لقد بدأت تتداعى ركائز استراتيجية الأمن القومي الإيرانية، التي استمرت لعقود، إلى جانب الأسس الأيديولوجية لسياستها في إعادة ترتيب الشرق الأوسط حتى قبل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2024. ومع بداية الهجوم الذي شنه المتمردون السوريون، كانت قيادتا حماس وحزب الله – وهما حجرا الزاوية في جهود إيران لإشعال “حزام ناري” حول إسرائيل – قد تم فعلياً القضاء عليهما من خلال الغارات الجوية والعمليات السرية الإسرائيلية، وتم تدمير ترسانات ميليشياتهما وقواتهما من خلال الهجمات الإسرائيلية الجوية والبرية. ولقد تبددت قدرة إيران على ردع إسرائيل أو الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الجوية الإسرائيلية بعد فشل الهجومين الصاروخيين اللذين شنتهما في 2024 في إلحاق ضرر كبير بإسرائيل، وبفعل الضربات الجوية الانتقامية الإسرائيلية. وقد أفضى سقوط نظام الأسد على يد الإسلاميين السنة المدعومين من تركيا العضو في حلف الناتو إلى استكمال الانهيار الأساسي لـ “محور المقاومة” الإيراني.
ومع ذلك، وبالرغم من الاعتراف بأن التهديدات الإسرائيلية قد منعت إيران من إرسال قوات إضافية من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، أو قوات الميليشيات المتحالفة مع نظام بشار الأسد، لوقف تقدم الثوار نحو دمشق، إلا أنه لم تظهر على المسؤولين الإيرانيين أي علامات على الفزع. كما أنهم لم يلمّحوا إلى أي تسويات مرتقبة بشأن أهداف سياستهم الخارجية المعلنة، بما في ذلك جعل إسرائيل غير قابلة للحياة كدولة يهودية. ومع ذلك، فإن الاستعراض العلني المتصلب للمسؤولين الإيرانيين تكذبه التقارير وتحليلات الخبراء والتعليقات الإيرانية، التي تفيد بأن القادة الإيرانيين يعكفون على إعادة تقييم المبادئ الرئيسية لسياستهم الخارجية وسياسة الأمن القومي.
وقد تفاقمت مشاكل إيران مع قرب تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب في إدارته الثانية، والتي من المؤكد أنها ستزيد من الضغوط الاقتصادية، ومن المحتمل أن تمارس أشكالاً أخرى من الضغوط على طهران، لقد تضاءلت خيارات إيران في تبني سياسات بديلة بشكل كبير. وقد يأخذ بعض المحللين بكلام المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي، عندما يصر على إمكانية إعادة بناء محور المقاومة بمستويات فاعليته السابقة. وتشير مجموعة متنوعة من التقارير إلى أن فيلق القدس والدبلوماسيين الإيرانيين يحاولون إيجاد حلول أخرى ومسارات بديلة لإمداد شركاء المحور، على سبيل المثال عن طريق نقل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله مباشرة إلى مطار بيروت الدولي. ويشير القادة الإيرانيون المناصرون للإبقاء على هذا المسار السياسي إلى أن الحوثيين في اليمن مستمرون في مهاجمة إسرائيل والولايات المتحدة، والشحن التجاري في البحر الأحمر على الرغم من الردود الانتقامية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن خيار إيران في “البقاء على نفس المسار” سيواجه صعوبات كبيرة، ربما ليست في حسبان القادة الإيرانيين. لقد أثبتت إسرائيل بشكل قاطع أن العمليات الجوية المكثفة، والمستندة إلى المعلومات الاستخباراتية بشكل خاص، يمكنها أن تلحق أضراراً جسيمة بشركاء إيران الإقليميين، وخطوط إعادة الإمداد الخاصة بهم. وتصرّ إسرائيل، ويبدو أنها قادرة، على فرض أمر واقع جديد، لن تسمح فيه لإيران بإعادة تزويد حلفائها الإقليميين بالإمدادات وإعادة تسليحهم وتقديم المشورة لهم، ولا سيما أولئك المتواجدين مباشرة على حدود إسرائيل. ويبدو أن إسرائيل تحظى بالدعم الكامل من قادة الولايات المتحدة من كلا الحزبين للقيام بما من شأنه أن يشل حركة الحوثيين في اليمن، الذين يشكلون تهديداً ليس فقط لإسرائيل، بل للتجارة العالمية. ومن المرجح أن تجد طهران أن الاستراتيجية القائمة على إعادة بناء حلفائها الإقليميين الذين تم اضعافهم، أو الاعتماد بشكل أكبر على الحوثيين الذين لم يتم تركيعهم بعد، ليست قابلة للتطبيق.
