تفيد التقارير أن الرئيس ترامب قد أعطى تعليماته لموظفي الأمن القومي والمخابرات لإيجاد مبرر منطقي لإعلان عدم امتثال إيران لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وهي الاتفاقية النووية التي توصلت إليها إيران عام 2015 مع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا. وتفيد التقارير بأن ترامب يعتقد أن على الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية أو عرقلتها. وفي حملته الانتخابية، وصف ترامب هذه الاتفاقية بأنها “أسوأ صفقة يتم التوصل إليها على الإطلاق”. وبالرغم من ذلك، شهدت إدارته في أيار/مايو بأن إيران ممتثلة عمومًا ببنود الاتفاقية، بينما تعمل على زيادة وتوسيع العقوبات غير النووية ضد إيران بسبب تطويرها واختبارها المستمر لمنظومة الصواريخ ودعمها للجماعات الإرهابية والجهات الأصولية غير الحكومية النشطة.
من الواضح أن ترامب محبط لأن فريقه لم يعطه مبررًا مقبولاً من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة إما أن تتخلى عن الاتفاقية بحجة أن إيران غير ملتزمة أو على الأقل الإصرار على إعادة التفاوض الشامل على بنودها. مؤخرًا أخبر صحيفة وول ستريت أن الإدارة كانت “لطيفة للغاية” باستنتاجها بأن الإيرانيين ملتزمون بالاتفاقية. يقول ترامب: “لو تُرك الأمر لي، لأعلنت عنهم غير ملتزمين قبل 180 يومًا”. وأضاف بأنه “سيندهش” إذا توصلت إدارته مرة أخرى بعد مراجعتها القادمة خلال ثلاثة أشهر تقريبا إلى أن إيران ملتزمة ببنود الاتفاقية. ولكن ما هي تبعات التزام المسؤولين بهذه التوجيهات الواردة على سياسة الولايات المتحدة الخارجية والشرق أوسطية، وتخلي الإدارة عن الاتفاقية أو الإصرار على إعادة التفاوض عليها؟
إن وجهات نظر حلفاء واشنطن الخليجيين مفيدة وذات مغزى. الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي كانت مرتابة من المفاوضات مع طهران، بالرغم من أنهم أيدوا المفاوضات في نهاية المطاف وصادقوا بحذر على الاتفاقية بصيغتها النهائية. وتعتبر مخاوفهم في محلها ليس فقط لأن هذه الدول تلعب دورًا مركزيًّا في تحقيق أهداف سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وإنما أيضًا لأنها أكثر الأطراف تأثرًا بتصرفات إيران المزعزعة للاستقرار، وهذا هو الأساس الواضح لتعليمات ترامب لفريقه بإيجاد أساس لضبط عدم التزام إيران.
إن الولايات المتحدة وبقية الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى إسرائيل، قلقة من ظهور إيران كقوة نووية جديدة في الشرق الأوسط. وفي حين أن هذه النتيجة هي مصدر قلق لدول الخليج العربية، فإن مخاوفهم على أمنهم الوطني مرتبطة مباشرة بسلوك إيران المستفز دومًا، وخاصة برنامجها في تطوير واختبار الصواريخ ودعمها للإرهابيين مزعزعي الاستقرار والميليشيات في العالم العربي. وبالطبع فإن أشد مخاوفهم من الاتفاقية النووية هي أنها لم تتطرق إلى هذه النشاطات مطلقًا. أما مخاوفهم الثانوية فهي أن الاتفاقية قد تصبح بمثابة عربة التقارب بين واشنطن وطهران دون تغيير كبير في سلوك إيران، وهذه الاحتمالية لم تظهر تحت إدارة باراك أوباما ويبدو أنها غير واردة مع ترامب.
إن ظهور إيران كقوة نووية يخيفهم، ولكن هذه المخاوف تأتي بالمرتبة الثالثة بالمقارنة مع القضية التي أصبحت عمليا غير مطروحة الآن في حصول تفاهم أمني واسع بين إيران والولايات المتحدة، فضلا عن المشكلة المتزايدة المتمثلة بتعزيز إيران لقوتها العسكرية وسلوكها الذي من شأنه زعزعة الاستقرار. ولذلك فإن هذه هي الدول ذات الحصة الأكبر في القضايا التي غالبًا ما يتحمس للاستشهاد بها من ينتقدون الاتفاقية النووية، والتي تعمل كمبرر لواشنطن كي تزيد من قائمة العقوبات الثنائية ضد إيران.
