بدءًا من المقال الصادم في 27 يوليو/تموز من جانب توماس فريدمان، وهو كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز، توالت التقارير لتؤكد أن البيت الأبيض يعمل بجدية على تطوير صفقة ثلاثية كبرى مع إسرائيل والسعودية من شأنها أن تعيد تشكيل الحقائق الاستراتيجية والسياسية في الشرق الأوسط بشكل كبير. وأكدت تقارير إضافية في وول ستريت جورنال وواشنطن بوست أن الزيارات الأخيرة إلى السعودية التي قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكين (Antony Blinken) ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان (Jake Sullivan) ومسؤول سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماك جورك (Brett McGurk) تضمنت محادثات مفصلة حول الشروط المحتملة لهذا الاتفاق، وقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن المسؤولين الأمريكيين أعربوا عن “تفاؤل حذر” بأنه يمكن العمل على الاتفاق على التفاصيل “خلال فترة من 9 إلى 12 شهرًا المقبلة.”
وعلى الرغم من هذا التفاؤل الملموس، هناك شكوك واسعة النطاق بشأن احتمالات نجاح مثل هذا الاتفاق. في ندوة عبر الإنترنت عقدها معهد دول الخليج العربية في واشنطن بتاريخ في الثالث من أغسطس/آب، أشار فريدمان أن هناك بالفعل ما يبرر الشكوك في إمكانية إتمام اتفاق على هذا النحو، ناهيك عن كون البيت الأبيض برمته مستغرقًا في حملة إعادة انتخاب الرئيس جوزيف بايدن. ويشدد البيت الأبيض على أن المحادثات ما تزال في مراحلها الأولية، ولم تصل إلى مراحل متقدمة كما تشير بعض التقارير. مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تسعى السعودية للحصول على ضمانات أمنية أمريكية رسمية، ومساعدة في برنامج نووي مدني، وإمكانية الحصول على أسلحة أمريكية أكثر تطورًا، بالإضافة إلى امتيازات كبيرة لصالح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من الفوائد الهائلة المحتملة للأطراف الثلاثة، ثمة عقبات كبيرة تعترض مثل هذه الصفقة الثلاثية المعقدة والبالغة الأهمية.
عقبات على الجانب السعودي
في إطار تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، تواجه السعودية مجموعة من الحسابات الأكثر تعقيدًا وخطورة من تلك التي واجهت حلفاءها في مجلس التعاون الخليجي، الإمارات والبحرين، عندما وقعتا اتفاقيات أبراهام في سبتمبر/أيلول 2020. بالإضافة إلى السياسة المحلية الأكثر تعقيدًا وهشاشة، وردود الفعل الداخلية المتوقعة الرافضة لأي اتفاق من هذا القبيل، ونظرًا لأن اتفاقيات أبراهام تفقد شعبيتها في العالم العربي وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يتعين على الرياض أيضًا أن توازن بعناية الآثار السلبية التي قد تنعكس على دورها القيادي على الصعيد الإقليمي العربي والعالمي. من المرجح لخصوم السعودية، مثل إيران وشبكة الميليشيات المسلحة التابعة لها في الدول العربية المجاورة، بقيادة حزب الله في لبنان، أو الجماعات السلفية الجهادية مثل تنظم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أن يستفيدوا إلى أقصى حد من خيبة الأمل الشعبوية لدى بعض العرب والمسلمين نتيجة هذا الاتفاق.
ومع ذلك، فإن تحمس السعودية لعلاقة أمنية رسمية مع الولايات المتحدة، مع ضمانات قد تكون أقوى من تلك الممنوحة لحلفاء رئيسيين من خارج حلف الناتو، ولكنها ليست بمستوى الالتزامات التي تقدمها واشنطن لشركائها في الحلف، ربما يجعل السعودية الطرف الأقل إشكالية من بين الشركاء الثلاثة المحتملين. في الحقيقة، إذا كانت الضمانات قوية ورسمية بما فيه الكفاية، فمن الممكن أن تثبت جدارتها في التغلب على انعدام التقدم في المطلبين السعوديين الكبيرين الآخرين من واشنطن بشأن المساعدة النووية وتيسير عملية الحصول على الأسلحة الأمريكية الأكثر تقدمًا. يمثل كلا الأمرين تحديات لدى الجانب الأمريكي، ولكن إذا كانت الضمانات الأمنية قوية بما فيه الكفاية، فإن السعودية قد تبدي مرونة فيما يتعلق بالدعم النووي والحصول على الأسلحة المتطورة.
