مع اقتراب موعد تسلّم إدارة ترامب لمقاليد الرئاسة، يبدو وضع روسيا في الشرق الأوسط قويًا جدًا. فقد ساعدت القوات العسكرية الروسية (إلى جانب إيران وغيرها من الحلفاء) نظام الرئيس السوري بشار الأسد على طرد خصومه من حلب. كما تحسّنت العلاقات الروسية التركية بدرجة كبيرة بعد تأزّم الأوضاع بين البلدين إثر إسقاط طائرة أف 16 تركية لمقاتلة روسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 فيما تدهورت من جهة أخرى العلاقات التركية مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. هذا ويبدو أن المفاوضات الروسية الإيرانية التركية بشأن وقف إطلاق النار في سوريا تستبعد واشنطن تمامًا.
بالفعل، وبالمقارنة مع علاقات واشنطن المضطربة مع الكثير من بلدان الشرق الأوسط، يبدو أن روسيا قد حسّنت علاقاتها مع الكثير منها على الرغم من هواجس البعض من دعم روسيا للأسد وعلاقاتها الوثيقة بإيران.
وفي حين تشير جلسات الاستماع مع بعض المرشحين للانضمام إلى حكومة ترامب إلى مخاوف حيال روسيا، يحافظ ترامب على رؤية إيجابية حول مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية. فالعديد من كبار موظفي السياسة الخارجية الذين اختارهم ترامب يرون روسيا كحليف ضد الجهاديين السُّنة المتشدّدين ويعتبرونها أقل خطرًا من إيران. وبالفعل، فقد دعا ترامب نفسه الولايات المتحدة إلى العمل مع روسيا في سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) على وجه الخصوص.
أما بالنسبة لرأي روسيا بالإدارة القادمة، فيقدّر الرئيس فلاديمير بوتين قلة اهتمام ترامب بالديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط (أو روسيا أيضًا). ففيما اعتقد بوتن بالفعل أن القلق الذي عبّرت عنه إدارة أوباما ولا سيما وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون حيال هذه المسائل شكلت أساسًا محاولة للإطاحة به في خلال المظاهرات الحاشدة التي انطلقت ضد حكمه بين عامَي2011 و2012، ولكنه لم يعرب عن تخوفات مماثلة بشأن ترامب.
وكذلك أظهر ترامب وبعض مستشاريه عدائية تجاه الإتفاق النووي الإيراني الذي خصصت إدارة أوباما وقتًا وجهدًا كبيرين للمفاوضات بشأنه. ولم يتوضّح بعد ما إذا كان ترامب “سيمزّق” الاتفاق أو يجعله غير صالح كما أوحى أنه قد يفعل، وفي هذه الحالة، لن ينزعج بوتين فعلًا. فبينما كانت المفاوضات جارية بشأن الاتفاق، عبّرت مصادر روسية متعددة عن تخوفّها من أن يؤدّي هذا الاتفاق إلى تحسّن عام في العلاقات الإيرانية الأمريكية وأن تقلّ بالتالي أهمية روسيا بالنسبة لإيران. من الواضح أن هذا لم يحصل. ولن يضمن “تمزيق” إدارة ترامب للاتفاق استمرار العلاقات السيئة بين الولايات المتحدة وإيران فحسب بل سيؤزّم أيضًا العلاقات الأمريكية بحلفائها الأوروبيين الذين يقدّرون الاتفاق – وهذا أمر قد يرحّب به بوتين. وحتى لو لم يمزق ترامب الاتفاق، فلا داعي لأن يقلق بوتين حيال تحسّن العلاقات الإيرانية الأمريكية عمّا هي عليه الآن.
والأرجح أن روسيا ستحافظ على موقعها القوي في الشرق الأوسط إذ لا يرى ترامب موسكو كمنافسة في المنطقة. مع ذلك، قد تواجه السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط عراقيل متعددة.
أولى هذه العراقيل هي إمكانية التدهور السريع لعلاقة “الإعجاب” بين ترامب وبوتين. فكافة المحاولات الأخرى لتحسين العلاقات الأمريكية الروسية كانت واعدة في البداية إنما باءت بالخيبة في النهاية نتيجة الخلافات حول بلدان أخرى مثل صربيا وكوسوفو وجورجيا وأوكرانيا. ومن الممكن أن يحصل ذلك مجددًا. فنظرًا لسرعة استياء كل من بوتين وترامب، قد تتدهور العلاقات بين البلدين أسرع بكثير مما حدث في عهد الرؤساء الأمريكيين السابقين.
ولكن سواء أحصل ذلك أم لا، تواجه روسيا مشاكل أخرى في الشرق الأوسط، حتى لو تبيّن لإدارة ترامب أن التصدي لانتشار النفوذ الروسي في المنطقة ليس من أولويات الولايات المتحدة.
إحدى هذه المشاكل هي أن بوتين لا يبدو قادرًا على حلّ أيّ من صراعات المنطقة المتعددة فعليًا. ففي حين تدّعي اليوم موسكو أنها تعمل مع إيران وتركيا على وقف إطلاق النار في سوريا، إلا أن الجماعات السورية المعارضة التي يسعى بوتين إلى تجنيدها لهذه الغاية رفضت مؤخرًا الانصياع. كما يبدو أن لإيران أيضًا هواجس خطيرة من الأعمال التركية حسبما أفاد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي الذي أدان مؤخرًا “انحراف مواقف تركيا تجاه سوريا” وذلك بعد الاجتماع الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران في موسكو في كانون الأول/ديسمبر 2016. وردًا على مخاوف إسرائيل ودول الخليج العربية حول الدور الذي تلعبه إيران في سوريا، أُفيد أن موسكو قد أبلغت مسؤولين من هذه البلدان بأنهم سيكونون أفضل حالًا مع تواجد القوات الروسية في سوريا لتردع إيران. ولكن الإيرانيين مطّلعون من دون شك على التقارير التي تفيد بأن المسؤولين الروس يقدمون هذه الحجج إنما ليسوا راضين عنها.
