماً، لكنها لم تمنع القوى الخارجية من الاستمرار في انتهاك حظر الأسلحة، الذي أقرته الأمم المتحدة، ومن توفير الدعم العسكري للجماعات المسلحة الحليفة، الأمر الذي أدى إلى هجمات واسعة النطاق على المدنيين. وكان موقف الولايات المتحدة بشأن ليبيا يتسم بالتناقض والارتباك، وبقيت الولايات المتحدة إلى حد بعيد على الهامش في الجهود العسكرية والدبلوماسية.
بعيداً عن التنافسات الإقليمية، فإن ليبيا تتحول بشكل سريع إلى ساحة لتنافس القوى العظمى، مع تزايد قلق الولايات المتحدة وأوروبا بشأن اكتساب روسيا لموطئ قدم لها على امتداد الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
اللواء حفتر في موقع الدفاع
بعد عدة أيام من المعاناة من هزيمته على يد قوات حكومة الوفاق الوطني، أعلن حفتر في السادس من يونيو/حزيران عن استعداده للمشاركة في محادثاتٍ لوقف إطلاق النار بقيادة مصر. أدلى بهذا الإعلان من القاهرة، وهو يقف إلى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أحد الداعمين الإقليميين الرئيسيين للواء الليبي. ورفضت حكومة الوفاق الوطني عرض وقف إطلاق النار. وجاء إعلان حفتر عقب أسابيع من القتال المكثف بين قوات حكومة الوفاق الوطني المتمركزة في طرابلس، والمدعومة علناً من القوات العسكرية التركية، وبين القوات المسلحة العربية الليبية بقيادة حفتر المتمركزة شرقًا، والتي تعرف أيضاً باسم الجيش الوطني الليبي، وتدعمه بالدرجة الأولى القوات العسكرية الإماراتية والمصرية، إضافة إلى المرتزقة الروس.
في هذا الأسبوع وحده، تمكنت قوات حكومة الوفاق الوطني من الاستيلاء على مدينة طرابلس بالكامل، والقواعد الجوية الرئيسية، والمدن الاستراتيجية على امتداد الخط الساحلي. وذكرت وكالة رويترز أنه قد تم استئناف إنتاج النفط من حقل شرارة الضخم في الجنوب بعد انسحاب قوات حفتر.
وشن حفتر هجوماً عسكرياً على طرابلس في أبريل/نيسان 2019 في محاولة للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني. وكان يبدو أن هذه الاستراتيجية ناجحة إلى أن أقحمت تركيا نفسها بقوة أكبر في الصراع الليبي في يناير/كانون الثاني، بعد التوقيع على اتفاقيات بشأن الحقوق البحرية والدعم الأمني في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. أرسلت تركيا مرتزقة سوريين، وبدأت في تزويد حكومة الوفاق الوطني بطائرات عسكرية مسيرة وأنظمة صاروخية، وغير ذلك من المعدات العسكرية والمدربين العسكريين. وأدى الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني في غرب ليبيا إلى انتكاسات عسكرية كبيرة للحملة التي يقودها حفتر. واستعادت حكومة الوفاق الوطني السيطرة على العديد من المدن الاستراتيجية الرئيسية على امتداد الساحل، إضافة إلى الطرق الرئيسية الهامة بين طرابلس والحدود التونسية وطرابلس ومصراتة. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو استعادة حكومة الوفاق الوطني سيطرتها على قاعدة الوطية الجوية، بالقرب من الحدود التونسية في 18 مايو/أيار. وقد كانت قوات حفتر تستخدم هذه القاعدة منذ سنوات لشن هجمات في غرب ليبيا. ووفقًا للكثير من المحللين، فإن هذا الأمر قد بدَّل الحقائق العسكرية على الأرض بشكل جوهري وحول التفوق العسكري في غرب ليبيا وجنوبها لصالح حكومة الوفاق الوطني.
في الخامس من يونيو/حزيران، وقبيل إعلان حفتر عن وقف إطلاق النار، استولت القوات المتحالفة مع حكومة الوفاق على ترهونة، على بعد 40 ميلاً جنوبي طرابلس. وتعتبر المدينة بمثابة حجر الزاوية الرئيسي لخطوط الإمداد من قاعدة الجفرة الجوية في وسط ليبيا إلى قوات حفتر في غرب ليبيا. وفي اليوم نفسه، شنت حكومة الوفاق الوطني هجوماً على مدينة سرت، وهي قاعدة رئيسية أخرى لحفتر على بعد 230 ميلاً إلى الشرق من طرابلس، ما تسبب في اندلاع قتالٍ عنيف. وتفيد التقارير بأن 19 جنديًا حكوميًا قد قتلوا في المعارك في عطلة نهاية الأسبوع، وأن الطائرات التركية المسيرة قد قتلت 10 مدنيين.
