على امتداد كورنيش جدة، تقف منحوتات تجريدية ضخمة وملفتة للنظر لبعض من أشهر فناني العالم في القرن العشرين. تضاف أعمال هنري مور (Henry Moore) وجوان ميرو (Joan Miró) وفيكتور فازاريلي (Victor Vasarely) وجان آرب (Jean Arp) إلى أعمال فنانين عرب، مثل الفنانين اللبنانيين عارف الريس وشفيق مظلوم، والمصريين مصطفى سنبل وصلاح عبد الكريم. تزين أشكالها المتموجة والمعبرة ساحل البحر الأحمر والواجهة البحرية الساحرة لمدينة جدة والمشهد الصحراوي. حتى حوالي 10 سنوات مضت، لم يكن وجود هذه المنحوتات، التي جلبها أمين مدينة جدة الراحل محمد سعيد فارسي بين عامي 1973 و1986، معروفًا إلى حد كبير للعالم أو في السعودية.
كان الفارسي، وهو من كبار رعاة الفنون، يعتقد أن الفن جزء ضروري لبيئة حضرية مزدهرة، ولذلك شرع في تزيين جدة. وقام بتمويل مشروعه بأموال من التبرعات العامة ومن ماله الخاص. كان رأي الفارسي أن سكان جدة سيقدرون مدينتهم بشكل أكبر إذا تمكن من تحقيق التوازن بين الأشغال العامة الوظيفية والأعمال الفنية التي تجسد الأناقة والكرامة. وفي فترة تزيد قليلاً عن عقد من الزمن، أنشأ الفارسي متحفًا يضم أكثر من 400 منحوتة في الهواء الطلق في مدينة جدة. هناك الآن 20 منها تصطف على كورنيش جدة؛ وقد تضرر الكثير منها، وتم ترميمها بفضل الشراكة بين مؤسسة فن جميل وبلدية جدة. وبفضل هذا التعاون، تم أيضًا في عام 2016، وضع منحوتة “غذاء الفكر” “أبراج” (2015) للفنانة السعودية مها الملوح على الكورنيش.
أنجزت ملوح عملها من خلال إعادة تصنيع أواني الألمنيوم التي كانت تستخدم لطهي نوع خاص من الأرز في مقاطعة الحجاز، والتي تُباع في أسواق السلع المستعملة في جميع أنحاء السعودية. بالنسبة لملوح، يعد العمل وسيلة لاستكشاف السرديات والأحداث التاريخية وقصص السفر والمغامرة التي يمكن للناس الحديث عنها على المائدة. إنها أواني الطبخ التي لا تبرز فقط الهوية السعودية، بل التقاليد العربية المتمثلة في كرم الضيافة والتجمع.
الفن العام في عملية التحول الاجتماعي الثقافي
لقد تغير الكثير منذ عام 2016، حينما أطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خطته المعروفة بـ “رؤية 2030” للتغيير الاجتماعي والاقتصادي. تضمنت أولويات المخطط الرئيسي لرؤية 2030 الاستثمار في الثقافة، وإنشاء اقتصاد إبداعي موازٍ للاقتصاد القائم على النفط والغاز. لقد انفتحت فجأة هذه الدولة التي كانت مغلقة بالكامل تقريبًا أمام العالم لعقود من الزمن، ورافق هذا الانفتاح المتجدد ازدهار كبير للمشاريع الفنية والثقافية والترفيهية، وذلك بفضل مليارات الدولارات من الاستثمارات الحكومية. يتم استخدام الفن العام للعب دور رئيسي في هذا التحول الاجتماعي والثقافي.
تقول نوف المنيف، مديرة مهرجان “نور الرياض”، المهرجان الفني الذي يحمل اسمه كلمة نور، “ينظر الناس في السعودية للفن بطريقة مختلفة الآن. فهم متحمسون لرؤية المزيد من الأعمال الفنية، ويريدون أن يتعرفوا أكثر على ماهيته. نفتخر كثيرًا اليوم بالعمل في مجال الثقافة من أجل تغيير المدن والمشاهد الطبيعية في بلادنا”.
لم يسبق أبدًا أن شوهد في المملكة مثل هذا الفن والثقافة اللذين يتم عرضهما الآن للزوار المحليين والدوليين في الفعاليات والمعارض المتواصلة حاليًا، وفي المشاريع الضخمة والعملاقة المخطط لها. تهدف المعارض الفنية المعاصرة الكبرى اليوم لوضع الفن ضمن المجال العام لتعزيز النقاش والحوار بين الثقافات، بالإضافة إلى تزيين مناطق ومدن المملكة المختلفة.
