ارتفعت أسعار النفط الخام العالمية إلى أعلى مستوى لها خلال عام في أوائل فبراير/شباط. حيث أدى التشديد على العرض وتحسن التوقعات الاقتصادية للنصف الثاني من عام 2021 إلى دعم السوق، الذي يواصل تعافيه البطيء من الصدمة التي تسببت بها جائحة فيروس كورونا.
لقد تخطى خام برنت، وهو المؤشر المرجعي العالمي، حاجز الستين دولاراً للبرميل في تجارة العقود الآجلة للمرة الأولى منذ يناير/كانون الثاني 2020، وارتفع أكثر حتى بعد أن أشارت كل من وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك إلى أن توازن السوق سوف يتحقق في النصف الثاني من عام 2021 وليس في النصف الأول. حسب تقرير سوق النفط الصادر عن وكالة الطاقة الدولية في 11 فبراير/شباط “لا تزال عملية إعادة التوازن لسوق النفط هشة في الجزء الأول من عام 2021 في حين تلقي إجراءات احتواء انتشار كوفيد-19، مع متغيراته الأكثر عدوى، بثقلها على تعافي الطلب العالمي على النفط على المدى القريب”.
مستشهدة بالتعديلات التي أدخلت على البيانات التاريخية، خفضت وكالة الطاقة الدولية من تقديراتها للطلب على النفط في عام 2021 بمقدار 200,000 برميل يومياً، ليصل إلى 96.4 مليون برميل يومياً، ما يعني استرجاع ما يقارب من 60٪ من الكمية المفقودة بسبب الجائحة في عام 2020. قامت أوبك في تقرير سوق النفط لشهر فبراير/شباط بتعديل التقديرات لنمو الطلب الخاص بها بانخفاض يصل إلى 110,000 برميل يومياً ليصل إلى 96.05 مليون برميل يومياً بسبب إعادة النظر في الطلب المتصاعد لعام 2020. تتوقع أوبك الآن أن يرتفع الطلب على النفط بمقدار 5.8 مليون برميل يومياً في عام 2021، ولا يشكل هذا الانتعاش سوى جزء من الانحسار الكبير البالغ 9.8 مليون برميل يومياً في عام 2020، ولكنه لم يصل بعد إلى مستوى الطلب في عام 2019. وحذرت من أن التوقعات بالنمو الاقتصادي ونمو الطلب على النفط متوقفة على إدارة أسرع للقاحات وتخفيف قيود السفر في الاقتصادات الكبرى.
يمكن لجزء من هذا الشعور المتفائل أن يعزى إلى قرار المملكة العربية السعودية البدء بتطبيق تخفيض الإنتاج من جانب واحد بمقدار مليون برميل يومياً في شهري شباط/ فبراير ومارس/آذار. جاءت هذه الخطوة المفاجئة مدفوعة بتصميم من الدولة، التي تتزعم جهود أوبك من أجل تسريع تخفيض مخزونات النفط العالمية المتضخمة، والتي بلغت ذروتها عند 3.7 مليار برميل في عام 2020 مع اضمحلال الطلب. تنخفض مستويات المخزون إلى حد كبير بسبب ضبط الإنتاج من قبل أوبك وحلفائها بزعامة روسيا (مجموعة أوبك بلس). وتتوقع كل من وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك تراجعاً أسرع للمخزونات في النصف الثاني من هذا العام، حيث من المتوقع أن يتحول السوق من فائض في العرض إلى العجز. ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، فإن هذا الأمر، إلى جانب الضعف في نمو الإمدادات من خارج أوبك، “يمهد الطريق أمام أوبك بلس للبدء بإلغاء التخفيضات حتى لو كثف المنتجون خارج المجموعة من نشاطهم بشكل أسرع من المتوقع حاليًا”. تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ينخفض العرض عن الطلب بنحو 850 ألف برميل يومياً بينما تتوقع أوبك عجزًا قدره 1.2 مليون برميل يومياً.