إن قوات حكومة الوفاق الوطني الآن في حالة هجوم، وتم حصر حفتر في الزاوية. وكما يطرح طارق المجريسي من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “جميع القوى المؤثرة هنا متغيرة… ليس من الواضح كيف ستبدو الأمور بعد انقشاع هذه الغمة. ولكن هذا حفتر يترنح على الحبال. إنها المرة الأولى التي نراه فيها يقوم بأي تسويات أو يقدم تنازلات منذ عودته إلى ليبيا في عام 2014”.
ينبغي اتباع بعض الديناميكيات الرئيسية في الأيام المقبلة. أولاً، كيف سيكون رد فعل تركيا وروسيا على هذه التغييرات السريعة على الأرض؟ هل من الممكن أن تقوم هاتان القوتان بعقد صفقة لتطبيق وقف إطلاق النار على الأرض؟ وماذا سيحدث لقاعدة تحالف حفتر؟
المنافسات الإقليمية وتنافس القوى العظمى
منذ مقاطعة قطر في يونيو/حزيران عام 2017 من قبل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين ومصر، أدت المنافسات الخليجية إلى ظهور انقسام بين القوى الاقليمية الصاعدة: تركيا وقطر من جهة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر من جهة أخرى. في ليبيا، تتجلى هذه المنافسات الإقليمية في بيئة من الصراعات الداخلية عبر الدعم العسكري والمالي لعدد كبير من الفصائل المسلحة. ونظراً لما تتمتع به روسيا من قدرة متزايدة على التأثير في الصراع، فإن تنافس القوى العظمى من المقرر أن يلعب هو الآخر دورًا أكبر. فقد أصبحت ليبيا ساحة للعديد من الحروب بالوكالة. وأصبح الصراع ينبئ بنظام دولي في وضع من الفوضى التامة.
تم منذ عام 2011 اتسم قسم كبير من الصراع في البلاد بالتضليل والإنكار، كما يطرح المتخصص في الشؤون الليبية ولفرام لاتشر (Wolfram Lacher). وهناك العديد من الروايات التي تحيط بطبيعة التدخل الأجنبي ودرجته. على المستوى الدولي، هناك أيضًا إنكار للدور الذي تلعبه الإمارات العربية المتحدة، فعلى سبيل المثال، لم تُقر الولايات المتحدة بمشاركة أبو ظبي. فالولايات المتحدة منشغلة بدور روسيا أكثر من أي شيء آخر. ومنذ عدة سنوات، وتركيا وقطر تقومان بدعم قوات طرابلس ضد قوات حفتر. ولكن تركيا لم تبدأ في التدخل المباشر حتى أواخر عام 2019. ولجأت أنقرة إلى البرلمان التركي للحصول على الموافقة بإرسال قوات في يناير/كانون الثاني. ومن عدة جوانب، كان التدخل المتزايد لتركيا بمثابة رد فعل على الدعم المتزايد لقوات حفتر من المعسكرات القوية. فإلى جانب تلقيه الدعم من الإمارات العربية المتحدة ومصر وروسيا، فقد تلقت قوات حفتر أيضًا دعمًا ماليًا من المملكة العربية السعودية، ودعمًا عسكريًا من فرنسا، وفقًا لكلوديا جازيني (Claudia Gazzini) من مجموعة الأزمات الدولية.
تهدف حملات التضليل الإعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل دولٍ خليجية، وقوى مثل روسيا، إلى الإرباك والتعتيم على أية إمكانية لإجراء حوار جدي بين المجتمع الليبي المقسّم ومختلف الجماعات المسلحة. كما أن هناك أيضاً تثبيتاً للانقسام الرث وغير الدقيق بين الإسلاميين والمناهضين لهم في ليبيا، حيث تبذل العديد من الدول جهوداً دعائية بأن حفتر يمثل رجلاً قوياً، قد يضع حداً للتوسع الإقليمي للجماعات الإسلامية.
ومع ذلك، فإن الأطراف الفاعلة لا تتوافق مع مِثل هذا الانقسام السطحي، الذي زاد تعقيدًا بفعل الانشقاق داخل قوات حكومة الوفاق الوطني وقوات حفتر، وتعمل الجماعات المسلحة على تغيير تحالفاتها وفقًا للحقائق المتغيرة سريعاً في ساحة المعركة، ولنفوذ مختلف الجهات الخارجية. وقد كان لصعود الجماعات العنيفة، مثل السلفيين المدخليين، مؤخراً نفوذ عسكري في غرب ليبيا وشرقها. وهم يمثلون جزءاً له أهمية خاصة في الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. وعلاوة على ذلك، فكل دولة لها مجموعة محددة من المصالح الجيوسياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، وقد عملت الفصائل الليبية المختلفة بعناية على إقامة أنظمة الرعاية والحماية، في محاولة لضمان بقائها في خضم الحرب الأهلية العنيفة.