الفن في متناول كل السعوديين
يعد مشروع “الرياض آرت”، أول مبادرة فنية وطنية عامة في السعودية، ويجسد الهدف المتمثل في جعل الفن متاحًا لجميع الناس في المملكة. وهو واحد من المشاريع الأربعة الكبرى التي عملت الهيئة الملكية لمدينة الرياض على وضع تصورات لها، وتعد هيئة حكومية منفصلة عن وزارة الثقافة. يهدف مشروع الرياض آرت لتحويل العاصمة إلى مدينة عالمية وديناميكية من خلال المهرجانات الفنية السنوية العامة، مثل نور الرياض” في حين يتم تزيين المدينة بمئات الأعمال الفنية التي يتم وضعها مؤقتًا.
تقول جمانة الغوث، وهي قيّمة سعودية مستقلة وشاركت في مهرجان نور الرياض عام 2022، “من أحياء الطبقة الدنيا إلى أحياء الطبقة الراقية والمتوسطة، يستطيع الجميع التعايش مع هذه المنحوتات لمدة ثلاثة أسابيع. فأنت تقريبًا تجبر المجتمع على التعايش مع الفن، ومن الواضح أن هذا سيثير تحولات في الطريقة التي ينظر بها الناس للعالم من حولهم”.
تميز مهرجان نور الرياض الأول، الذي انطلق في مارس/آذار 2021، بعرضه أعمالاً لفنانين عالميين، من بينهم دان فلافين (Dan Flavin) وأورس فيشر(Urs Fischer) وإيليا وإميليا كاباكوف (Ilya and Emilia Kabakov) ويايوي كوساما (Yayoi Kusama)، إلى جانب أعمال لفنانين سعوديين، مثل راشد الشعشعي ومنال الضويان ومها الملوح وأحمد ماطر. وقد جمع المهرجانان الأخيران كذلك بين أعمال الفنانين العالميين جنبًا إلى جنب مع أعمال الفنانين السعوديين وآخرين من البلدان العربية.
وأشارت غوث إلى أن “حقيقة وجود مهرجان بميزانية هائلة مكرسٌ لدمج أكثر من 82 منحوتة عامة لفنانين عالميين ومحليين في الرياض سنويًا تعد أمرًا عظيمًا. لقد انتقلنا من بلد لا يوجد فيه فصل دراسي حول تاريخ الفن في مدارسنا، على غرار الدول الأخرى، إلى مهرجان مكرس لوسيلة واحدة، وهي النور، ودمجها في مشهد الرياض الحضري”.
ولكونها جزءًا من رؤية 2030، تهدف المبادرة إلى تغيير الساحات العامة في الرياض من خلال الأعمال الفنية العامة وتسليط الضوء على التعبير الإبداعي وتزيين المدينة والإسراع في تطوير الاقتصاد الثقافي السعودي. وأشار بلانكو كاراسكو (Blanco-Carrasco)، مستشار الهيئة الملكية لمدينة الرياض، إلى أن “الرياض آرت ونور الرياض يلعبان دورًا حيويًا في تغيير مدينتنا من خلال تعزيز الحياة الثقافية وإشراك مجتمعنا. لقد أصبحت الأعمال المعروضة في جميع أنحاء المدينة بمثابة تمثيل بصري لهوية الرياض وتاريخها وقيمها، وهو ما يسهم في تعزيز الإحساس العام بالمكان. تعد الرياض موطنًا لثمانية ملايين شخص من أكثر من 70 جنسية، ويعد الفن، ولا سيما الفن العام، بمثابة طاقة قوية لتجميع الناس معًا من خلال توفير منصة لوجهات نظر وسرديات متنوعة لتتم مشاركتها والاحتفاء بها في مساحة مشتركة يسهل الوصول إليها”. وأكد كاراسكو أن نتيجة مثل هذه المبادرات ستكون “بيئة حضرية أكثر شمولية وترابطًا”.
ثمة برنامج آخر تحت مظلة مشروع الرياض آرت، وهو ملتقى “طويق للنحت”، وهو بمثابة مهرجان سنوي للنحت، انطلق عام 2019، يعمل على تجميع النحاتين من جميع أنحاء العالم، لإقامة أعمال فنية في بيئة حية في الرياض.
