جاء مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وستة مسؤولين آخرين، عندما تحطمت المروحية التي كانت تقلهم في منطقة جبلية في شمال غرب البلاد الأسبوع الماضي، في وقت حرج للجمهورية الإسلامية، حيث تهيمن مسألة خلافة المرشد الأعلى علي خامنئي، البالغ من العمر 85 عاما، والذي توصف صحته بالسيئة، على اهتمام المسؤولين البارزين، وعلى خلفية استمرار الاقتصاد الإيراني بالتدهور، وانخفاض قيمة الريال الإيراني ثلاثين بالمئة، وبعد سنوات من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي شهدت منذ 2022 مئات الآلاف من المواطنين يتظاهرون في الشوارع والساحات العامة ضد السياسات القمعية للنظام، والتي فجرها مقتل شابة إيرانية ادعت السلطات أنها لم تلبس حجابها بشكل لائق. وجاء مصرع رئيسي بعد شهر من أول مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل، شاركت فيها الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين والعرب، بعد عقود من قتال الظل بين البلدين. وكان من المتوقع أن يشرف رئيسي، البالغ من العمر 63 عاماً، على عملية خلافة المرشد على خامنئي، الذي يقود إيران منذ 1989 بعد وفاة آية الله روح الله الخميني. وكان رئيسي من أبرز المرشحين لخلافة خامنئي.
مصرع رئيسي وعبد اللهيان المفاجئ دفع بالمرشد الأعلى وغيره من المسؤولين البارزين للتأكيد السريع للإيرانيين، والأهم من ذلك لجيران وخصوم إيران في المنطقة وخارجها، أن هذه الخسارة على أهميتها لن تعدل بأي شكل مسيرة إيران وأهدافها الداخلية والخارجية. وبما أن الدستور الإيراني يقضي بانتخاب الرئيس الجديد خلال خمسين يوماً بعد وفاة رئيسي، وبما أنه من المستبعد جداً، إن لم يكن من المستحيل أن يفتح المرشد الأعلى السباق الرئاسي على مصراعيه أمام المرشحين الذين يمثلون مختلف التيارات للتنافس الحر قبل الاقتراع الشعبي، فإن خامنئي سوف يجد نفسه مضطراً لانتقاء مرشح يدين له بالولاء، ويعكس مواقفه وقناعاته إلى حد كبير، كما كان الحال مع الرئيس الراحل، على أن يحظى المرشح الجديد بدعم القوى والمؤسسات الأمنية في البلاد، وفي طليعتها الحرس الثوري. ويقوم مجلس خبراء القيادة، الذي يسيطر عليه المرشد الأعلى، بالنظر في خلفية وسياسات المرشحين للرئاسة، ولهذا المجلس صلاحية رفض ترشيح أي شخصية إذا رأى أنها غير مؤهلة لأي سبب لشغل المنصب الرئاسي، وهذا ما يعطي المرشد الأعلى حق النقض (الفيتو) ضد أي مرشح لا يناسبه.
وحتى قبل مصرع رئيسي، كانت قضية خلافة المرشد الأعلى محور خلافات ونقاشات ومناورات حادة بين أقطاب النظام الإسلامي بسبب المرحلة التاريخية التي تمر بها إيران، ولأنها المرة الثانية التي تنتقل فيها سلطة المرشد الأعلى من قائد إلى آخر. بعد مقتل رئيسي، يمكن القول أن هذه المسألة أصبحت أكثر إلحاحاً وأهمية من أي وقت مضى. ومع أن انعدام اليقين يهيمن على مسألة خلافة رئيسي، وفي الخلفية المسألة الأهم والأخطر، خلافة المرشد الأعلى، إلا أن مشاعر انعدام اليقين غير موجودة عندما يتعلق الأمر بسياسات إيران الداخلية والخارجية. داخلياً، من المتوقع أن تحافظ إيران بعد انتخاب الرئيس الجديد على السياسات الاجتماعية المحافظة وعلى سياساتها الاقتصادية على الرغم من الفشل التاريخي لهذه السياسات.
خارجياً، سوف تحافظ إيران على أهم ما أنجزته الجمهورية الإسلامية في مجال بسط نفوذها وهيمنتها الإقليمية، أي شبكة العلاقات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية التي أقامتها مع وكلائها من تنظيمات عسكرية وميليشيات تعتبرها جزءاً عضوياً من منظومتها العسكرية (الهجومية والدفاعية)، والتي أقامتها في لبنان (حزب الله) والعراق (قوات الحشد الشعبي) وسوريا، واليمن (الحوثيين) ومع حركة حماس في غزة.