“الخيار النووي” بديل محفوف بالمخاطر
ينادي بعض القادة الإيرانيين بالسعي لانتهاج استراتيجية أمن قومي بديلة تقوم على إقامة ردع نووي. ويؤكد هؤلاء المسؤولون بأن الفتوى الدينية للمرشد الأعلى التي تحظر حيازة سلاح نووي لم تعد تخدم مصالح إيران الأيديولوجية والوطنية وينبغي إلغاؤها. إلا أن أنصار السلاح النووي يواجهون جدلاً مضاداً من قبل شخصيات، مثل الرئيس السابق حسن روحاني الذي تولى الرئاسة لفترتين رئاسيتين، والذي يصر على أن الجهود الرامية إلى تطوير سلاح نووي من شأنها أن تشجع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وترامب على القيام بعمل عسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية.
تعكس اعتراضات روحاني بشكل دقيق التحديات الحادة التي سيواجهها قرار تحويل البرنامج النووي الإيراني للأغراض العسكرية، وهي تحديات من المرجح أن تجعل استراتيجية الأمن القومي البديلة، القائمة على امتلاك ترسانة نووية غير قابلة للتطبيق. تدرس إسرائيل، منذ عقود، توجيه ضربات وقائية للمنشآت النووية الإيرانية، ولقد تراجعت جزئياً عن مثل هذا العمل بسبب اعتراضات الإدارات الأمريكية المتعاقبة. حتى الآن، فضّل قادة الولايات المتحدة معالجة التهديد النووي الإيراني من خلال الدبلوماسية. وبعيداً عن الاختلاف مع المسؤولين الأمريكيين، شكك بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين كذلك فيما إذا كانت الضربة الإسرائيلية، إذا تم تنفيذها منفردة، ستتمكن من شل البرنامج النووي الإيراني بالقدر المطلوب للقضاء على احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي.
ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من عام على هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبددت بعض التحفظات الأمريكية والإسرائيلية بشأن استخدام القوة للتصدي للبرنامج النووي الإيراني. خلال فترة ولايته الأولى، وفي تعليقاته قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ومنذ ذلك الحين، قدم ترامب دعمه العلني الكامل لنتنياهو لاستخدام العمل العسكري للتصدي لمجموعة واسعة من التهديدات التي تشكلها إيران وحلفاؤها، بما في ذلك البرنامج النووي. وأشارت تقارير صحيفة وول ستريت جورنال، وغيرها من وسائل الإعلام إلى أن بعض مرشحي ترامب والمعينين من قبله لشغل الوظائف المرتبطة بالأمن القومي، وربما حتى ترامب نفسه، يميلون، مثل نتنياهو، لتأييد القيام بعمل عسكري ضد البرنامج النووي الإيراني– إذا ما حاولت إيران تطوير سلاح نووي فعال. وعلى أقل تقدير، يبدو من المرجح أن إدارة ترامب لن تثني إسرائيل بحزم عن ضرب المنشآت الإيرانية، حتى لو رفضت الولايات المتحدة الانضمام إلى الهجوم.
لقد بدأ بعض الخبراء بالتكهن بتواطؤ ترامب ونتنياهو، في سياق العديد من المحادثات الهاتفية التي أجرياها خلال الفترة الانتقالية، في التمهيد لهجوم مشترك محتمل على المنشآت النووية الإيرانية بعد تولي ترامب لمنصب الرئاسة للمرة الثانية. ومن شأن مشاركة الولايات المتحدة في العمل العسكري أن تزيد من فرص تدمير القدرات النووية الإيرانية على المدى البعيد. ومن خلال نشر مجموعة واسعة من الطائرات، بحيث يسهل وصولها لجميع أنحاء إيران، فإن للولايات المتحدة القدرة على ضرب أهداف محصنة – مثل منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم – ليس فقط بأثقل الذخائر أمريكية الصنع، مثل القنبلة الخارقة للتحصينات التي تزن 30 ألف رطل، وإنما أيضاً ضرب المنشآت الإيرانية بشكل متكرر، وبالتالي ضمان تدميرها. ستبدأ القوات الجوية الإسرائيلية مهمتها من مسافة بعيدة جداً – 1100 ميل – ما من شأنه أن يشكل ضغوطاً على قدرة إسرائيل المحدودة على التزود بالوقود في الجو، وقدرتها على إيصال أثقل ما يمكن من العتاد. وحتى لو لم يكن ترامب ونتنياهو، في هذه المرحلة، يتدارسان بشكل فعال شن هجوم مشترك على المنشآت النووية الإيرانية، فإن احتمالات قيامهما بعمل مشترك مرتفعة إذا اكتشفا محاولة “خرق” واضحة من جانب إيران لتطوير سلاح نووي.
