ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي استغرقت يومين للمملكة العربية السعودية في نهاية نيسان/أبريل تتويجًا لجهود استمرت شهورًا من أجل إصلاح العلاقات بين الرياض وأنقرة، وتأكيدًا على إعادة ترتيب المواقف على نطاق أوسع بين الخصمين الإقليميين على مدار العامين الماضيين. وكانت أول زيارة للرئيس التركي إلى السعودية منذ عام 2017، قبل عام من مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، والذي أدى إلي قطع العلاقات الثنائية. وبينما أشار أردوغان إلى نيته زيارة المملكة مبكرًا في يناير/كانون الثاني، فإن الزيارة عمليًا لم تتحقق حتى قررت محكمة تركية في أوائل أبريل/نيسان إحالة الإجراءات القانونية الغيابية ضد 26 متهمًا في قضية خاشقجي إلى النظام القضائي السعودي.
وبينما نشرت الصحافة السعودية صورًا للزعيم التركي وهو يحتضن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كان هناك شيء من المزايدة، عندما أصر السعوديون على أن الزيارة تمت بناء على طلب أردوغان، في حين ادعت الحكومة التركية أن الزيارة تمت بناء على طلب السعوديين. التقى أردوغان مع الملك سلمان بن عبد العزيز في جدة، وعقد اجتماعًا منفصلا مع محمد بن سلمان مساء 28 أبريل/نيسان، قبل التوجه إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة في 29 أبريل/نيسان. وفي تصريحات للصحفيين قبل مغادرته إلى جدة، استغل أردوغان شهر رمضان المبارك في وضع إطارًا للرحلة، قائلاً إنها تمثل “وقتًا مناسبًا” لترميم العلاقات الأخوية بين الدولتين. وفي تصريحات أخرى سبقت الرحلة، أكد أردوغان أهمية تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية وتعزيز علاقات التعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي والدفاع والأمور المالية.
ونظر عدد من المحللين للزيارة بشكل أساسي من منظور الاقتصادي، حيث أشار أحدهم إليها على أن الاقتصاد” دافع رئيسي بامتياز”. حتى أردوغان أكد على “الإمكانات الاقتصادية الكبيرة بين تركيا والسعودية”. وبعين مفتوحة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2023، واصل أردوغان – عبر زيارته للسعودية – الجهود التي بدأها في عام 2021 نحو إعادة بناء جوهرية لعلاقاته مع الإمارات العربية المتحدة. وبتركيزه على الحاجة لتخفيف المشاكل الاقتصادية التركية، والتي تشمل معدل تضخم سنويًّا حادًا يصل إلى 60% (وازداد سوءًا بسبب جائحة كورونا والارتفاع الأخير لأسعار النفط الناتج عن الأزمة في أوكرانيا)، وانخفاضًا في قيمة الليرة التركية بحوالي 44% مقابل الدولار، يأمل أردوغان أن تتواصل حملة الجذب المستمرة للحصول على التزامات باستثمارات ضخمة ودعم للعملة كما مثل ما حصل عليه في نوفمبر/تشرين الثاني2021 من الإمارات.
وبالدرجة نفسها من الأهمية، فإن عين أردوغان على السوق السعودية “الضخمة”. فقد تحسنت الصادرات التركية خلال الربع الأول من العام، ووصلت في مارس/آذار إلى 58 مليون دولار، حيث بدأ السعوديون بالفعل تخفيف الحظر شبه الكامل، وغير الرسمي، على السلع التركية الذي فرضوه عام 2020، والذي دفع إليه هو الغضب من تعامل تركيا مع اغتيال خاشقجي. وما يزال هناك مجال رحب لنمو الصادرات للعودة إلى ما يقرب من مستوى 300 مليون دولار التي حققتها تركيا من الصادرات للمملكة في مارس/آذار 2020. ومع احتجاجات الشتاء وتراجع الدعم السياسي له في تركيا، سيكون الدعم الاقتصادي والاستثمار الأجنبي أمرًا حاسمًا لأردوغان إذا أراد أن ينعش الاقتصاد التركي من أجل زيادة وتوسيع فرص العمل قبل انتخابات عام 2023.
إضافة للإطار الاقتصادي، تشكل وجهات النظر الأخرى منظورًا مفيدًا لفهم أهمية زيارة أردوغان للسعودية. أولاً، يشير التقارب التركي-السعودي إلى اعتراف أردوغان الضمني، على المدى المتوسط على الأقل، بتراجع الإسلام السياسي والإخوان المسلمون كقوى تشكل المشهد السياسي والأيديولوجي في المنطقة. ويختلف المحللون حول مدى فهم أردوغان لهذا التحدي. إحدى وجهات النظر تؤكد أن تواصل أردوغان مع الإمارات والسعودية يوضح اعترافه بأن الدعم التركي لهذه القوى في أماكن مثل ليبيا وسوريا (وقبل ذلك في مصر)، والسماح لبلاده بأن تعمل كمركز لقادة الإخوان المسلمين المنفيين، قد ترك تركيا “في عزلة متزايدة“. ويرى آخرون أن براجماتية أردوغان الهادئة، واستعداده الواضح للنظر في تقليل الدعم للإخوان المسلمين، هي ورقة يمكن لتركيا اللعب بها لتعزيز نفوذها الإقليمي، بينما تنزلق نحو حالة من التشكك: إن أي توقف في دعم الإخوان المسلمين سيكون مؤقتًا، حتى يتجاوز أردوغان الانتخابات.
