في الوقت الذي نشهد فيه تطورات في مجال الصحة النفسية - من خلال الحملات الشبابية التوعوية والتثقيف العام - والتي تساهم في تغيير حالة الصحة النفسية في الخليج، لا تزال التحديات الثقافية والاجتماعية قائمة.
في دول الخليج، كما هو الحال في بقية البلدان، واجهت قضايا الصحة النفسية ومعالجتها حواجز اجتماعية كبيرة. ومع ذلك، كان هناك تحولاً جيليا تجاه هذه القضايا وإدراكها. أظهرت احدى الاستطلاعات الأخيرة أن شباب الخليج أكثر قبولاً وإدراكاً لتحديات الصحة النفسية، حيث قال 62٪ منهم أن الأمراض النفسية “أمر طبيعي”. تعمل بعض الحملات التوعوية التي يقودها الشباب، إلى جانب التثقيف في مجال الصحة العامة، من قِبل مختصين الصحة النفسية، على إحداث تغيرات إيجابية على الساحة الخليجية في مجال الصحة النفسية.
أقرت الكويت والسعودية قوانين وسياسات للصحة النفسية في السنوات القليلة الماضية تعيد تعريف الصحة النفسية، من خلال معالجة الصور النمطية الخاطئة – مثل الوصم – التي تحيط بالأمراض النفسية، وتعزيز سبل علاجها. بينما أطلقت قطر استراتيجية وطنية شاملة للصحة النفسية، تغطي معظم المكونات التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، في حين أكدت دول خليجية أخرى على الصحة النفسية كأولوية وطنية، وتقوم بتوسيع خدماتها في هذا المجال. تخضع هذه الترتيبات الجديدة للاختبار الآن، حيث أن ضغط جائحة كورونا تسبب في تدهور الأوضاع النفسية.
عوائق ثقافية ومالية لرعاية الصحة النفسية
تتأثر الصحة النفسية وعلاجها بشكل كبير بالعوامل الاجتماعية والثقافية. كانت ثقافة وصمة العار واحدة من التحديات الرئيسية لمن يبحثون عن تخفيف لمعاناتهم النفسية. تقول هيفاء القحطاني، طبيبة نفسية سعودية، إن الناس كانوا يقومون بتغطية وجوههم عند مراجعة الأطباء النفسيين، بينما يدخل البعض اليوم على الأطباء والمرشدين النفسيين بكل حرية وأريحية.
في الكويت، هناك “وصمة عار” مرتبطة بزيارة مستشفى الطب النفسي (تم تغيير اسمه إلى مركز الكويت للصحة النفسية)، وهو عقبة أمام العديد ممن يبحثون عن استشارات للصحة النفسية. ونتيجة لذلك، يقول حمد الحاتم، وهو معالج نفسي وباحث دكتوراه كويتي في الإرشاد النفسي بجامعة فلوريدا: “ينتهي المطاف ببعض الأشخاص بالكفاح بمفردهم، وعدم البحث عن مساعدة مهنية، لأن الكشف عن مشاكل الصحة النفسية قد يكون مخزياً بسبب الوصمة الاجتماعية للذين يعانون من أمراض نفسية”.
تلعب العوامل الثقافية، مثل “الجماعية” والثرثرة (أو النميمة) والسمعة، دوراً مهماً وراء الوصم المرتبط بالصحة النفسية. على سبيل المثال، هناك اعتقاد شائع في الكويت بأن الشخص الذي يبحث عن خدمات الصحة النفسية إما “مختل” أو “مجنون”. بما أن العار لا ينعكس فقط على الفرد بل على عائلته بأكملها، فإن كيفية نظرة المجتمع إليهم يؤثر بعمق على سلوكهم.
في الإمارات، تم إجراء دراسة مع عينة من 325 شخصاً، أجاب 40٪ فقط منهم أنهم سيطلبون المساعدة لأطفالهم إذا كانوا يعانون من اضطرابات نفسية. في السعودية، أفاد استبيان عن الصحة النفسية بأن 80٪ من السعوديين المصابين بأمراض نفسية شديدة لا يسعون للحصول على أية مساعدة. نظراً لارتباط العار والوصم في الصحة النفسية، فإن “السرية في طلب العلاج لها أهمية قصوى عند العرب”.
علاوة على ذلك، هناك آراء سائدة في المنطقة تصور التدين على أنه عائق أمام السعي للحصول على خدمات الصحة النفسية. أظهرت دراسة أجريت في قطر أنه من الشائع بين الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية أن يعتقدوا أن مرضهم “عقاب من الله، أو أنها تلبس الأرواح الشريرة للإنسان”.
إن وصمة العار النفسية والمواقف السلبية تجاه طلب المساعدة في الصحة النفسية قوية داخل المجتمعات الإسلامية. هذه الاعتقادات والمفاهيم الخاطئة، في أغلب الأحيان، “انعكاسات للممارسات الثقافية أكثر من تعاليم الدين في حد ذاته”، قالت منيرة الدوسري، طالبة دكتوراه في الإرشاد والعلاج النفسي بجامعة أدنبره. وأضافت منيرة: “على عكس ذلك، يمكن للقراءة الدقيقة للنصوص الدينية أن توفر سبل لمواجهة الوصم، وتعزيز فكرة طلب المساعدة والاستشارة النفسية الرسمية وغير الرسمية”.