يقول ماريك وولينسكي (Marek Wolynski)، أحد قيمي مهرجان طويق للنحت، “ينطوي طويق للنحت على تعليم غير رسمي كامن في جميع جوانبه. ويهدف المشروع إلى تقديم الفن العام بطريقة سهلة ومبسطة تتسم بالرؤية الثاقبة والإلهام، ما من شأنه أن يخلق تجارب ممتعة للجمهور خلال المهرجان وفي مرحلة الإنتاج، والأهم من ذلك، بمجرد نقل المنحوتات بشكل دائم في جميع أرجاء الرياض، وإثراء النسيج الحضري للعاصمة السعودية”.
الفن العام هو حوار عام
أول معرض فني عام في السعودية منذ بداية عصر التحول في البلاد كان معرض صحراء X العلا Desert X AlUla)) الذي انطلق في يناير/كانون الثاني 2020. وقد برزت في المعرض أعمال ذات أبعاد هائلة. أطلقت منظمة بينالي ديزرت (Desert Biennial) للفنون في كاليفورنيا أول معرض صحراء X، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل من الخارج. تسبب القرار باستضافة معرض الفنون التركيبية في السعودية باستقالة العديد من أعضاء مجلس الإدارة، ووصف الناقد الفني في صحيفة لوس أنجليس تايمز كريستوفر نايت (Christopher Knight) الحدث “بالفاسد من الناحية الأخلاقية“.
في مقال له على آرت نت (Artnet) قال الفنان السعودي مهند شونو، “أنا لست جزءًا من آلة دعائية ما”، وكان شونو قد مثل السعودية في عام 2022 في بينالي البندقية التاسع والخمسين.
وعلى الرغم من الجلبة التي أثارها معرض صحراء X العلا؛ فإنه يظل أول فعالية فنية عالمية كبيرة من نوعها في السعودية. تم افتتاح معرض صحراء X العلا الثاني في فبراير/شباط 2022، بنبرة اتسمت بمزيد من الرقة والقبول. وفي عام 2024، تم افتتاح الفعالية في فبراير/شباط، وسوف تستمر حتى 23 مارس/آذار، تحت شعار “في حضرة الغياب”، احتفالاً بمظاهر المشهد الصحراوي، التي غالبًا ما يتم إغفالها، أو غالبًا ما تغيب عن أنظار البشر. ويمكن القول إن هذا المعرض كان الأكثر قوة حتى الآن – حيث كان خاليًا من أي جدل، وشهدته مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام الدولية والزوار مقارنة بالسنوات السابقة.
“الفن العام هو حوار عام”، هذا ما قاله نيفيل ويكفيلد (Neville Wakefield)، المدير الفني المؤسس لمعرض معرض صحراء X ومدير فني مشارك لمعرض صحراء X العلا، وهو قيم معرض نور الرياض. وتابع قائلاً، “يمكن لهذه الحوارات أن تعمل على كسر الجمود في القضايا بالغة التعقيد التي تجري حاليًا في العالم، والمتعلقة بالبيئة أو القضايا الاجتماعية”. يعتقد ويكفيلد أن التعامل مع المجال الثقافي في السعودية يتعلق بإنشاء منصات للأصوات الفنية التي لم يتم الاستماع لها حتى الآن. ويقول ويكفيلد، “إن فتح الحوار هو السبب الذي يجعل الجميع، الفنانين وأنا، راغبين في القيام بذلك. لقد كان لجميع الفنانين الذين عملت معهم صوت مشترك واحد وهو “إذا لم تمنح الناس الفرصة لتغيير قلوبهم وعقولهم والتعاطي مع الثقافات الأخرى، فإنك جزء من المشكلة، ولستَ جزءًا من الحل”.
عبرت إيونا بلازويك (Iwona Blazwick) عن مشاعر مماثلة فيما يتعلق بدورها الجديد كرئيسة للجنة خبراء الفن العام التابعة للهيئة الملكية لمحافظة العلا، حيث تتولى الإشراف على وادي الفن، وهو الوادي الصحراوي الذي تبلغ مساحته 25 ميلًا مربعًا في العلا، وتحيط به التكوينات الصخرية المثيرة في المنطقة. تقود بلازويك فريقًا يقوم بتنفيذ أعمال فنية دائمة في العلا.
تقول بلازويك، “إن الطريقة التي يتم بها تنظيم هذه المشاريع تضع الأخلاقيات في المقدمة”. وتواصل قولها “فيما يتعلق بلجان أرض الفن (Land Art)، وبالإضافة إلى الاحتفال بالرواد العظماء، نريد أن نبرز فناني المنطقة، والجنوب العالمي، وما هو أبعد من ذلك”.
