“إيران ليست في وضع ثوري ولا حتى “ما قبل ثوري””، هكذا ذكرت مقدمة التقييم الاستخباراتي لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) الذي نُشر في أغسطس/آب 1978. كما هو واضح، فقد غادر الشاه محمد رضا بهلوي إيران في 16 يناير/كانون الثاني 1979، وفي غضون شهر من رحيله، أعلن الجيش الإمبراطوري عن “حياده” فيما يتعلق بمسار الثورة، ليتنازل فعليًا عن السلطة لصالح آية الله العظمى روح الله الخميني. يجب أن يكون الفشل الاستخباراتي عام 1979 بمثابة تحذير لأي تقييم متعلق باستقرار النظام في إيران وأماكن أخرى.
ومع ذلك، فإن الجمهورية الإسلامية، التي تمر بأزمة شرعية لا تختلف كثيرًا عن أزمة نظام بهلوي في أواخر السبعينيات، تُظهر مرونة ملحوظة. فالاحتجاجات، التي اندلعت في إيران في سبتمبر/أيلول 2022، وقد تستمر لفترة خلال عام 2023، هي أكثر انتشارًا وعنفًا وأطول مدة من أي احتجاجات سابقة على مر تاريخ الجمهورية الإسلامية، ولكن لم يظهر أبدًا أن بقاء النظام قد أصبح على المحك. ما الذي يفسر استمرار الجمهورية الإسلامية رغم أزمة الشرعية والاحتجاجات الشعبية المتكررة؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال، جزئيًا، في الطبيعة المؤسساتية للجمهورية الإسلامية إلى جانب إضفاء النظام للطابع الخارجي على الأزمة والقسوة والبراجماتية.
منذ تأسيسها، استمدت الجمهورية الإسلامية شرعيتها من ثلاثة مصادر أساسية: الدين والانتخابات والإنجاز، خاصة قدراتها على توفير الخدمات والموارد. ومع مرور الوقت تضاءلت قوة هذه المصادر الثلاثة.
إن دستور الجمهورية الإسلامية، الذي تمت الموافقة عليه بنسبة 98.2٪ من بين الذين كان لهم حق الاقتراع في استفتاء مارس/آذار 1979، والتعديل الدستوري لعام 1989، يمنح الزعيم الديني سلطات شبه ديكتاتورية في إيران. ليس واضحًا ما إذا كانت الجماهير الإيرانية على علم بما صوتت له عند تفويض الزعيم الديني بمثل هذه الصلاحيات؛ لكن من الواضح أن المجتمع الإيراني في ذلك الوقت كان أكثر تدينًا مما هو عليه اليوم، كما هو موثق لدى قيادة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في حين أنه لا يوجد ما يؤكد أن الشريحة المتدينة من المجتمع تدعم النظام بالضرورة، إلا أن انحسار التدين بشكل عام يشير إلى انخفاض مماثل في درجة شرعية النظام السياسي القائم على تفسير معين للإسلام.
كما أن المناصب المنتخبة في الجمهورية الإسلامية تعاني كذلك من أزمة الشرعية. على الرغم من طبيعة الانتخابات التي يتم التلاعب بها في إيران، فقد كانت تاريخيًا تضمن درجة من التمثيل الشعبي، وبالتالي درجة من الشرعية أيضًا. فالنظام يمنع المرشحين الذين يلمس فيهم عدم الالتزام الأيديولوجي أو غير المرغوب فيهم بطريقة أو بأخرى، ولكنه في أغلب الأحيان يوفر للناخبين مجموعة من الخيارات بين المرشحين الذين يوافق عليهم النظام مسبقًا. كان ثمة فروقات حقيقية بين المرشحين، وكذلك كانت أولوياتهم. ويتضح هذا من سجلات الإنجازات المختلفة للرؤساء الذين فازوا في الانتخابات على مدى العقود العديدة الماضية: علي أكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997) والذي سعى للتحرر الاقتصادي؛ ومحمد خاتمي (1997-2005) وعد بالتحرر السياسي ولكنه فشل في تحقيقه؛ ومحمود أحمدي نجاد (2005-2013) حشد بأجندته الشعبوية الإيرانيين المحرومين ضد الحكام السابقين؛ وحسن روحاني (2013-2021) حاول دون جدوى إحياء سياسات حقبة رفسنجاني. ومع ذلك، كما هو واضح في العملية الانتخابية، التي تم التلاعب بها بشكل كبير، والتي ضمنت وصول إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في عام 2021، فإن مقاطعة الناخبين للانتخابات تزايدت نظرًا لنقص الخيارات الحقيقية، ويبدو أن هناك علاقة مشتركة بين تراجع المشاركة السياسية وازدياد المشاركة في احتجاجات الشوارع.
