ينتهي مع وفاة السلطان قابوس بن سعيد حكمه الذي دام خمسة عقود على عُمان. وقد تمّت تسمية هيثم بن طارق آل سعيد، أحد أبناء عم قابوس، خلفًا له في انتقال للسلطة خلا من أي عقبات. ويتولى خلف قابوس السلطة في وقت تشهد فيه المنطقة توترات كبيرة وتقف فيه بلاده في موقف غير ثابت ضمن مجلس تعاون خليجي متزعزع. مع ذلك، تقع مسؤولية التحديات الاجتماعية-الاقتصادية في عُمان بالكامل على كاهل السلطان الجديد. والسياسات المحلية والسياسة الاقتصادية هي التي ستحدد نجاح قيادة هيثم في نهاية المطاف.
ورغم أن البلاط السلطاني كان قد أعلن أن قابوس في “حالة صحية مستقرة” طوال شهر كانون الأول/ديسمبر 2019، كان من الشائع سماع العمانيين يناقشون علنًا حقبة ما بعد قابوس. واعتقد الكثير من العمانيين والمحللين أن هيثم أو أحد أشقائه هو المرشح الأوفر حظاً ليخلف قابوس، لكن الخلافة بقيت غير واضحة المعالم. فقابوس أبعد عمدًا أفراد العائلة المالكة عن دوائر السلطة خلال حكمه، حارمًا خلفه من خبرة كبيرة في إدارة شؤون البلاد.
هذا وكان السلطان الجديد قد شغل سابقًا منصب وزير الثقافة والتراث وأمين عام وزارة الخارجية. في الواقع، وخلال خطابه الأول بصفته سلطانًا في 11 كانون الثاني/يناير، وعد هيثم بالاستمرار في تطبيق سياسة مسقط للتعايش السليم مع دول الجوار. كما قاد هيثم اللجنة المشرفة على رؤية عُمان 2040 – وهي استراتيجية شاملة تحدّد أولويات البلاد الوطنية خلال العقدين المقبلين. وتربطه أيضًا علاقات مع نخبة مجتمع الأعمال في البلاد وأظهر اهتمامًا في الشؤون التجارية. وستكون هذه الخبرة مفيدة في الوقت الذي يعالج فيه السلطان التحديات الاقتصادية المتنامية في عُمان.
مهمة السلطان هيثم الأولى: الاقتصاد
يُنسب إلى قابوس على نحو واسع تسجيل مستوى غير مسبوق من التنمية الاقتصادية والربط بين البنى التحتية في عُمان. وكانت البلاد غير متطورة بشكل كافٍ خلال قيادة والد قابوس الجدلية، سعيد بن تيمور آل سعود. لكن خلال السنوات الأخيرة من حكم قابوس، كان العديد من العمانيين يخشون سرًا من عدم قدرة السلطان المريض على تطبيق إصلاحات اقتصادية مثيرة للجدل. وبعد سنوات من مبادرات التنويع الاقتصادي بقيادة الحكومة، لا يزال قطاع النفط والغاز يشكّل أكثر من 70 في المائة من الإيرادات الحكومية. وحين انهارت أسعار النفط بين 2014 و2015، استنزف هذا الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية مالية الحكومة.
لكن على الرغم من الموارد المالية المحدودة، استمرت الحكومة العُمانية بالصرف بما يتخطى قدرتها. وأسفر العجز في الموازنة على أساس سنوي عن دين حكومي مرتفع بلغ 50 مليار دولار تقريبًا في 2019، في زيادة عن 4 مليارات دولار في 2014. وقفز إجمالي دين الحكومة العام من أقل من 5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي إلى ما يناهز 50 في المائة في خلال أربع سنوات فقط؛ وتشير التقديرات إلى أن هذا الدين قد يبلغ مستويات مرتفعة تصل إلى 64 في المائة بحلول العام 2022. كما يرزح صناع السياسة الاقتصاديون في عُمان تحت ضغوط متنامية من أجل الحفاظ على ربط العملة في البلاد، حسبما أفاد زياد داود، أحد كبار خبراء الاقتصاد لشؤون الشرق الأوسط في “بلومبرغ”.
وكانت البلاد استفادت إلى حدّ كبير من صندوق الاحتياطي العام للدولة، وهو صندوق الثروة السيادية المحلي، من أجل المساعدة على تمويل العجز المالي. ويملك هذا الصندوق أصولًا تُقدّر قيمتها بنحو 18 مليار دولار، كما يناهز إجمالي الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي العُماني 17.4 مليار دولار، وهو مبلغ ضئيل نسبيًا نظرًا إلى عجز الموازنة الثابت في البلاد. هذا وصنّفت وكالات تصنيف بارزة السندات العُمانية ضمن فئة “السندات الرديئة”، عازيةً السبب إلى الآفاق القاتمة لتعزيز المالية العامة. وفي ظل استلام السلطان الجديد مهامه، يبقى احتمال تعزيز المالية العامة المتوجب منذ فترة طويلة بعيد المنال، بما أن التحويلات النقدية السخية والعلاوات الممنوحة للموظفين الحكوميين واستحداث وظائف حكومية سترافق على الأرجح عمليات انتقال القيادة في المنطقة.