من بين الفنانين الخمسة الأوائل المكلفين بإقامة تركيبات فنية أرضية ضخمة لوادي الفن منال الضويان، التي تمثل السعودية في افتتاح الدورة الستين من بينالي البندقية في أبريل/نيسان وأحمد ماطر، وكلاهما من الفنانين الصاعدين في المشهد الفني السعودي إلى جانب الشخصيات الأمريكية المرموقة الشهيرة مثل أجنيس دينيس (Agnes Denes) ومايكل هايزر (Michael Heizer) وجيمس توريل (James Turrell).
وأضافت بلازويك قائلة، “أعتقد أن حصول امرأة سعودية في منتصف حياتها المهنية على الاهتمام والموارد نفسها التي يتمتع بها فنان مرموق مثل توريل يعد أمرًا له مغزاه. فهذا يعد مشروعًا هامًا لأنه يعكس تحولاً في المحور الجيوسياسي بعيدًا عن هيمنة سرديات أمريكا الشمالية وأوروبا. فها نحن في الخليج نقترب منهم، وكذلك أيضًا من أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. هناك فنانون عظماء من الجنوب العالمي الذين يجب الاهتمام بهم لأنه قد تم تجاهلهم في مجال الفن المعاصر. وهذا يمثل نقلة نوعية في الخطاب الفني”.
التراث القديم والمجتمعات المحلية
يعد الفن العام، ولا سيما في سياق محافظة العلا، أيضًا وسيلة للاحتفاء بالتراث الطبيعي للمشهد الطبيعي الذي يحيط بنا، كما أنه يغرس الشعور الاجتماعي بين السعوديين المحليين.
كما شددت بلازويك أيضًا على الفرصة المزدوجة لدورها في العمل على الحفاظ على التراث والبيئة في العلا، قائلة “إن هذه المبادرة هي طريقة مصممة بعناية فائقة لإعادة وتكرار تراث العصر النبطي مع ضمان قيام الفنانين في الوقت ذاته بتقديم أعمال تتناغم مع النظام البيئي المحلي. ندعو الفنانين للعمل بطريقة تحترم التراث القديم لهذه المنطقة، وتحترم الحياة الحيوانية والنباتية الصحراوية الغنية بشكل مذهل. كما أنه من الضروري أن ينخرط الفنانون في المجتمعات المحلية”.
ينطوي مشروع الضويان على مشاركة هذه المجتمعات بشكل مباشر. ولطالما دافعت الفنانة، التي نشأت في مجمع أرامكو في الظهران، في أعمالها عن التعبير عن المرأة، وخاصة في وطنها الأم، وذلك من خلال المبادرات التشاركية إلى حد كبير.
يتم الآن في منطقة الجديدة للفنون في العلا عرض “واحة القصص” للضويان، وهي تضم مئات الرسومات التي رسمها سكان العلا المحليون حول حياتهم في المنطقة التي تم إنشاؤها مع الفنانة من خلال سلسلة من ورش العمل التشاركية، وشهدت حضورًا واسع النطاق. وقالت الفنانة إن “العلا مليئة بالقصص”.
ستقوم الضويان باستخدام الرسومات والقصص المعروضة في الورشة في العمل التركيبي الذي تنوي القيام به لوادي الفن. في مكان يعتبرونه موطنهم، سيترك السكان المحليون بصماتهم منقوشة على الجدران لتعكس الممرات الشبيهة بالمتاهة في البلدة القديمة في العلا، والتي تصطف على جانبيها الصروح التقليدية المبنية من الطوب الطيني. وقالت الضويان، “لقد أدركت أنه لم يتم توثيق قصة أهل العلا؛ وبهذه الطريقة سيتمكنون هم أيضًا من سرد قصتهم للجميع من خلال هذا العمل الفني”.
ينذر تصاعد التوتر بين إسرائيل وحزب الله بحرب شاملة في لبنان، مع خسائر كبيرة في صفوف الحزب. وبينما تواصل إسرائيل ضرباتها الجوية، يواجه حزب الله وإيران تحديات صعبة بشأن التصعيد العسكري.
بينما تُسرع الحكومات الخليجية في تنفيذ أجندات التنمية المحلية، فإن إيجاد الوظائف المحلية وعائدات الضرائب تعد مؤشرات لقياس مدى النجاح في صنع السياسات الاقتصادية.
إن وقف إطلاق النار بعيد المنال في غزة، والانهيار المحتمل لإمكانية تحقيق حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، وتزايد التوترات بين إسرائيل وحزب الله، كلها عقبات رئيسية أمام استئناف التقدم في مسار عملية التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.