“وصمة العار” ليست العائق الوحيد في طلب المساعدة النفسية. غالباً ما يتم تجاهل الأعباء المالية في هذا النقاش. تقول منيرة: “بالنظر إلى أن المستشفيات العامة تُعد موصومة، فإن بعض الناس، حتى أولئك الأثرياء قد يواجهون عقبات مالية للوصول إلى خدمات الصحة النفسية في العيادات الخاصة”. “يختار المحتاجون لهذه الخدمات أيضاً العيادات الخاصة بدلاً من المستشفيات الحكومية، نظراً للشعور بأن دفع هذه المبالغ للعلاج الخاص يمنحهم القوة والتحكم في مقدمي الخدمات من المهنيين، لضمان حماية وحفظ أوضاعهم الشخصية بشكل أكبر.”
وأشارت منيرة إلى أن دفع 225 دولاراً في الأسبوع للحصول على خدمات الصحة النفسية كان التزاماً كبيراً للمشاركين في بحثها. “تخيل أن لديك أربع جلسات في الشهر، حتى لو كنت ثرياً، فهذا مبلغ كبير من المال”، قال أحد المشاركين في بحثها. على الرغم من أن الرعاية النفسية تقدم بالمجان في المستشفيات الحكومية، إلا أن الناس لا يثقون بها، وغالباً ما يبلغون عن تجارب سلبية، بما في ذلك انتهاك السرية.
إصلاحات الصحة النفسية في الكويت
في الكويت، تشكلت حركة اجتماعية بارزة قبل إصدار قانون الصحة النفسية. أطلق مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي والفنانين المشهورين والناشطين حملة #موعيب (بدون خجل)، من خلال مبادرة ASAP لكسر “المحرمات” في مناقشة اضطرابات الصحة النفسية، ورفض الوصم المرتبط بهذه القضايا. مبادرة ASAP هي حملة خاصة لتعزيز الوعي بالصحة النفسية. الحملة كانت جزءاً من المسؤولية الاجتماعية لشركة ASAP Beauty، التي شاركت في تأسيسها الشيخة ماجدة الصباح، والتي كانت تستلهم من معركتها الشخصية مع الاكتئاب. علاوة على ذلك، أقامت منظمات المجتمع المدني فعاليات في المدارس والجامعات والأماكن العامة المختلفة، لتشجيع الناس على كسر “وصمة العار”، وتبادل تجاربهم الشخصية في الصحة النفسية.
انتشر وسم #قانون_الصحة_النفسية في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الناشطين للدعوة إلى إقرار قانون شامل للصحة النفسية. علاوة على ذلك، عملت منظمات المجتمع المدني وأخصائيو الصحة النفسية جنباً إلى جنب للمطالبة بتشريع لقانون الصحة النفسية. ساهمت حملات المجتمع المدني مثل “اسمح لي” و “تقبل” و “منظمة الخط الإنساني” بشكل كبير في صياغة التشريع لقانون الصحة النفسية.
نتيجة للجهود المبذولة، وافق مجلس الأمة بالإجماع على قانون الصحة النفسية، والذي يُعد الأول من نوعه، ويضمن حماية حقوق المحتاجين للرعاية الصحية النفسية. وقال الدكتور نايف الحربي، رئيس مركز الكويت للصحة النفسية، أن القانون يعتبر “نقلة نوعية في مجال حقوق الإنسان، ومفخرة للكويت أمام منظمات المجتمع الدولي المعنية”. “حقوق الانسان بصفة عامة وحقوق المريض النفسي بصفة خاصة، لأنه أضفى الصفة القانونية على الخدمات المقدمة للمرضى، مبيناً أن معظم ما ورد في بنود القانون مطبق على أرض الواقع، لكنه كان يفتقر إلى الصيغة القانونية”. ومن ثم، فقد عالج القانون عقبة أساسية في مجال الصحة النفسية: “ثقافة الوصم.”
يقول حمد الحاتم: “على الرغم من أن القانون يعد بالتأكيد خطوة حاسمة في الاتجاه الصحيح، إلا أنني أعتقد بقوة أنه كان يجب أن ينظم بصرامة ممارسة الصحة النفسية للالتزام بالمعايير الدولية، مثل قصرها على الأشخاص الذين يحملون مؤهلات وشهادات عليا في المجالات المتعلقة بالصحة النفسية. “هذا ضروري لتقديم خدمات متخصصة وأخلاقية في الصحة النفسية”.
تحديات الصحة النفسية في ظل تفشي الوباء
اختبرت جائحة كورونا فعالية سياسات واصلاحات الصحة النفسية التي تبنتها دول الخليج. وقد أدت ظروف الخوف والعزلة التي تسبب بها الوباء إلى تفاقم تحديات الصحة النفسية، مما يؤكد على ضرورة معالجة هذه التحديات بكل وضوح.