يُعد الأداء الفاشل للنظام، لا سيما كمقدم للخدمات والموارد، مصدرًا ضعيفًا آخر للشرعية: تحت وطأة نظام العقوبات الدولي، وبسبب سوء الإدارة، تحاول الحكومة بصعوبة للحفاظ على تدفق الأموال والخدمات التي كانت توجهها سابقًا لشرائح واسعة من المجتمع لتأمين الدعم العام. قامت الحكومة بزيادة الدخل الأساسي الشامل، بالإضافة إلى معاشات التقاعد ورواتب الموظفين العموميين، لكنها لا تستطيع مواكبة التضخم بدون التأثير السلبي على القوة الشرائية للمستفيدين. تقدم المنظمات الخيرية الكبرى بعض شبكات الأمان للمحتاجين، لكن ضعف الاقتصاد الإيراني بشكل عام ساهم كذلك في تقليص خدماتها.
لماذا تمكن النظام من المحافظة على بقائه مع تراجع مصادر الشرعية هذه؟
على عكس نظام بهلوي الذي كان بمثابة ديكتاتورية شخصية، فإن الجمهورية الإسلامية تتسم بالطابع المؤسساتي، وهو ما يعزز استدامتها. يعد المرشد الأعلى واحدًا من مراكز القوى المتعددة، تلك المراكز التي تتكون من البيروقراطيات أو الفصائل الحكومية من بين النخب الحاكمة المتنافسة على النفوذ السياسي والمكاسب الاقتصادية. بدلاً من استغلال سلطاته الديكتاتورية التي أوكلها له الدستور وفرض أولوياته المفضلة، يعمل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي على إشراك مراكز القوى المختلفة والنخب الحاكمة في صنع القرار، حيث يعمل بمثابة الحَكَم النهائي بين مراكز القوى المتنافسة. وهذا لا يضمن فقط حوكمة أفضل وحماية النظام من أخطاء المرشد الأعلى، إنما يساعد أيضًا في تقاسم أعباء المسؤولية – واللوم – في حالة فشل السياسة.
يعد هذا الأمر الأخير ذو أهمية بالغة بسبب سجل خامنئي السيئ في إدارة الأزمات الداخلية، ويتضح هذا في رفضه الأولي الاعتراف في حالات الأزمات، ناهيك عن قيامه بأي إجراء. في اليوم الأول من احتجاجات سبتمبر/أيلول 2022، على سبيل المثال، لم يتطرق خامنئي للإشارة للاحتجاجات في خطاب استمر سبع دقائق أمام مجموعة من الطلبة يحيون ذكرى مناسبة دينية. وعلى الرغم من انتشار الاحتجاجات بسرعة في جميع أنحاء البلاد، تجنب خامنئي الموضوع أيضًا في ثاني ظهور علني له في 21 سبتمبر/أيلول، أثناء خطابه أمام المحاربين القدماء في الحرب مع العراق. فقط يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول، في خطابه أمام خريجي أكاديميات الضباط، علق المرشد الأعلى على “الأمور الأخيرة”. قامت مؤسسات النظام ومراكز القوى بإدارة الأزمة في ظل غياب خامنئي عن الأضواء لأسباب لم يتم توضيحها للجمهور، ولا يبدو أنه شارك في الإدارة اليومية للأزمة.