هل تستطيع إيران إبرام صفقة مع ترامب؟
إدراكاً للمأزق الصعب الذي تمر به إيران، يبدو أن العديد من قادتها، بمن فيهم الرئيس مسعود بيزشكيان، ونائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، ووزير الخارجية الحالي عباس عراقجي، يفكرون في التواصل مع إدارة ترامب لتخفيف التوترات، وإحداث انقسام بين ترامب ونتنياهو. ودعا ترامب بصفته رئيساً منتخباً للتوصل لاتفاق نووي منقح متعدد الأطراف، يتجاوز خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، لمعالجة جميع القضايا التي تثير قلق الولايات المتحدة – وليس فقط برنامج إيران النووي. ومع الأخذ بعين الاعتبار تفضيل ترامب المعلن لاتفاق ذي قيمة ظاهرية، يبدو أن المسؤولين والخبراء الاستراتيجيين الإيرانيين المعتدلين يرون أن الدبلوماسية هي الخيار الوحيد القابل للتطبيق كبديل لنهج المرشد الأعلى الأكثر حزماً.
وعلى الرغم من أن المسؤولين الإيرانيين الذين يقترحون إجراء مفاوضات مع إدارة ترامب يرون في استراتيجيتهم الخيار الواقعي الوحيد أمام إيران، إلا أنه ليس من المرجح نجاح نهجهم الذي يوصون به. تشير مجموعة واسعة من التقارير إلى أنه في أي مفاوضات، من المرجح أن يصر ترامب ومستشاروه المتشددون بشكل موحد، من بين متطلبات أخرى، على أن تقوم إيران بتفكيك كامل البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم لدرجة “التخصيب الصفري” الذي يمكن التحقق منه. وعلاوة على ذلك، سوف تصر الإدارة الجديدة كذلك على التوقف عن دعم شركاء طهران في محور المقاومة، والتوقف عن إنتاجها للصواريخ الباليستية وصواريخ كروز المتطورة والطائرات المسلحة بدون طيار. لقد رفضت طهران هذه المطالب باستمرار لأكثر من عقدين من الزمن، وليس من الواضح ما إذا كان القادة الإيرانيون قادرين على تحقيق توافق في الآراء لتلبية متطلبات ترامب الأساسية من أجل خفض التصعيد.
ومع وصول جميع مسارات أمنها القومي الواضحة إلى طريق مسدود تقريبًا، ربما لا يبقى أمام إيران أي خيار سوى الانكفاء على نفسها لمعالجة مشاكلها الداخلية، في ظل سعيها لخفض التصعيد مع بقية خصومها، والحد من مساعيها لتحقيق نفوذ إقليمي. في سعيها لاتباع مسار أكثر تعاوناً على الصعيد الإقليمي، قد تسعى طهران لإقناع دول الخليج العربية ومصر والأردن والعراق بأن تركيا، التي تتمتع الآن بنفوذ طاغٍ في سوريا ما بعد الأسد، تشكل تهديداً كبيراً للمنطقة، الأمر الذي يتطلب بذل جهود مشتركة لاحتوائه. وسيجد هذا الطرح آذاناً صاغية لدى السعودية والإمارات ومصر – بالإضافة إلى قادة الشيعة في العراق – الذين سعوا لاحتواء الحركات الإسلامية السنية المرتبطة بالإخوان المسلمين، وتحاكي الهجمات الإيرانية القوية على الأهداف الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان وأماكن أخرى. أما إذا كان المتشددون الإيرانيون، بمن فيهم المرشد الأعلى، على استعداد للتخلي عن أهدافهم الإقليمية الطموحة وبرنامجهم النووي لصالح التوافق الإقليمي، فإنها مسألة مفتوحة قد يتوقف حلها على نتائج وقرارات خارجة عن نطاق السيطرة المباشرة لطهران.