تنسق إيران سياساتها العسكرية والأمنية مع هذه التنظيمات عبر فيلق القدس، وهو من أهم الوحدات العسكرية في الحرس الثوري الإيراني، الذي يشرف عليه مباشرة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. ولذلك ليس من المتوقع في ظل غياب رئيسي وعبد اللهيان أن يتغير أي شيء في هذه السياسات. عندما أمر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني خلال زيارته في العراق في 2020، فقدت إيران قائداً عسكرياً كاريزماتياً كانت له علاقات شخصية ووثيقة مع قادة هذه التنظيمات والميليشيات لأكثر من سبب، من بينها إجادته للغة العربية. وكان من اللافت أن عبد اللهيان، الذي يجيد العربية، كان قد بدأ يلعب دور الوسيط مع قادة هذه التنظيمات العسكرية العربية. وكان هناك تقاسم للأدوار بينه وبين رئيسي: يقوم عبد اللهيان بدور حلقة الوصل مع التنظيمات المتحالفة مع إيران ومع وكلائها في المنطقة، بينما يقوم رئيسي بتعزيز علاقات إيران السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، (لعب رئيسي دوراً هاماً في تطبيع العلاقات بين طهران والرياض)، وخاصة منذ تعزيز نظام العقوبات الأميركية والدولية المفروضة على إيران.
منذ انسحاب الولايات المتحدة، خلال إدارة الرئيس ترامب في 2018 من الاتفاق النووي الموقع مع إيران في 2015، تطور إيران بسرعة أجهزة الطرد المركزي، وتزيد من كميات اليورانيوم المخصب بدرجات عالية صالحة لاستخدامه في صنع القنابل الذرية، ما يجعلها وفقاً لمعظم الخبراء في الشؤون النووية دولة تقف على عتبة الدخول في المرحلة النووية. إيران، وخاصة في أعقاب المواجهة العسكرية الأخيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤها، لن تتراجع، ولو بشكل بسيط، عن انجازاتها في المجال النووي.
عندما أُنتخب الرئيس جوزيف بايدن رئيساً، أراد أن يركز اهتماماته الاستراتيجية على احتواء نفوذ الصين العسكري والاقتصادي. فيما يتعلق بإيران، أراد بايدن اعتماد سياسات لا تزيد من التوتر مع إيران، وتسعى إلى إحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه سلفه ترامب. ولكن الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، والدور العسكري لإيران في الحرب كمصدر تسليح هام لروسيا، وخاصة لجهة تزويدها بالمسيرات والصواريخ، جعل طهران طرفاً عسكرياً مباشراً في حرب تدور في قلب أوروبا، وعضو هام في المعسكر المناوئ للمعسكر الدولي الذي تقوده إدارة الرئيس بايدن ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحلفائه. خلال هذه الفترة لم تبد طهران حماساً ملحوظا لإحياء الاتفاق النووي، الأمر الذي أوصل المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة إلى طريق مسدود منذ أكثر من سنة.
منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة في أكتوبر/كانون الأول الماضي، أثبتت إيران لخصومها وأعدائها في المنطقة وما ورائها أن استثمارها في هذه التنظيمات وفي وكلائها في المنطقة كان استثمارا صائباً، فهي تشارك في حرب غزة بشكل غير مباشر عبر تنظيمات مثل حزب الله في لبنان والتنظيمات الأخرى في العراق، وتذّكر الدول الغربية، التي تعتمد كثيراً على الملاحة الدولية، بعلاقاتها العسكرية الوطيدة مع الحوثيين في اليمن، الذين عطلوا إلى حد كبير التجارة الدولية في البحر الأحمر منذ بدء حرب غزة.
وللتدليل على أن مقتل الرئيس الإيراني لن يغير من نمط عمليات هذه الميليشيات، حدثت مناوشات عسكرية بين اسرائيل وحزب الله على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء قامت تنظيمات عراقية تعمل مع إيران بإطلاق المسيرات ضد قاعدة عسكرية في إسرائيل. مثل هذه الرسائل تقول لإسرائيل وللعالم أن مصرع رئيسي لم يغير أي شيء، وأن الأمور مستمرة كالمعتاد، أو على الأقل كما هي عليه منذ أكتوبر/كانون الأول الماضي. هذه التنظيمات المتعاونة مع إيران كانت دائما مفيدة وضرورية لاستراتيجية إيران العسكرية في المنطقة. ولكنها بعد حرب غزة، أصبحت أكثر مركزية لإيران لكي تمارس من خلالها بسط نفوذها وقدراتها العسكرية وراء حدودها.
يلاحظ الخبراء في الشؤون الإيرانية أن الاقبال الشعبي على المشاركة في الدورات الانتخابية الأخيرة في إيران الرئاسية والنيابية يتضاءل بسبب انحسار ثقة الناخبين بصدقية العملية السياسية، واستمرار تصلب النظام سياسياً واجتماعياً. ويقول هؤلاء أن المواطنين الإيرانيين سوف يعبرون، بنسبة إقبالهم على التصويت، يوم الانتخابات الرئاسية في 28 من الشهر المقبل، عن موقفهم ليس فقط من الرئيس الذي فُرض عليهم، بل حول موقفهم من الطبقة السياسية بأكملها بدءاً برأسها، المرشد الأعلى ورؤيته الثابتة والمتشددة لإيران ومستقبلها.
ما يمكن قوله بكثير من الثقة هو أنه طالما ظلت إيران تحت سلطة المرشد الأعلى خامنئي، فإن سياساتها الداخلية، والأهم من ذلك سياساتها الخارجية بأبعادها العسكرية والنووية، سوف تبقى ثابتة وغير خاضعة لأي تغيير أو تعديل بغض النظر عن هوية خليفة رئيسي. الفرنسيون لهم قول مأثور وهو “كلما تغيرت الأمور، ظلت على حالها”، وهذا هو حال إيران.