بعدما شن حفتر هجومه على طرابلس، اتهمت هيومن رايتس ووتش الإمارات بشن غارات غير قانونية بالطائرات المسيرة، أوقعت إحداها قتلى بين المدنيين في أبريل/ نيسان، وذكرت أن الإمارات هي الداعم العسكري الرئيسي لحفتر. ومع ذلك، وكما أشار المحللون، فإن معرفة أياً من الأطراف هي المسؤولة عن أي من الضربات الجوية تبقى في معظم الأحيان مسألة تخمين. وتقوم الجماعات الحقوقية بنشر الأدلة المتوفرة لديها، والتي لم تكن تشير إلى تورط الإمارات العربية المتحدة فحسب، وإنما أشارت أيضًا إلى تورط قوات حفتر ومصر. وكشفت دراسة أجرتها مؤسسة أمريكا الجديدة (New America Foundation) ومنظمة إيروارز (Airwars) أن الغارات الجوية والوفيات بين المدنيين تصاعدت بعد أن شن حفتر هجومه على طرابلس. ودعت هيومن رايتس ووتش إلى إجراء تحقيق دولي في الوفيات بين المدنيين في ليبيا بعد الإبلاغ عن انتهاكات لحظر الأسلحة، الذي أقرته الأمم المتحدة على يد الإمارات العربية المتحدة وتركيا والسودان والأردن.
تأجيج لهيب الحرب
تلعب كل من المنافسات الإقليمية والتنافس بين القوى العظمى دوراً في تأجيج لهيب الحرب في ليبيا والحد من قدرة الشعب الليبي على تقرير مصيره. لقد تدخلت دول الخليج بطرق مختلفة منذ عام 2011 مقدمةً الدعم العسكري والمالي لطرفي الصراع. ويشمل ذلك في المقام الأول الدعم العسكري من الإمارات العربية المتحدة، والدعم المالي من المملكة العربية السعودية وقطر. أما التدخل الخليجي، إلى جانب إرسال روسيا وتركيا المرتزقة السوريين للقتال مع أطراف متحاربة، فقد دفع بعض المراقبين إلى القول بأنه “يتم تصدير الحرب الأهلية السورية بالكامل إلى ليبيا”.
وبتكرار السيناريو السوري، يمكن لتركيا وروسيا مواصلة التعاون والاستقرار في مناطق نفوذ منفصلة، ولكن لا يمكن التعويل على حفتر، فقد أبدى عدم اكتراثه لموسكو في الماضي، وقد يصل لدرجة اليأس. وبطريقة مشابهة لمحادثات وقف إطلاق النار السابقة، استغل حفتر (ومؤيدوه الدوليون) الاهتمام الدولي بالمحادثات كوسيلة لصرف الأنظار ومواصلة القتال.
أبدت الولايات المتحدة مخاوفها بشأن روسيا. وعلقت القيادة الأمريكية في أفريقيا بالقول: “بينما تواصل روسيا تأييدها لتأجيج لهيب الصراع في ليبيا، فإن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا من أكبر اهتماماتنا”، وأعلنت أنها قد تنشر “لواء من القوات الأمنية المساندة” في تونس. ربما يكون دور الولايات المتحدة في الجهود الدبلوماسية (بدلاً من الدعم العسكري) مجدياً أكثر، خاصة أن لديها حلفاء على كلا جانبي الصراع.
وفي حين أن موقف الولايات المتحدة الرسمي يساند الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس، إلا أن الرئيس دونالد ترامب قد أجرى مكالمة هاتفية مع حفتر في أبريل/نيسان 2019، كان يُنظر إليها على أنها إشارة على دعم هجوم حفتر على طرابلس، بالإضافة إلى دعم حلفاء مثل مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية. في السادس من يونيو/حزيران، أعربت سفارة الولايات المتحدة في طرابلس في تغريدة عن دعمها للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار. وفي الوقت الذي بقي البيت الأبيض فيه على الهامش في معظم الأحيان، معتبراً أن النزاع يشكل مصدر قلق أمني لأوروبا، إلا أن الكونجرس كان لديه اهتمام في ليبيا، بالإضافة إلى الرغبة في إيجاد موقف سياسي أكثر وضوحاً، لا سيما من خلال “قانون الاستقرار الليبي” لدى كلا الحزبين”. ونظراً لهذه التحولات الأخيرة في الحرب الأهلية الليبية، والتواجد المتزايد لروسيا في شمال أفريقيا، وضغوط الكونجرس، فإن الولايات المتحدة قد لا تبقى على هامش هذا الصراع لفترة أطول.