من شبه المؤكد، أن قراءة الرياض وأبوظبي هي أن، بصرف النظر عن وجهات نظر أردوغان الشخصية وحساباته، زياراته وسياسات تركيا المتطورة توضح أن الإسلام السياسي كأيديولوجية سياسية، كما تم الترويج له من جانب الإخوان المسلمين، على وجه التحديد، هو في تراجع في جميع أنحاء المنطقة. إضافة لذلك، من المرجح أن مساعداتهم واستثماراتهم في تركيا مشروطة؛ كما أن عودة أنقرة إلى الدعم القوي للإخوان المسلمين يمكن أن تؤدي إلى انقطاع المساعدة الحيوية التي سيظل أردوغان في حاجة إليها بعد الانتخابات. إن التركيز الكبير على أشكال مختلفة جديدة من القومية في هذه الدول العربية الخليجية مصمم لدعم جهود هذه الأنظمة لتقويض جاذبية أيديولوجية الإخوان المسلمين.
إن جهود تركيا لإعادة ترتيب سياستها الخارجية على مدار العامين الماضيين – كما يظهر في الاختزال الدبلوماسي لهذه الزيارة – هي جزء من إعادة الترتيب واسعة النطاق بين الخصمين الإقليميين. وقد اتسم هذا النمط بجهود لترك أشكال العداء القديم وراء الظهر، مثلاً، من خلال اتفاقيات ابراهام، مع “مأسسة” نظام جديد وتقليص النفقات والمناورة الدبلوماسية والجهود للخروج من التدخلات العسكرية المتشابكة.
يبدو أن زيارة أردوغان للسعودية، مثلها مثل تبادل الزيارات مع الإمارات في عام 2021، تشير لحسابات خليجية عربية بأنه، مع بعض النفوذ والاستغلال الحاذق للاتجاهات الواضحة في المنطقة، يمكن أن تكون تركيا بمثابة ثقل مفيد موازن لإيران. فهي تمتلك الحجم والثقل الديموغرافي (مع التوجه السني الهائل) وقوة عسكرية إقليمية لتوفير درجة من الحماية للممالك الخليجية، ووقايتها من إبراز إيران للنفوذ والقوة، بافتراض أن دعم تركيا للإسلام السياسي ما يزال معلقًا، وأن تعاونها الضمني مع إيران في سوريا إما سيتداعى مع الوقت، أو على الأقل لا يتطور، متجاوزًا الرضوخ التكتيكي والدبلوماسي المحدود في الوقت الراهن.
من شبه المؤكد أن أي تصورات عربية خليجية بأن تكون تركيا الثقل الموازي لإيران تغذيها تصورات بأن الولايات المتحدة تُظهر تراجعًا في درجة اهتمامها بالمنطقة وأنها، بمعنى ما، “تنسحب”، بصرف النظر عن الإرث والوقائع العسكرية الأمريكية على الأرض. إن الانسحاب الفوضوي والمتسرع، من أفغانستان من قبل إدارة الرئيس جوزيف بايدن قد غذى هذه التصورات عن قوة عظمى مشتتة، غير قادرة أو غير راغبة في استمرار مسارها في تأكيد النفوذ الإقليمي (بصرف النظر عن استثمارها المكلف في أفغانستان على مدار 20 عامًا).
زيارة أردوغان إلى جدة تمثل انتصارًا لمحمد بن سلمان، مع نهاية تجربة مستدامة وفوضوية. وهي تذكير قوي بأن السعودية قوة إقليمية قائمة. ومع وجود احتياطاتها النفطية الضخمة والثروة القابلة للإنفاق والنفوذ الوشيك على شبه الجزيرة العربية، والقوة الناعمة الشاملة التي تنبعث في المنطقة وخارجها، تبدو السعودية – بخلاف معظم نظيراتها – قادرة على تحمل تكاليف كل أخطائها، ويعود ذلك لقدرتها على التخلص من الأخطاء مع مرور الوقت، والتفوق على الخصوم والتوجهات المضادة. تستفيد القوة الإقليمية أيضًا من التصور السائد – المنعكس في الواقع – بأنه لا شيء مهم في الخليج إلى أن يقوم به السعوديون. كل هذه الديناميكيات واضحة بشكل مؤكد في زيارة السيد أردوغان الأخيرة للسعودية.