سيكون المؤشر التالي هو اجتماع أوبك بلس في أوائل مارس/آذار حيث من المفترض أن يقرر الوزراء ما إذا كان سيتم تخفيف قيود الإنتاج ابتداءً من أبريل/نيسان أم لا. روسيا، التي تشارك في إدارة سياسة الإنتاج لمجموعة أوبك بلس مع السعودية، سوف تنظر أكثر إلى الأسعار بدلاً من المخزونات نظراً لوجود علامات على سرعة تعافي إنتاج النفط الأمريكي. وقد أعربت موسكو عن قلقها إزاء احتمال خسارتها لحصتها السوقية إذا طال أمد القيود المفروضة على الإنتاج، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة والمنتجين الآخرين غير الملتزمين بالقيود بسد أي فجوة في العرض. أدى الخلاف بين السعودية وروسيا حول توقيت الإجراء الوقائي بشأن الإمدادات في مارس/آذار 2020 إلى انخفاض كبير في أسعار النفط عندما ردت السعودية بزيادة انتاج النفط، الأمر الذي أجبر الروس في نهاية المطاف على الانصياع. وأدى ذلك إلى اتفاق أبريل/نيسان 2020 بين منتجي أوبك بلس مع عدد قليل من المنتجين الآخرين، بمن فيهم الولايات المتحدة وكندا والنرويج على خفض الإنتاج بما يقارب 10 ملايين برميل يومياً للمساعدة في استقرار السوق. كانت نية تحالف أوبك بلس في الأصل تخفيف القيود تدريجياً ابتداءً من يناير/كانون الثاني، لكن هشاشة الانتعاش غير المتكافئ أدت إلى اللجوء لنهج أكثر حذراً. فبدلاً من التصور الأصلي الذي كان يتمثل في الوصول إلى 1.9 مليون برميل يومياً دفعة واحدة في يناير/كانون الثاني، قررت المجموعة زيادة مرحلية قدرها 500 ألف برميل يوميًا في يناير/كانون الثاني، مع السماح لروسيا وكازاخستان بزيادة إضافية طفيفة قدرها 75 ألف برميل يومياً فيما بينهما كنوع من المسكن.
تم السماح لمنتجي أوبك الذين لم يمتثلوا بالكامل بحصصهم، مثل العراق ونيجيريا، بمهلة حتى أبريل/نيسان للتعويض عن فائض الإنتاج. وكانت البادرة السعودية بتحمل عبء التخفيض الإضافي خارج الاتفاقية بمثابة تنازل لدول مثل العراق، حيث كان الاقتصاد على وشك الانهيار في نهاية عام 2020. وقد ساعد تخفيض العرض من قبل أوبك بلس، والذي بلغ في مجمله 2.1 مليار برميل منذ أبريل/نيسان 2020، في تحسين أساسيات السوق. ولكن المنتجين سيراقبون عن كثب كلاً من مستويات المخزون والزيادة المحتملة في العرض من المنتجين داخل أوبك وخارجها قبل القيام بتعديل على العرض. لم يصدر عن الاجتماع الأخير للجنة المراقبة الوزارية المشتركة، برئاسة السعودية وروسيا، في أوائل فبراير/شباط أي توصيات محددة عدا الإشادة بالمستوى العالي من الامتثال وحث جميع الأطراف على الاستمرار على هذا النهج حتى مارس/آذار.
