في الأسبوع الخامس من توليه منصبه، ومن خلال رسمه حدوداً واضحة للصديق والعدو على حد سواء، بدأ الرئيس جوزيف بايدن بتنفيذ نهج مغاير لدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. تعرضت المملكة العربية السعودية للتأنيب، ولفرصة مهمة كذلك لإعادة ضبط الأمور، جراء إصدار الملخص غير السري للاستخبارات الأمريكية بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في عام 2018. وتلقت إيران، الخصم الرئيسي لواشنطن، رسالة لا لُبس فيها من خلال الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت الجماعات الموالية لإيران في منطقة استراتيجية للغاية على الحدود السورية-العراقية.
في كلتا الحالتين، كانت الرسالة واضحة: ومفادها أن هذه ليست السنة التاسعة لإدارة الرئيس باراك أوباما، وليست السنة الخامسة من رئاسة دونالد ترامب. وبدلاً من ذلك بدأت إدارة بايدن، بسياستها الخارجية، التي يقوم على صياغتها اثنان من كبار الموظفين في إدارة أوباما – وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان- بالتحقق من صحة الادعاءات بأنها قد تعلمت دروساً من أخطاء الماضي، وأن لديها نهجاً مختلفاً وأكثر صرامة. من الممكن تلخيص هاتين الرسالتين، على الرغم من اختلافهما الشديد في معظم النواحي، على النحو التالي: نحن جادون بشأن أهدافنا وعليكَ أن تفهم ذلك أو ستكون هناك عواقب.
إصدار ملخص التقرير الاستخباراتي ينطوي على رسالة قوية
يبدو أن إصدار الملخص غير السري جاء بمثابة أخبار للسعودية. فالتقرير يعيد، بشكل رسمي، التأكيد على ما كان واضحاً بعد عملية القتل بوقت قصير: لدى دوائر الاستخبارات الأمريكية أدلة هيكلية واستنتاجات قوية مفادها أن مهمة القبض على خاشقجي أو قتله “تمت الموافقة عليها” من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ومع ذلك، لا توجد معلومات جديدة أو أي شيء يتعارض مع ما توصل إليه المراقبون، الحريصون منذ سنوات، حول كيفية توصل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) إلى هذا الاستنتاج – ولا سيما، سلسلة الاتصالات الموثقة، وإن كانت حول ما هو غير معروف، بين ولي العهد وأحد مساعديه الرئيسيين الذي هناك اعتقاد كبير بأنه كان المسؤول المباشر.
ومع ذلك، فإن للتقرير تبعات سلبية فورية على العلاقات الثنائية، لأنه يؤكد على الملأ استنتاجات وكالة المخابرات المركزية. فهو يلفت الانتباه من جديد إلى الجريمة ضد خاشقجي، ويساعد على تعزيز الاعتقاد السائد بأن محمد بن سلمان يتحمل المسؤولية عن هذا العمل الفظيع. قامت وزارة الخزانة بفرض عقوبات جديدة على بعض كبار المسؤولين السعوديين. وأعلنت وزارة الخارجية عن “حظر خاشقجي” [Khashoggi Ban]، الذي يفرض قيوداً على سفر 76 مواطناً سعودياً متهمين بالتورط في نشاط ضد المعارضين خارج الحدود الإقليمية، وحثت الرياض على حل قوة التدخل السريع المتورطة في جريمة القتل. ويشير بيان للنائب غريجوري دبليو. ميكس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، إلى أن الكونجرس قد يحاول تعزيز مثل هذه العقوبات أو فرض عقوبات إضافية. بالإضافة إلى ذلك، قام بايدن بتحويل تركيز التواصل الرئاسي مع الرياض. فبينما كانت إدارة ترامب تتواصل بشكل أساسي مع ولي العهد، أعاد بايدن العمل بالبروتوكول الدبلوماسي في أول مكالمة هاتفية له مع الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه العلاقة الحصرية يمكن أن تستمر لفترة طويلة.
بايدن يميز نهجه عن نهج ترامب
يمكن القول، إنه من خلال حجب هذا الملخص عن الجمهور، فإن ترامب قد أضر بالعلاقات الأمريكية-السعودية وعمّق من وصمة عار الجريمة من خلال التعتيم عليها بنقاب التستر. وقد ضَمِن ذلك عودة القضية إلى الصفحات الأولى مرة أخرى على الأقل، وإن كان توقيت إصداره استراتيجياً بعد ظهر يوم الجمعة، عندما تكون التغطية الإخبارية مخففة بشكل ملائم.