هذا وترسم مؤشرات اقتصادية أخرى صورة متباينة. فمعدلات البطالة لا تزال متشبثة بمستوياتها المرتفعة، ولا سيما في أوساط الشباب. وبحسب تقديرات البنك الدولي، يبلغ معدل البطالة بين الشباب العُماني 49 في المائة. كما أن النمو والاستثمارات الأجنبية المباشرة لم تُحرز التقدّم المطرد والمستدام الضروري لتعزيز ثقة المستثمرين. وكان الاقتصاد العُماني قد تقلّص بنسبة 11.9 في المائة بالقيم الإسمية خلال النصف الأول من العام 2019، ويُعزى ذلك إلى تراجع الأنشطة الصناعية غير النفطية وقطاع الخدمات. وكان المركزي العُماني توقّع نموًا بنسبة 1.1 في المائة في 2019، في حين قدّر البنك الدولي عدم تحقيق أي نمو (أي 0.0 في المائة)، لكنه يرجّح ارتفاع النمو إلى 3.7 في المائة و4.3 في المائة في 2020 و2021 على التوالي. أما تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الداخل، التي تراوحت بين 2.3 مليار دولار في 2016 و2.9 مليار في 2017، فقد علت إلى 6.4 مليارات دولار عام 2018. وكما هي الحال في دول الخليج العربية الأخرى، تستأثر الاستثمارات في قطاع النفط والغاز بالجزء الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلية في البلاد.
الإصلاح الاقتصادي في سلّم الأولويات
ستحدّد التحديات المحلية والاقتصادية الحساسة نجاح القائد الجديد خلال المرحلة الأولى من حكمه. ويتعين على السلطان هيثم إيلاء الأولوية لثلاثة مكونات رئيسية في السياسة الاقتصادية: كفاءة الإنفاق وجودة الاستثمارات والإصلاحات الكبيرة الأثر.
وتتوقع موازنة عُمان المخصصة لمشاريع 2020 زيادة في الإنفاق بنسبة 2 في المائة مقارنةً بالعام 2019 وتراجعًا طفيفًا في عجز الموازنة. وبخلاف حكومات الدول المجاورة، على غرار دبي، التي زادت نفقاتها للعام 2020 بنسبة 17 في المائة، ترزح الحكومة العمانية تحت وطأة ضغوط كبيرة على مستوى المالية العامة. وتعتزم الحكومة تمويل 80 في المائة من العجز المقدّر بنحو 6.5 مليارات دولار من خلال الاقتراض الخارجي والمحلي، في وقت سيسدّ فيه الاحتياطي العجز المتبقي في الإنفاق.
وتشكّل إيرادات النفط والغاز 72 في المائة من الإيرادات الحكومية، وتفترض موازنة العام 2020 سعرًا معتدلًا لبرميل النفط عند 58 دولارًا. وربما تدعم أسعار النفط المرتفعة بسبب المخاطر الجيوسياسية بشكل مؤقت خزانات الحكومة وتوفر حماية مالية على المدى القصير. وكانت أسعار النفط ارتفعت بنسبة 5 في المائة بعد الهجوم الذي أودى بحياة قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق في 3 كانون الثاني/يناير. كما تخطت لفترة وجيزة عقود خام برنت الآجلة عتبة 70 دولارًا للبرميل في 6 كانون الثاني/يناير – وهي عتبة لم يبلغها هذا الخام منذ 16 أيلول/سبتمبر 2019. وفي أعقاب الهجوم الانتقامي الذي شنته إيران في 8 كانون الثاني/يناير على قواعد عراقية تضمّ قوات أمريكية، سجل خام برنت ذروة عند 71.75 دولارًا للبرميل لفترة وجيزة، غير أن العقود الآجلة انخفضت إلى 65.65 دولارًا للبرميل بعيْد ذلك. لكن ردّ فعل السوق العالمي الخجول إزاء التوترات الخليجية يشير إلى أن تحقيق أرباح مالية استثنائية من ارتفاع أسعار النفط المستدام مستبعد.
وعليه، يجب أن تصبح أنماط الإنفاق الأطول أمدًا في عُمان أكثر كفاءة. فبعد الإنفاق الاجتماعي، الذي يشكّل 40 في المائة من الموازنة، تعتزم الحكومة ضخّ 13.8 مليار دولار (نحو 40 في المائة من الموازنة) في مشاريع استثمارية توفر الكثير من فرص العمل ونموًا محتملًا. ويركّز هذا الانفاق الاستثماري على خمسة تجمعات قطاعية “واعدة” – ألا وهي النقل والخدمات اللوجستية والتصنيع والسياحة وصيد الأسماك والتعدين – تمّ تسليط الضوء عليها في خطة التنمية الخمسية (2016-2020) في البلاد وهي تتواءم إلى حدّ كبير مع أهداف رؤية عمان 2040. وستسهّل الشركات المملوكة للدولة، على غرار المجموعة العمانية العالمية للوجستيات والشركة العمانية للتنمية السياحية، الاستثمارات في هذه القطاعات.
