إن المصالح الوطنية للمملكة العربية السعودية في السياسة المحلية العراقية، وتأثيرها في الديناميات الإقليمية، لم تكن يومًا غائبة كليًا. لكنها عادت فظهرت بشكلٍ لافت على العلن عندما قام وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بزيارة مفاجئة إلى بغداد في 26 شباط/فبراير. وكان السبب الظاهري لهذه الرحلة هو تقوية علاقات المملكة العربية السعودية مع الدولة المجاورة لها شمالًا، خاصةً في سياق الكفاح الجاري ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ومن أجل تأمين موقع للرياض يسمح لها بممارسة أقصى نفوذها في أعقاب حقبة تنظيم داعش في العراق. إلا أن هذه المبادرة الدبلوماسية توجّه أيضًا رسائل مهمة حول مصالح الرياض في العراق، خاصةً من خلال مواجهة النفوذ الكبير لإيران عبر لقاء وزير خارجيتها العلني وتأييده الضمني لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي يتصدى للتحدي السياسي الجدي المفروض عليه من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وفقًا لبيانٍ صدر عن مكتب العبادي، هنّأ الجبير العراق “بالانتصارات المتحققة ضد داعش” وتعهّد بدعم الممملكة العربية السعودية للعراق في محاربة الإرهاب.
قال الجبير للمراسلين بعد أن التقى بنظيره العراقي إبراهيم الجعفري: “تتطلع المملكة العربية السعودية لبناء علاقات مميزة بين البلدين الشقيقين. هناك أيضًا مصالح مشتركة عديدة، سواء في مواجهة التطرف والإرهاب أو في فرص الاستثمار والتجارة بين البلدين”. وأضاف: “تقف المملكة على نفس المسافة بين العراقيين وتدعم وحدة العراق واستقراره”.
كانت جهود المملكة لإعادة بناء الروابط مع العراق ونفوذها فيه تختمر وراء الكواليس لبعض الوقت. فللرياض مصلحة محققة في النضال ضد الإرهاب في العراق، لكنها قلقة أيضًا من النفوذ المتنامي لإيران في المناطق السنية من البلاد عبر الدور المحوري في الحملة ضد تنظيم داعش الذي تؤديه مجموعة شاملة تتألف بمعظمها من قوات شيعية وموالية لإيران تُعرف بوحدات الحشد الشعبي. فتقترب قوات الأمن العراقية، بما فيها الحشد الشعبي، من الموصل، أي ثاني أكبر مدينة في العراق، ويبدو أن قوات داعش محاصرة وأن تمركزها مستحيل على المدى الطويل هناك. وإذا بقيت قوات الحشد الشعبي إلى حد كبير في محافظة نينوى السنية، قد تُؤمّن رابطًا إقليميًّا بين إيران والمشرق، ما يزيد مساحة جسر إيران البري القائم عبر سوريا، ويعزز نفوذ طهران في المنطقة. وما اتّضح هو أن الترتيبات الأمنية في منطقة الموصل ومحيطها ما بعد حقبة داعش ستعكس كثيرًا وتحدد مدى النفوذ الذي تمارسه إيران فعلًا في العراق ومحيطه المباشر.
إلا أن تخفيف نفوذ إيران سيتطلب ردع المالكي وسياسيين شيعة آخرين تدعمهم طهران من العودة إلى السلطة في الانتخابات النيابية التي ستجري في العام 2018. فيمكن أن يشق نظام المحسوبية في السياسة العراقية الطريق للماكي حتى يسعى إلى تبوّء المنصب في ولاية أخرى رغم الإطاحة به في العام 2014. وقد سعى بحسب التقارير لنيل الدعم من بعض الفصائل الكردية في محاولته للوصول إلى رئاسة الحكومة. كذلك، إن سيطرة المالكي على المجموعات الشيعية قد تزيد نفوذه بواسطة الناخبين الشيعة بالإضافة إلى قدرة تأثيره في مرحلة المساومات السياسية التي ستلي الانتخابات. وفي جهدٍ واضحٍ لضمان بركة طهران، زار المالكي إيران في كانون الثاني/يناير والتقى بكبار المسؤولين الإيرانيين. وفي خلال ذلك، انتقد بشدة المملكة العربية السعودية، متّهمًا إياها بـ”رعاية الإرهاب”، فضلًا عن مهاجمة المجموعات الكردية بسبب استيلاءات مزعومة على الأراضي في مناطق تم تحريرها من قوات داعش. إلى ذلك، انتقد المالكي بشدة زيارة الجبير إلى بغداد، مدّعيًا من دون أي أدلة أن غاية الرحلة كانت ضمان إطلاق سراح السجناء السعوديين الذين يُزعَم أنهم محاربون سابقون في تنظيم داعش.