من الواضح أن إدارة بايدن تحاول أن تميّز نفسها عن إدارة ترامب، ولا سيما من وجهة نظر النشطاء والمشرعين التقدميين – على الرغم من أن العديد منهم لا يزال غير راضٍ إلى درجة كبيرة. تسعى إدارة بايدن إلى عكس أي شعور ربما تكون الإدارة السابقة قد تسببت به بأن واشنطن لا تهتم بعملية القتل الوحشية لكاتب عمود في الواشنطن بوست والحاصل على إقامة دائمة في الولايات المتحدة. لن تتظاهر الإدارة بأن مقتل خاشقجي لم يحدث أو أنه ليس لديها فكرة عن المسؤول، كما عملت إدارة ترامب بالفعل. كما أنها لن تستمر في إخفاء المعلومات الاستخباراتية الأمريكية غير السرية حول عملية القتل عن الجمهور دون أي مبرر واضح. وأنه سوف يكون هناك عواقب، وإن كانت محدودة.
وهذه أيضاً محاولة للتخلص من مخلفات ما يعتبره فريق بايدن سوء تعامل بائس من قبل ترامب مع عملية القتل. لقد أبقى ترامب على عملية القتل، والملخص غير السري، دون معالجة ذات مغزى، ما جعلها مصدر إزعاج دائم. لم تعمل تحركات إدارة بايدن على إخطار الرياض، وتحديداً محمد بن سلمان فحسب، بأن مثل هذا السلوك لن يتم التسامح معه دون رد ذي مغزى، ولكنها تسعى أيضاً إلى إيجاد حل لعملية القتل باعتبارها من القضايا الثنائية الرئيسية.
بايدن كذلك يسعى إلى تجاوز مقتل خاشقجي
ومع ذلك، فليست جميع الأخبار سيئة بالنسبة للرياض. فهذه الخطوات تهدف أيضاً إلى إفساح المجال أمام أهداف السياسة الأمريكية الأخرى، التي سوف تتطلب تعاوناً سعودياً وعلاقة عملية على الرغم من استمرار الغضب بين الديمقراطيين ضد كل من ترامب والرياض.
كان تعامل إدارة بايدن مع هذه المسألة حاذقاً وبارعاً نسبياً. فالهدف من العقوبات والإحراج والإدانة هو أن تكون متناسبة عملياً مع حجم الجريمة، ليس من الناحية الأخلاقية بالتأكيد، ولكن في السياق الأكثر تشويشاً على الحكم الرشيد وأهداف السياسة الأمريكية على نطاق أوسع. فجريمة القتل لا يمكن التراجع عنها، ولدى إدارة بايدن مقتضيات مهمة في الشرق الأوسط.
الأهداف المتعلقة باليمن وإيران تتطلب التعاون السعودي
تعد أولويات بايدن في الشرق الأوسط واضحة، ليس فقط من خلال البيانات، وإنما أيضاً من خلال المبعوثين الخاصين الذين قام بتعيينهم. روبرت مالي هو المبعوث الخاص لإيران والدبلوماسية النووية. تيموثي أيه. ليندركينج هو المبعوث الخاص لليمن، الذي يسعى إلى إنهاء تلك الحرب المدمرة. لا يوجد مبعوثون خاصون لإسرائيل/فلسطين أو سوريا أو العراق أو لأية مقتضيات سياسية محتملة أخرى. من الواضح أن الأولويات هي إيران واليمن.
لهذا السبب فإن تصفية الأجواء مع السعودية بالنسبة للسياسات الإقليمية التي تنتهجها إدارة بايدن لا تقل أهمية عما هو ضروري من الناحية السياسية لدى الديمقراطيين التقدميين. فالسعودية هي لاعب أساسي في كلتا المسألتين، بشكل مباشر في اليمن وبشكل غير مباشر، ولكن حاسم، فيما يتعلق بإيران. فإعلان الملخص الاستخباراتي يهدف إلى تسهيل ذلك، تماماً كما أوحى بايدن في المكالمة الهاتفية التي سبقت الإصدار مع الملك سلمان، والتي تعاملت معها الإدارة كشرط مسبق لنشر الوثيقة. ذكر بايدن على وجه التحديد حقوق الإنسان، وهي قضية تجنبها ترامب، لكن المحادثة ركزت على الأهمية المتبادلة للشراكة المستمرة. وهذا ليس مجرد كلام خطابي. إذا قُدر لهذه المبادرات الرئيسية أن تنجح، فإن إعادة ضبط الشراكة الناجحة بين واشنطن والرياض هي خطوة أولى لا غنى عنها.
كان تأثير بايدن واضحاً على الحسابات السعودية منذ فوزه في الانتخابات. فكان الرد الأكثر دراماتيكية هو قرار حل مقاطعة السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر لقطر، والتي أوضح بايدن أنه لا يريد أن يرثها عن ترامب. ولكن الرد تضمن أيضاً إطلاق سراح سجناء سياسيين مثل الناشطة في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول، والإفراج عن اثنين من مزدوجي الجنسية الأمريكية والسعودية في انتظار المحاكمة، وتخفيض الأحكام الصارمة على ناشطين شيعة. حتى إنه كانت هناك مؤشرات على تكثيف الدبلوماسية السعودية بشأن اليمن، تزامناً مع أهداف بايدن. إذا كان المقصود من الجهد الأولي هو التأثير على السلوك السعودي، فقد كان ذلك ناجحاً إلى حد ما على الأقل.