من بين أعضاء منظمة أوبك، تُعفى كلٌ من ليبيا وإيران وفنزويلا من اتفاقية خفض الإنتاج بسبب ظروفها الخاصة – الصراع الداخلي في ليبيا، والعقوبات الأمريكية على إيران، ومزيج من العقوبات الأمريكية والإدارة السيئة في فنزويلا- ولكن إنتاج الدول الثلاث أخذ يزداد ببطء في الأشهر الأخيرة، وقد يؤثر على سرعة انخفاض المخزونات العالمية. وتمكنت ليبيا من إعادة إنتاجها من النفط إلى 1.2 مليون برميل يومياً في يناير/كانون الثاني مع توصل الفصائل المتنافسة إلى تسوية سياسية. ولكن قدرتها على زيادة الإنتاج بشكل أكبر والحفاظ على الإنتاج على مستويات أعلى يعتمدان على صمود الاتفاقية، وتخصيص ما يكفي من الأموال لمؤسسة النفط الوطنية الليبية لإجراء الإصلاحات الضرورية للبنية التحتية المتعثرة. أدى تسريب أحد خطوط أنابيب النفط وضرب أحد موانئ التصدير الرئيسية إلى إغلاق الإنتاج في مطلع شهر فبراير/شباط. وتتأهب إيران، في هذه الأثناء، للعودة إلى أسواق النفط متوقعةً مستوى أقل صرامة من العقوبات الأمريكية من قبل الإدارة الجديدة للرئيس جوزيف بايدن. وارتفع الإنتاج الإيراني بمقدار 62 ألف برميل يومياً في يناير/كانون الثاني ليصل إلى 2.08 مليون برميل يومياً، أي ما يقارب نصف إجمالي طاقتها الإنتاجية قبل العقوبات. التصريحات الأخيرة الصادرة عن طهران وواشنطن لا تشير إلى احتمال التوصل إلى قرار وشيك من شأنه أن يسمح لإيران بتصدير النفط بحرية. وقال بايدن إنه لن يرفع العقوبات عن إيران حتى تعود طهران إلى طاولة المفاوضات. أما فنزويلا، التي شهدت انخفاضًا حادًا في طاقتها الإنتاجية، فقد أضافت 72 ألف برميل يوميًا إلى إنتاجها في كانون الثاني/ يناير، وفقًا لتقرير أوبك لشهر شباط/ فبراير.
في 15 فبراير/شباط، تم التداول بعقود برنت الآجلة المعدة للتسليم في أبريل/نيسان بسعر 63.26 دولار للبرميل، وتجاوزت عقود “ويست تكساس انترميديت” الأمريكية الآجلة 60 دولاراً للبرميل، واستعادت بشكل فعال نسبة كبيرة من الخسائر التي شهدتها في عام 2020، ما سمح بعودة بعض الإنتاج العالي التكلفة مثل النفط الصخري الأمريكي والنفط الرملي الكندي. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية وفي ظل الوضع الراهن، من الممكن أن يرتفع الإنتاج العالمي من النفط إلى أكثر من 1.6 مليون برميل يومياً في عام 2021 إذا قام المنتجون من خارج مجموعة أوبك بلس بضخ المزيد من النفط، وإذا خففت أوبك بلس من القيود على الإنتاج، وإذا تمكنت ليبيا من الحفاظ على إنتاج أعلى. في عام 2021، سوف يستأثر المنتجون خارج أوبك بلس بزيادة عن العام الماضي قدرها 830 ألف برميل يومياً مقارنة بانخفاض 1.3 مليون برميل يومياً في عام 2020. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يستقر إنتاج النفط في الولايات المتحدة عند حوالي 16.6 مليون برميل يومياً في عام 2021 بعد انخفاض بمقدار 580 ألف برميل يومياً في عام 2020. وسوف تساهم كذلك كل من البرازيل والنرويج غيانا وكندا في الزيادة.