في جهودٍ لمواجهة التحدي الذي يطرحه المالكي، يخطط العبادي لتشكيل قائمته الانتخابية الخاصة تحت اسم “التحرير والبناء”. وبحسب التقارير، أثنى العبادي على شخصيات مثل رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي عمّار الحكيم حتى ينضمّا إلى ائتلافه البرلماني المقترَح. إلا أن طهران تقاوم أصلًا التحالف السياسي المحتمل الخاص بالعبادي. فتقول التقارير إن السفارة الإيرانية في بغداد تعمل على تقويض أي ائتلاف بين العبادي والصدر في الانتخابات القادمة، ما يشير إلى قلق طهران من تداعيات سلبية تطال نفوذها في العراق، من الجنوب إلى المنطقة الكردية الشمالية، إذا نجحت هذه المناورات السياسية الحساسة.
على عكس المالكي، أعرب العبادي عدة مرات عن استعداده لتحسين العلاقات مع الرياض. وطلب رئيس الوزراء مؤخرًا من التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب الذي تقوده السعودية المساعدة في إعادة بناء الموصل بعد انتهاء النزاع، ما سيشكّل مهمة ضخمة. وفي غضون ذلك، أعلن أن بغداد “يهمها إنشاء علاقات تعاون مع المملكة العربية السعودية”، وحذّر في الوقت نفسه الرياض من أي تدخل مزعوم في شؤون العراق الداخلية. وقد تكون رحلة الجبير ردًّا على نبرة العبادي الملطَّفة إزاء المملكة واستعداده الواضح للتقارب.
إلى ذلك، قد يساعد تحسين العلاقات العراقية-السعودية العبادي إلى حد كبير في تعزيز موقعه في المناطق التي يسيطر عليها السنة في العراق، وفي دعم تحالفاته مع السياسيين السنة والشخصيات السنية الرفيعة المستوى من أجل ضمان بقائه في السلطة. كما أن تحسين العلاقات ضروري لإعادة ثقة المجتمع السني بحكومة العراق الفيدرالية، ما سيكون ضروريًّا من أجل تأمين المصالحة الوطنية، وضمان الأمن في المناطق ذات الأغلبية السنية.
أظهرت طهران أيضًا بعض علامات القلق. فكانت منطقة حكومة إقليم كردستان في العراق مجالًا جديرًا بالملاحظة لنفوذ إيران وتركيا أيضًا. لكن في السنوات الأخيرة، أقلق رئيس هذه الحكومة مسعود برزاني طهران بعد أن سمح للسعوديين بافتتاح قنصلية في العاصمة الكردية إربيل. وشكك قائد إيراني رفيع المستوى بدوافع السعوديين للسعي إلى زيادة التمثيل الرسمي الحكومي داخل المقاطعة الكردية، على أساس أنه “ما من عرب” بحاجة إلى خدمات قنصلية وأن الهدف الحقيقي من إنشاء قنصلية سعودية على أراضي حكومة إقليم كردستان هو تقويض مصالح طهران أو حتى زعزعة الاستقرار داخل إيران.
أقلقت جهود المالكي للعودة إلى السلطة إلى حد كبير الكثيرين من الأكراد في شمال العراق. وبالفعل، أعلن برزاني في الحقيقة أن كردستان ستنفصل رسميًّا عن العراق إذا أصبح المالكي مجددًا رئيسًا للحكومة. وكان كلٌّ من العبادي وبرزاني يعمل من موقعٍ ضعيفٍ سياسيًّا، أما سبب ذلك بالنسبة إلى برزاني هو انتهاء مدة ولايته القانونية كرئيس منذ زمن طويل. وقد حثّهما ذلك على تنحية عدة مسائل أشمل وطويلة المدى يختلفان بشأنها من أجل تشكيل حلف سياسي مناسب على المدى القصير. والعمل معًا بهدف ردع المالكي عن العودة إلى السلطة ليس الأمر الوحيد الذي قرّبهما من بعضهما البعض، لكنه يعزز من دون شك حلفهما التكتيكي.
لا بد من الإقرار أن العبادي خاض لعبةً ممتازة وحساسة في تحقيق التوازن بين القوى في مناوراته على المستويين الوطني في العراق والإقليمي في الشرق الأوسط. فقد تواصل مع كل من الأكراد والسنة العراقيين، فيما حاول إعادة علاقات العراق مع البلدان المجاورة له، بما فيها تركيا (مع أن المحاولة كانت فاشلة نوعًا ما في بعض الحالات)؛ وأرسل بعض الإشارات الدالة على الرغبة في المصالحة إلى المملكة العربية السعودية؛ وحافظ على علاقات جيدة جدًّا مع إيران. ومن ناحية أخرى، إذا نجح المالكي في العودة إلى رئاسة الحكومة، فقد يكون بمثابة عائق للسياسة العراقية الداخلية وللتحسّن التدريجي في العلاقات العراقية مع المملكة العربية السعودية. وإذا تنوي الرياض تعزيز نفوذها في العراق، فالخيار الناجع الوحيد أمامها في الوقت الراهن هو دعم العبادي للبقاء في منصبه، وتأمين دعم القادة السنة له في العراق.