وتصطدم هذه القطاعات بمنافسة إقليمية شرسة من دول مجاورة أغنى. فالإمارات العربية المتحدة هي مركز اللوجستيات بحكم الأمر الواقع في الخليج، وقطر تنفق مبالغ كبيرة لتجهيز المناطق الحرة في مطارها ومرافئها بتكنولوجيا لوجستيات متطورة. أما عُمان، فتسلّط الضوء على الميزة التنافسية التي تتمتع بها مرافئها ومناطقها الحرة كونها أكثر بعدًا عن التوترات الناتجة عن مضيق هرمز.
وقد تواجه عُمان صعوبات للتنافس مع الدول الخليجية المجاورة لها في قطاعات ذات أولوية عالية، على غرار السياحة. فالسعودية تروّج بكثافة لقطاعها السياحي، وفي أيلول/سبتمبر 2019، اعتمدت المملكة برنامج التأشيرات السياحية الإلكترونية الذي يسمح لـ49 دولة بتقديم طلب تأشيرات سياحية تكون سارية لمدة ثلاث سنوات. ولا تزال الإمارات والبحرين وقطر وجهات رائجة في أوساط المسافرين العالميين. وقد تكون عُمان المحطة الثانية للسياح المتوجهين نحو الخليج والمهتمين بأنشطة محددة على غرار الرياضات المغامرة والسياحة البيئية.
ويُعتبر جذب الاستثمارات الأجنبية التي توفر مساهمة قيّمة في الاقتصاد المحلي من أبرز أولويات صناع السياسة. ففي الأول من تموز/يوليو 2019، أصدر قابوس أربعة مراسيم ملكية – شملت قانون استثمار رأس المال الأجنبي– من أجل استقطاب مستثمرين جدد. غير أن الآمال المرتفعة بالاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبخاصةٍ في القطاعات غير النفطية، لم تتبلور. ويعبّر بعض العمانيين عن إحباطهم من فشل دور السلطان كمفاوض في النزاعات مع إيران وقطر في تحقيق أي أرباح مالية.
تجدر الملاحظة أن المواطنين العمانيين يشكّلون نحو 60 في المائة من سكان البلاد؛ وبالتالي، فإن السلطنة قلقة تحديدًا إزاء قدرة الشركات الأجنبية على استحداث وظائف للسكان المحليين ونقل المهارات ودفع الضرائب. وكان الصينيون قد فشلوا فشلًا ذريعًا في هذا المجال، حيث كان التقدم البطيء وطبيعة المشاريع الصينية المتراجعة في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم رمزًا لتشكيك أشمل بجدوى الشراكات الاقتصادية مع الصين. غير أنه ثمة مجال للتعاون: فقد جمعت الحكومة العمانية مليار دولار من خلال بيع حصة بنسبة 49 في المائة في الشركة العمانية لنقل الكهرباء إلى مؤسسة الشبكة الحكومية الصينية. وتعتزم الشركات القابضة المملوكة لسلطنة عمان خصخصة المزيد من الشركات التابعة خلال السنوات القادمة.
ويجب أن تحتل الإصلاحات الاقتصادية الكبيرة الأثر الأولوية، في وقت تتطلب فيه بعض مقاربات السياسة إعادة النظر فيها. فعُمان لم تفرض ضريبة على القيمة المضافة كما تمّ الاتفاق عليه في الاتفاقية الموحدة لضريبة القيمة المضافة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية المبرمة عام 2016. والضريبة المتواضعة التي تفرضها السلطنة – التي كان من المتوقع أن تدر حوالى 260 مليون دولار سنويًا – لا تقدّم أي أرباح مالية استثنائية. ومن الطبيعي أن تعتمد عُمان مقاربة متشددة بشكل متزايد إزاء توطين القوى العاملة نظرًا إلى تركيبة البلاد الديمغرافية، رغم أنها بذلك تخاطر بجعل البلاد أقل جاذبية للوافدين وللشركات الأجنبية. وعوضًا عن استحداث وظائف محلية تركز على العرض باستخدام فرض قيود على تأشيرات عمل الأجانب، على سبيل المثال، تُعتبر مقاربة قائمة على الطلب تركز على تطوير المهارات المحلية أكثر استدامة على المدى الطويل.
ويشير واقع أن بعض العمانيين يعتبرون الإصلاحات الاقتصادية المثيرة للجدل في السعودية خطوات ضرورية وجريئة إلى رغبة في الإصلاح في عُمان. فالمرحلة الانتقالية السياسية في عُمان تمنح السلطان الجديد وحكومته إما خيار الإبقاء على السياسة الاقتصادية كما هي أو إجراء تحوّل هيكلي أعمق في المؤسسات الاقتصادية الرئيسية. ويُعتبر السيناريو الأول أكثر ترجيحًا، لكن من الملح اتخاذ تدابير حاسمة على صعيد المبادرات الاقتصادية التي طال انتظارها.