لم يكن النفط وحده الذي شهد ارتفاعاً حاداً في الأسعار منذ بداية العام الجديد. فقد تضخمت كذلك أسعار السلع والمعادن العالمية، فيما يسميه بعض المحللين الآن “دورة السلع الكبيرة“. حيث سجلت أسعار الغاز الطبيعي المسال أيضاً أرقاماً قياسية جديدة في الأسابيع الأخيرة لمجموعة من الأسباب كالطقس البارد وتوقف الإنتاج والارتفاع المبالغ فيه لأسعار ناقلات الغاز الطبيعي المسال والطلب القوي في آسيا، حيث إن أسعار الغاز الطبيعي المسال مرتبطة بأسعار النفط الخام. كان الطلب قوياً بشكل خاص في اليابان، التي اضطرت إلى دفع علاوات مرتفعة لتأمين الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية، على سبيل المثال شحنة واحدة كانت تباع بمبلغ 40 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية مقارنة بما يقارب من 2 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في أوائل عام 2020، عندما انخفض الطلب على الغاز الطبيعي وعلى الغاز الطبيعي المسال. وعلى الرغم من أن الزيادة الهائلة في الأسعار قد تكون موسمية، وأن الأسعار قد انخفضت قليلاً منذ ذلك الحين، إلا أنها كانت مؤشراً على العودة إلى مستويات عالية من عدم الاستقرار في بعض أسواق السلع الأساسية.
تضخمت أيضاً أسعار النحاس وخام الحديد والصلب والقصدير والمعادن الأخرى. ويعزى ذلك جزئياً إلى زيادة الطلب في أجزاء عديدة من العالم، حيث انتعش النشاط الصناعي والبناء والتجارة. وتُعزى بعض الارتفاعات الحادة في الأسعار إلى تحول الطلب على منتجات معينة نتيجة للتغيرات السلوكية التي سببتها الجائحة والتخزين. ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن “جنون الشراء” أدى إلى ارتفاع أسعار القصدير إلى أعلى مستوى لها على مدى 7 سنوات. والقصدير هو أحد مكونات إنتاج الإلكترونيات المستخدم في إنتاج اللحام لرقائق الكمبيوتر والأسلاك. ويعتبر التحول إلى العمل من المنزل، والذي قد أصبح تغييراً هيكلياً دائماً بعد الجائحة، هو السبب وراء ارتفاع الطلب على أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية الأخرى.
أشارت توريل بوسوني، التي عُينت مؤخرًا رئيسةً لقسم أسواق النفط في وكالة الطاقة الدولية، إلى هذه التغييرات الهيكلية، بما في ذلك التحولات في أنماط التنقل وممارسات العمل، حيث قالت إنها ستؤثر على شكل الانتعاش. وقالت في منتدى الطاقة العالمي التابع لمجلس الأطلنطي في يناير/كانون الثاني، “نعتقد أننا سوف نتعافى مع تعافي الاقتصاد ومع السيطرة على الجائحة”. وأضافت، “لكن بعض هذه التغييرات هيكلية، ومن المرجح أن يتم استبدال جزء كبير من رحلات العمل باجتماعات افتراضية”.
وأشار كريس ميدجلي، رئيس التحليلات العالمية في إس أند بي جلوبال بلاتس (S&P Global Platts)، إلى أن السفر التجاري يزيد من الطلب لأنه، حتى وإن كان يشكل 13٪ فقط من المسافرين، فإنه يستأثر بـ 70٪ من إجمالي عائدات السفر الجوي. وقال في المنتدى نفسه، إنه من المرجح أن يستمر التراجع في السفر الجوي طالما استمر “الانجرار” وراء تداعيات فيروس كورونا، ما يجعل الرجوع إلى مستويات 2019 غير مرجح قبل 2026.
هذه الشكوك وأنماط الطلب المتغيرة تجعل من الصعب التنبؤ بكيفية تجاوب المنتجين. في الوقت الحالي، يبدو أن منتجي أوبك بلس تبنوا موقف الانتظار والترقب، ولكن مع وجود العديد من المتغيرات، لا يمكن استبعاد المفاجآت المستقبلية مثل خفض الإنتاج السعودي. وإذا استغرق الانتعاش وقتاً أطول مما تشير إليه التوقعات الحالية، فإن الحفاظ على ضبط الإنتاج سيصبح أكثر صعوبة بالنسبة للمنتجين الصغار، وقد تغريهم العوائد النقدية الآن والأسعار مرتفعة.