ومع ذلك، فقد أوضحت السعودية في السنوات الأخيرة أنها لن تطبع العلاقات مع إسرائيل في غياب بعض التحركات الهامة، غير المحددة، من قبل الإسرائيليين، والمتمثلة في تعزيز آفاق حل الدولتين، وتقوية السلطة الفلسطينية وتوسيع المناطق الخاضعة لسيطرتها، والحد من النشاط الاستيطاني، أو الالتزام بعدم ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولكن قد يكون تأمين مثل هذه الخطوات من الحكومة الإسرائيلية الحالية في غاية الصعوبة بالنسبة للولايات المتحدة والسعودية.
عقبات على الجانب الأمريكي
ربما يكمن التحدي الأكبر لواشنطن في مجلس الشيوخ الذي، بناءً على مجال الشراكة، من المرجح أنه سيكون مطلوب موافقته على هذه الشراكة الأمنية الرسمية التي تسعى السعودية لتحقيقها. من الممكن توقع معارضة كبيرة من فصيل اليسار التقدمي بين الديمقراطيين والفصيل اليميني المتشدد في الحزب الجمهوري، حيث يتنى كلاهما دوافع قوية نحو الانعزالية الجديدة. على الرغم من أن موافقة مجلس النواب، الذي يتواجد فيه هذين الاتجاهين بشكل جيد، لن تكون مطلوبة، إلا أن تمرير الشراكة الأمنية في مجلس النواب سيكون بالغ الصعوبة. ومع ذلك، فإن مجلس الشيوخ لا يزال يسيطر فيه على صياغة السياسة الخارجية تيار الوسط من جناحي اليمين واليسار، حيث يؤيد العديد منهم، مثل بايدن، وجهات النظر التي تشكلت خلال حقبة الحرب الباردة.
من المرجح أن يحصل الاتفاق على موافقة مجلس الشيوخ إذا تم تقديمه مع اتفاقية تعزز بشكل كبير نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط والعلاقات مع السعودية، إلى جانب تطبيع الرياض لعلاقاتها مع إسرائيل. في الواقع، بمجرد أن يحمي أعضاء مجلس الشيوخ أنفسهم سياسيًا من خلال التعبير عن بعض التحفظات، ينبغي أن تكون الأغلبية العظمى قابلة للتحقيق. هذا على افتراض أن إدارة بايدن تبذل جهدًا شاملاً لحشد دعم الحزب الديمقراطي، والتأكيد على أن مثل هذا الاتفاق سيعزز بشكل كبير الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة وشركائها، ويشكل ضربة قوية لطموحات إيران قصيرة الأجل وطموحات الصين طويلة الأجل في الشرق الأوسط.
ربما تتمحور المسألة الأكبر في مجلس الشيوخ على دعم البرنامج النووي المدني السعودي. ولتقديم مثل هذا الدعم للدول غير النووية، عادة ما تطالب واشنطن باتفاقية “123” التي تعتبر قيودها أكبر بكثير من قيود معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. عندما يتعلق الأمر بالسعودية، سوف يشير منتقدو أي انحراف عن هذا المعيار إلى أن الإمارات قد وافقت على مثل هذه القيود في عام 2009. ومع ذلك، فإن هذا النوع من الترتيبات لا يعني الكثير عندما يتعلق الأمر بالتطوير النووي السعودي.