كما حاول النظام إضفاء الطابع الخارجي على الأزمة، وبشكل خاص من خلال استهدافه لكردستان العراق، الذي يستضيف الجماعات الكردية المسلحة المعارضة لإيران، والمملكة العربية السعودية التي يقال إنها تمول قناة إيران إنترناشيونال، التي لعبت دورًا في الاحتجاجات الإيرانية مشابهًا لدور قناة الجزيرة خلال انتفاضات الربيع العربي. بحلول 24 سبتمبر/أيلول، أفاد موقع تابناك نيوز، المقرب من قائد فيلق حرس الثورة الإسلامية السابق محسن رضائي، أن فيلق حرس الثورة الإسلامية قام بقصف مواقع لجماعة كومالا الكردية المعارضة في كردستان العراق لمنع المزيد من “التسلل إلى إيران، وإثارة الاضطرابات والتمرد”. في 17 نوفمبر/تشرين الثاني ، أفاد مدير وكالة الاستخبارات الداخلية البريطانية (MI5) بأن منظمته كشفت ما لا يقل عن 10 “تهديدات محتملة باختطاف أو حتى قتل أشخاص بريطانيين أو مقيمين في المملكة المتحدة ممن يُنظر إليهم على أنهم معادون للنظام”. قد تكون تصريحاته إشارة مبطنة الى التهديدات ضد مقر قناة إيران إنترناشيونال في لندن.
داخل إيران، كان النظام قاسيًا. في حين كانت قوات إنفاذ القانون وميليشيا الباسيج تتساهل مع المتظاهرين في بداية الأمر في طهران والمراكز السكانية الرئيسية الأخرى، إلا أنه تم حشد حرس الثورة الإسلامية في الأطراف الإيرانية المتباعدة التي تقطنها الأقليات الدينية والعرقية. وقد حدث هذا فعلاً، بشكل خاص، في مقاطعة كردستان الإيرانية والمدن التي يقطنها الأكراد في مقاطعات أذربيجان الغربية وكرمانشاه، والتي ربما تكون قد تسللت إليها بالفعل الجماعات الكردية المسلحة المعارضة لإيران، بالإضافة إلى مقاطعة سيستان وبلوشستان. في 30 سبتمبر/أيلول، أسفرت الاشتباكات عن سقوط عدد كبير من المتظاهرين والعناصر الحكومية. أودت احتجاجات 2022-2023 حتى هذه اللحظة بحياة ما مجموعه 592 متظاهرًا و73 عنصرًا حكوميًا، وهو رقم يفوق العدد الإجمالي لقتلى الاحتجاجات الرئيسية الستة السابقة في إيران منذ يونيو/حزيران 1981.
ومع ذلك، فقد جمع النظام، أو حرس الثورة الإسلامية بالتحديد، بين القسوة والبراجماتية والمرونة الأيديولوجية اللافتة للنظر. على عكس خامنئي، الذي ألقى باللائمة في تصريحاته المتعلقة بالاحتجاجات على الولايات المتحدة وإسرائيل ومنظمة مجاهدي خلق المحظورة والانفصاليين وولي عهد إيران السابق، وحتى على أحفاد عملاء جهاز الاستخبارات الإيرانية قبل الثورة، استخدم حرس الثورة الإسلامية حلفاءه السياسيين ليلقي باللائمة على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها تسببت في إثارة الاحتجاجات. ربما يكون استخدام الحرس الثوري لشرطة الأخلاق ككبش فداء إشارة مبكرة على اتجاهه للابتعاد عن رجال الدين الذين لا يحظون بشعبية في إيران. ربما لا يمانع حرس الثورة الإسلامية في منح الحريات الشخصية للمواطنين، وهذا سيلقى صدى لدى الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية. ويبقى السؤال: هل ، وإلى أي مدى، ستكتفي الطبقة الحضرية الوسطى بالحرية الشخصية قبل أن تطالب بالحرية السياسية أيضًا. وخلاصة الأمر، إن التدابير العلاجية التي استخدمها النظام حتى الآن لقمع الاحتجاجات وتأمين وجوده لا توفر سوى حلول مؤقتة للأزمات التي تواجهها الجمهورية الإسلامية.