ويبدو حاليًا أن التعاون الروسي الإيراني التركي حول وقف إطلاق النار في سوريا لا يستبعد الولايات المتحدة والغرب فحسب بل دول الخليج العربية أيضًا التي دعمت المعارضة السورية ضد الأسد، لا سيما المملكة العربية السعودية وقطر. في حال تمكنت موسكو وطهران وأنقرة فعلًا من التوصل إلى وقف إطلاق النار، سيتعين على الرياض والدوحة الاختيار ما بين مواصلة دعم المعارضة السورية الواهنة بمفردهما مع فرص نجاح ضئيلة أو تقبّل حقيقة انتصار نظام الأسد مع دعم خارجي ثابت. ولكن في حال لم تتمكن موسكو من إدارة التنافس الإيراني التركي واستمر الصراع، ستعتبر أنقرة على الأرجح الرياض والدوحة كحليفتيها الأساسيتين في سوريا.
ويشير ذلك إلى مشكلة أخرى. في حين يتخوف الغرب وعدة دول عربية سنية عن وجه حق مما سيحصل إذا نجحت روسيا وإيران ونظام الأسد بهزيمة المعارضة السورية، سيتسبب هذا النجاح بصعوبات لموسكو أيضًا. فمن دون عدو مشترك، سيقع صراع على النفوذ في سوريا بين موسكو من جهة وإيران وحلفائها من جهة أخرى لا سيما بسبب غياب ثقة إيران بروسيا منذ زمن طويل. إذ تفيد وسائل الإعلام الإيرانية بانتظام إلى أن الإمبراطورية الروسية استولت على جنوب القوقاز (أو ما يُعرف حاليًا بجورجيا وأرمينيا وأذربيجان) من إيران في أوائل القرن التاسع عشر وأن القوات القيصرية تدخلت في إيران لسحق الثورة الدستورية في العقد الأول من القرن العشرين وأن الاتحاد السوفياتي عزّز الحركة الانفصالية في شمال غرب إيران بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية كما احتل (إلى جانب بريطانيا) إيران في خلال الحرب العالمية الثانية وأن موسكو دعمت الرئيس العراقي السابق صدّام حسين في خلال الحرب الإيرانية العراقية التي امتدت من عام 1980 وحتى عام 1988. ويهدف ترداد هذه الأحداث إلى تذكير الإيرانيين بالغدر الروسي، بينما يرى الروس من جهتهم الإيرانيين كناكرين للجميل ومنافقين ويخشون دائمًا من أن يتسبب تحسّن العلاقات الإيرانية مع الغرب (حتى لو لم يبدُ ذلك وشيكًا) بإضعاف النفوذ الروسي في المنطقة.
على نحو مماثل، تدّعي موسكو أنها صديقة للإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء ولكنها لا تبدو قادرة أو حتى مستعدة لاتّخاذ أي إجراءات لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفي حين تدّعي موسكو بأنها ترغب في علاقات جيدة مع إيران ودول الخليج العربية السنية فإن كل ما هي مستعدة لفعله ردًا على التوترات في ما بينها هو عرض بيع السلاح على الطرفين. لكن من الممكن أن تتغاضى دول الخليج العربية عن مراوغة روسيا المزعجة حيال موقفها خوفًا من أن يؤدي انتقاد موسكو إلى تزايد انحياز هذه الأخيرة إلى عدوتها اللدودة إيران.
وسيلعب بوتين من دون شك دورًا ناشطًا وحازمًا في الشرق الأوسط سواء أكانت العلاقات الروسية الأمريكية جيدة أم سيئة. وعلى غرار الإدارات السابقة، سترتكب على الأرجح إدارة ترامب نصيبها من الأخطاء في المنطقة وستستفيد موسكو منها. إلا أن تنبّه موسكو للاستفادة من أي أخطاء أمريكية جديدة لا يعطي أي ضمانات بعدم ارتكابها للأخطاء هي أيضًا. ومع أن حكومات دول الشرق الأوسط قد تذعن بهدوء إلى هندسة روسية لحصيلة غير مرحب بها وإنما مستقرة في سوريا، إلا أن إحدى العواقب المترتبة عن ذلك هي أن الرأي العام في بعض الدول ذات الأكثرية السنية يزداد معاداةً لروسيا ولا سيما منذ معركة حلب الأخيرة. ولكن في دول الخليج العربية، يمتزج الامتعاض من تدخل موسكو في سوريا مع احترام مكره لروسيا كحليفة موثوقة للأسد أكثر مما كانت عليه إدارة أوباما بالنسبة للمعارضة السورية التي تدّعي الولايات المتحدة دعمها. وقد ترحّب موسكو بهذا التوجّه ولكن ليس بتزايد الحس المعادي لروسيا لدى حليفتها المفترضة إيران. فقد تجلّى ذلك مؤخرًا عندما أطلقت الحشود هتافات معادية لروسيا في تشييع الرئيس الإيراني الأسبق آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني في طهران. والواقع أن تنامي الشعور المعادي للروس في العالم العربي السني وإيران لا يبشّر بالخير في ما يتعلّق بنفوذ روسيا على المدى الطويل في الشرق الأوسط.