تم إخطار طهران: أوباما لن يعود
لم تكن السعودية الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تلقت إشارة قوية. فقد تم إخطار إيران بوضوح بأن إدارة بايدن لن تحجم عن المواجهة لمجرد أنها تسعى إلى إحياء الدبلوماسية النووية الأمريكية-الإيرانية. بعد هجومين صاروخيين كبيرين على المصالح الأمريكية في العراق من قبل الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، ردت إدارة بايدن في 25 فبراير/شباط بمهاجمة المنشآت التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة الموالية لإيران في سوريا.
استهدف الهجوم بعناية أحد أكثر المواقع الاستراتيجية حساسيةً في الشرق الأوسط، وهو نقطة العبور على الطريق الرئيسي السريع الذي يربط بين غرب العراق وشرق سوريا. من وجهة النظر الإيرانية، ربما يكون هذا هو أكثر المناطق، البعيدة عن حدودها، أهمية من الناحية الاستراتيجية على وجه الأرض. إذا أراد الإيرانيون يوماً ما تعزيز “ممر بري” مؤمن عسكرياً يمتد من إيران، عبر العراق وسوريا، ليصل إلى لبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط، فإن ذلك سيتطلب هيمنة غير متنازع عليها على ذلك الموقع بالتحديد. لهذا السبب تتركز القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها المتبقية في سوريا في هذه المنطقة، والتي كانت تُستثنى دائماً حتى من خطط الانسحاب العسكري الأكثر شمولاً، التي كان يطرحها ترامب.
عندما أعلنت إدارة بايدن، في أعقاب الاستفزاز الكبير الثاني الأخير في العراق، والذي أسفر عن إصابة خمسة أمريكيين، أنها سوف ترد “في الزمان والمكان اللذين نختارهما”، كان الأمر جدياً. والأهم من ذلك، أن الرد كان موجها إلى حيث يمكن أن يلحق أقصى قدر من الألم الاستراتيجي بإيران. علاوة على ذلك، من خلال ضرب سوريا بدلاً من العراق، قلل بايدن من فرص أن يؤدي الرد إلى تأجيج الوضع السياسي المتقلب داخل العراق نفسه. ومرة أخرى، يبدو أن ردة الفعل هذه تعكس درجة عالية من المهارة والبراعة.
كما كان ذلك بمثابة اختبار لإرادة إدارة بايدن، وخاصة في ضوء وجهة النظر القائلة بأن إدارة أوباما كانت تركز كثيرًا على المفاوضات مع إيران لدرجة أنها كانت، خلافًا لذلك، على استعداد للتسامح مع أي سلوك غير مقبول. وقد تَعزز هذا التصور ليس فقط من خلال التردد في الانتقام من وكلاء إيران في العراق، وإنما أيضًا عندما فشل أوباما في الرد على انتهاك الرئيس السوري بشار الأسد باستخدام “الخط الأحمر” من أسلحته الكيميائية، ويُعزى ذلك إلى حد كبير للخوف من تعطيل الحوار مع طهران: استهزأ العديد من منتقدي إدارة أوباما في الولايات المتحدة والشرق الأوسط مفترضين أن بايدن سيكرر هذا الخطأ.
إن ما أحبط طهران هو امتناع إدارة بايدن عن التسرع في الاندفاع إلى عملية فورية مع إيران. وللضغط بشأن هذه القضية، بدأت الجهود الإيرانية بالتهديد بإنهاء عمليات التفتيش النووية الدولية وزيادة الإنتاج النووي، والاستيلاء على سفينة كورية جنوبية واعتقال مواطن أمريكي بتهمة التجسس، واختتمتها بالهجمات في العراق. وفي أعقاب الرد الانتقامي لبايدن، جاء رفض إيراني لحضور اجتماع برعاية أوروبية مع إيران. وبالتالي، فإن لعبة الدجاجة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن استئناف المفاوضات تشمل الآن أعمال عنف متبادلة محشوة بالانتقادات المتبادلة.
وكما هو الحال بالنسبة لإصدار الملخص والعقوبات الجديدة ضد السعودية، فإن الانتقام من إيران في سوريا يهدف إلى التوضيح الفوري بأن نهج بايدن ليس تكراراً لتحفظ أوباما على مواجهة إيران ولا تكراراً لتساهل ترامب تجاه السعودية. وإنما تتطلب الإجراءات المزدوجة في أواخر فبراير/شباط أن يأخذ كل من شركاء الولايات المتحدة وخصومها الإدارة الجديدة على محمل الجد وفقًا لشروطها الخاصة، وأن يضعوا على وجه السرعة تقديراً متبصراً لما يأمل بايدن وفريقه في تحقيقه وهما على استعداد لقبوله من الصديق والعدو على حد سواء.