تقول منيرة: “جاءت الجائحة بشكل مفاجئ بدون تهيئة، فزادت من مستوى السلوكيات الناتجة عن القلق عند الناس، وأنتجت سلوكيات كالذعر والهلع الشرائي”، مضيفةً: “سرعة انتشار عدوى الخوف والقلق بين الناس أسرع من انتشار الوباء نفسه”، كما أشار بعض أخصائيو الصحة النفسية إلى زيادة كبيرة في أعداد المراجعين الذين يعانون من “التوتر والعزلة والقلق والخوف من المستقبل”.
ومن بين أكثر الفئات تضرراً بالحجر الصحي الأطفال والعمال المهاجرين ذوي الدخل المنخفض. تقول منيرة: “قد يؤثر القلق والحجر الصحي على المهارات الاجتماعية للأطفال، وقد يكون من الصعب عودتهم إلى الحياة الطبيعية، فالأمر سيحتاج إلى وقت”. “كان المهاجرون من ذوي الدخل المنخفض، الذين يعيشون حياة بائسة في الأحياء الفقيرة أو “الجيتوهات” تحت حظر كلي شديد، أكثر عرضة لمخاوف تتعلق بالصحة النفسية… واتضح ذلك في ارتفاع عدد حالات الانتحار بين هذه العمالة”.
في الكويت، أُجبرت عيادات الصحة النفسية الخاصة على الإغلاق استجابة للقيود الحكومية الصارمة وسط الجائحة أو التحول إلى الخدمات الصحية عن بعد والجلسات الافتراضية، تاركين مركز الكويت للصحة النفسية الملجأ الوحيد المتاح للحضور الشخصي. لذلك، تم إطلاق منصة كورونا كير (Corona Care) الإلكترونية، من قبل عدد كبير من الأطباء النفسيين والمختصين في الكويت، لتوفير الرعاية الصحية النفسية للمواطنين والمقيمين خلال الأزمة. تقول منيرة: “زار موقع كورنا كير أكثر من 64 ألف شخص في غضون ثلاثة أشهر، مما يدل على الحاجة الملحة للصحة النفسية وسط تفشي الوباء”. علاوة على ذلك، تم نشر استبيان للصحة النفسية على وسائل التواصل الاجتماعي للناس، للإجابة على الأسئلة التي تحدد ما إذا كانوا بحاجة لزيارة طبيب نفسي في ظل انتشار الوباء، وهو دليل على تدهور أوضاع الصحة النفسية أثناء الأزمة.
عززت دول الخليج مرافق الصحة النفسية بعد تفشي فيروس كورونا للتخفيف الآثار المترتبة على الأزمة. تم الإعلان عن الخطوط الساخنة للأزمات، لتوفير استشارات مجانية للصحة النفسية، وتذكير الناس بأهمية صحة الفرد النفسية. استهدفت مبادرات أخرى العاملين في مجال الرعاية النفسية في الخطوط الأمامية، والذين هم أيضا عرضة لمعاناة صحية نفسية.
تم إطلاق برنامج للخدمات الصحية في السعودية، لتقديم الدعم النفسي والمعنوي للعاملين في مجال الرعاية الصحية في مستشفى الهيئة الملكية بالجبيل، للتخفيف من الضغوط التي يواجهونها بسبب الأزمة.
التحديات المستقبلية
حثت اللجنة الخليجية للصحة النفسية جميع دول الخليج على العمل لإصدار سياسات وتشريعات شاملة للصحة النفسية تلتزم بالمعايير الدولية بحلول عام 2020. وقد حققت معظم دول الخليج العربية تقدماً فيما يتعلق بسياسات الصحة النفسية. ومع ذلك، لا يزال هناك المزيد من الاصلاحات المطلوبة في بعض البلدان، لعدم استيفاءها المعايير الدولية من حيث تطوير الخدمات وزيادة عدد المعالجين المدربين. وأخيراً، إنه لفي غاية الأهمية تعزيز الوعي بالصحة النفسية، والحد من التمييز ضد من يعانون من اضطرابات نفسية، والتصدي لوصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية سعياً للحفاظ على حقوق المعالجين.
سوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن تترجم إسرائيل انتصاراتها العسكرية الواهية إلى حلول سلمية مع الفلسطينيين ومع جيرانها العرب الأخرين، بمن فيهم بقية دول الخليج العربية.
ستشهد دول مجلس التعاون الخليجي إيجابيات وسلبيات مهما كانت نتيجة لانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكن دول الخليج ستعتمد على ديمومة العلاقات طويلة الأمد مع الولايات المتحدة.
ينذر تصاعد التوتر بين إسرائيل وحزب الله بحرب شاملة في لبنان، مع خسائر كبيرة في صفوف الحزب. وبينما تواصل إسرائيل ضرباتها الجوية، يواجه حزب الله وإيران تحديات صعبة بشأن التصعيد العسكري.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.