من بين الدول غير النووية التي تسعى لتطوير إنتاجها من الطاقة النووية للأغراض المدنية على نطاق واسع لأسباب اقتصادية تنفرد السعودية بامتلاك اليورانيوم الخاص بها وتنوي استخراجه. وبموجب عملية 123، سيتعين عليها استخراج هذا اليورانيوم بشكل أساسي، وتصديره لتتم معالجته إلى قضبان قابلة للاستخدام، واستيراد هذه القضبان مجددًا لاستخدامها في المفاعلات السعودية، ثم تصدير القضبان المستهلكة مرة أخرى للتخلص منها. وهذا لن يكون مربحًا وليس له معنى من وجهة النظر السعودية. لذلك، فإن التحرك الأنسب هو الترتيب المعدل الذي يتضمن الإشراف، وليس هذا التحرك متعدد الخطوات وغير المضمون لليورانيوم السعودي الخام والمخصب أو القضبان المستهلكة. وهذا قد ينظر لمثل هذا الترتيب على مضض في مجلس الشيوخ بسبب التوقعات المعيارية لاتفاقيات 123، والشكوك حول الطموحات للسعودية المحتملة في مجال الأسلحة النووية. لذلك، من المرجح أن تضطر الرياض إلى تقديم تنازلات كبيرة بشأن الإشراف والقيود الأخرى، والالتزام بعدم تطوير برنامج للأسلحة النووية أبدًا طالما ظل الاتفاق الأمني مع واشنطن ساري. ومن المرجح أن تكون وجهة النظر الإسرائيلية هي الحاسمة بشأن المدى الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تبلغه في تلبية مطالب السعودية للمساعدة في برنامجها النووي.
وهناك ديناميكية أخرى قد تلعب دورًا مماثلاً في مجلس الشيوخ فيما يتعلق بحصول السعودية على أسلحة متطورة من الولايات المتحدة. استندت الاعتراضات الأخيرة بصورة كبيرة لحرب اليمن، علمًا بأن السعودية تسعى الآن إلى خروج عملي من اليمن. من المؤكد أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ سيسجلون اعتراضات على سجل حقوق الإنسان السعودي واغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، لكن منطق الصفقة، الذي يعتمد بشكل كبير على التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والسعودية، يعني أنه من المرجح أن تتم الموافقة على عنصر الأسلحة بأغلبية ساحقة في مجلس الشيوخ، لا سيما بدعم قوي من إسرائيل وداعميها من اليهود الأمريكيين والمسيحيين الإنجيليين.
عقبات على الجانب الإسرائيلي
تقع العقبة الأكبر إلى حد بعيد على الجانب الإسرائيلي. إن المعضلة التي تواجه واشنطن والرياض هي أن مثل هذا الاتفاق لن يكون منطقيًا، وخاصة من وجهة نظر الولايات المتحدة، إلا في شكله الثلاثي. سيكون من الصعب للغاية من الناحية السياسية تحقيق معاهدة أمنية ثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية في واشنطن، ولا تحقق التحول الكبير في تعزيز الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة كالذي يمكن أن تحققه اتفاقية ثلاثية.
من الناحية النظرية، تواجه إسرائيل أقل الصعوبات من بين الدول الثلاثة. فالأرجح أن كل ما سيطلب منها هو أن تخضع، إلى حد ما، للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة. ليس المتوقع منها حل النزاع مع الفلسطينيين أو إنهاء الاحتلال، وإنما فقط كبح جماح النشاط الاستيطاني – الذي يحظره القانون الدولي- أو الالتزام بعدم الانخراط في ضم المزيد من الأراضي بشكل غير قانوني. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن إسرائيل هي الرابح الأكبر، سيكون هذا أكبر انجاز دبلوماسي على الأقل منذ معاهدة السلام مع مصر عام 1979، ويمكن القول كذلك في التاريخ الإسرائيلي منذ قبولها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن تطبيع العلاقات مع السعودية سيضمن فعليًا، في نهاية المطاف، التطبيع الدبلوماسي والتجاري لعلاقات إسرائيل مع العالمين العربي والإسلامي الأكبر.
ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تقوم الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحزب الليكود المؤيد لسياسة الضم بشكل كبير مع العديد من الأحزاب المتطرفة الأصغر، بتقديم تنازلات كبيرة بشأن الاحتلال أو تجاه الفلسطينيين. قال بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين إن أي تحركات محتملة بشأن الاحتلال ستكون ضمن الحد الأدنى، وأشار آخرون إلى أن هذه التنازلا غير واردة على الإطلاق. في مقال في صحيفة وول ستريت جورنال يدعو إلى اتفاقية أمنية أمريكية-سعودية على غرار تلك التي تقيمها واشنطن مع كوريا الجنوبية، لم يذكر وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الفلسطينيين أو الاحتلال على الإطلاق.
أكد فريدمان مرارًا وتكرارًا أن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعله متحمسًا لهذه المبادرة، على الرغم من عدم اقتناعه بآفاقها، هو أنها تضعف الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية، بالإضافة إلى الحفاظ على آفاق ضئيلة لاتفاق حل الدولتين. يبدو أنه من المستحيل فعلاً أن يكون التحالف الحالي قادرًا على تقديم أي تنازلات تطالب بها السعودية بشأن الاحتلال أو الفلسطينيين. يتمثل الأمل في أن يقوم نتنياهو في نهاية المطاف بتشكيل حكومة جديدة، ربما في تحالف مع السياسي الوسطي بيني جانتس.
وعلى أية حال، فإن نتنياهو ما يزال يواجه محاكمة بتهم فساد، وائتلافه الحالي ملتزم بما يسمى مبادرات الإصلاح القضائي التي يمكن أن تحميه من السجن المحتمل. من شبه المؤكد أن مثل هذه التغييرات القضائية لن تكون ممكنة مع وجود حكومة جديدة أكثر اعتدالاً. ولذلك فهو يواجه اعتبارات شخصية وسياسية ربما تقيد مثل هذه المناورة، حتى لو خلص إلى أن هذه الاتفاقية منطقية وقابلة للتطبيق، وهي مصلحة وطنية حيوية. ومع ذلك، فليس من المؤكد بأي حال من الأحوال أن يؤدي تحالف بديل بدون الأحزاب الصغيرة شديدة التطرف، إلى تشكيل حكومة قادرة على تقديم تنازلات ذات مغزى لمن يعتبرهم الكثير من الإسرائيليين أعداء، وهم الفلسطينيون، دون ممارسة ضغوط ملموسة على إسرائيل. فهل ستفرض المشاعر القومية في إسرائيل اليوم أي قيود كبيرة على طموحات البلاد في معظم أنحاء الضفة الغربية المحتلة؟ من المشكوك فيه أن يكون هناك أي ائتلاف حاكم محتمل في الكنيست جاهز وقادر ومستعد للقيام بذلك، حتى ولو كان لتأمين أحد أهم الإنجازات الدبلوماسية في تاريخ البلاد.
ومع ذلك، فإن كلًا من الضمانات الأمنية التي تسعى الرياض لتحقيقها والمزايا الاستراتيجية التي تريدها واشنطن تعتمد عمليًا على المرونة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والاحتلال، حيث ليس من المتوقع لأي منها أن يتحقق في ظل أي ائتلاف حاكم عملي. ليس من المستحيل التوصل لمثل هذه الاتفاقية لأنها، كما أشار فريدمان في عموده في 27 يوليو/تموز، ستكون مفيدةً بشكل كبير للأطراف الثلاثة جميعًا. توفر هذه الفوائد زخمًا كبيرًا للمبادرة، وتفسر قفزة إدارة بايدن الجريئة للمجهول للتشبث بها. السؤال الأكبر ليس في الرياض أو واشنطن، بل في إسرائيل، التي ربما وصلت في طموحات الضم إلى مرحلة جعتلها، بعد طول انتظار، عاجزة تمامًاعن اعتبار “نعم” كإجابة، حتى من الدولة العربية والإسلامية الأكثر نفوذًا.