وبالرغم من هذه المخاوف المُلحة، فإن دول الخليج العربية لا تطالب الولايات المتحدة بإلغاء أو عرقلة الاتفاقية النووية الإيرانية. وبدلاً من ذلك، تمامًا مثل الكثير ممن يؤيدون الاتفاقية بحذر بالغ، فإن وجهة النظر التي تُجْمِع عليها دول مجلس التعاون الخليجي هي وجوب فرضها بقوة وصرامة. ومع ذلك فإن بعض الدول مثل العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هي من بين الدول التي تضغط بحماس على واشنطن لتَتَبنى وضعًا أشدّ صرامةً ضد إيران. لماذا إذًا لا يرحبون بنهاية عاجلة للاتفاقية النووية الإيرانية؟
المنطق واضح، مهما كانت تحفظاتها على الاتفاقية النووية، فإن دول الخليج العربية تدرك بأن السيناريو الأمثل للمتشددين الإيرانيين هو انهيار الاتفاقية النووية الإيرانية في المستقبل القريب، وسيقع اللوم على واشنطن من أغلبية، إن لم يكن كل، المجتمع الدولي. وهذا قد يعني أن طهران كان من الممكن أن تتوصل إلى اتفاق وتلغي بشكل دائم نظام العقوبات الدولية في ظل أوباما، فقط لتتحرر من الالتزام ببنودها في ظل ترامب، مع عدم وجود فرصة تقريبًا بأن العقوبات الشاملة، وخاصة المفروضة من قبل الصين وروسيا، يمكن بعثها من جديد. بعدها ستكون إيران حرة في مواصلة أبحاث السلاح النووي وتطويرها، دون تهديد من العواقب الدولية الشاملة المنسقة التي وضعتها الاتفاقية. إن أي أمل في إعادة تشكيل عقوبات دولية واسعة، والذي قد يكون في غاية الصعوبة تحت أحسن الظروف، سوف يتلاشى تقريبًا إذا ثبت أن واشنطن ألغت من جانب واحد أو عرقلت عمدًا الاتفاقية النووية الإيرانية.
رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي بوب كروكر أَقَرَّ بالخطر الناجم عن معالجة ترامب للاتفاقية عندما أشار إلى أنه من الضروري إلقاء اللوم مباشرة على طهران وليس واشنطن في انهيار الصفقة. “نريد أن يكون إنهاء هذه الصفقة من إيران. لا نريده بسبب الولايات المتحدة لأننا نريد حلفاءنا معنا”، على حد قوله. المشكلة في خطة ترامب المكشوفة في البحث عن طريقة ما للإعلان عن عدم التزام إيران، وبالتالي إلغاء الاتفاقية، هي أن إيران لديها كل ما يدفعها للالتزام ببنودها. قام مارك فيتزباتريك فيتزباتريك بطريقة مقنعة بكشف زيف الادعاءات المتداولة في واشنطن والتي تقول إن إيران لا تَمتَثل بشكل جوهري بالتزاماتها. وهكذا خلصت إيران، مثلها مثل محاوريها الستة، إلى أن تعليق برنامج سلاحها النووي لمدة تزيد عن العقد مقابل تخفيف العقوبات كان في جوهره صفقة عقلانية. لذلك، ليس لدى طهران أي سبب مُلِح يجعلها تتحايل على هذه الالتزامات.
لقد ألمح كروكر وآخرون بأن أي خلاف حول عمليات تفتيش لمنشآت إيران العسكرية ومواقعها النووية السرية قد يعطي واشنطن الذريعة لاتهام إيران بمسؤوليتها عن انهيار الاتفاقية النووية. ذكرت الواشنطن بوست، أن إدارة ترامب تخطط لاختبار “قوة” الاتفاقية ونوايا إيران وفرضيًّا وربما الأرجح، ردة فعل الأعضاء الخمسة الدائمي العضوية في مجلس الأمن على مثل هذا الخلاف. بالرغم من ذلك فإنه ليس من المؤكد أن الكثير من المجتمع الدولي سيقتنعون بأن مثل هذا الطرح -وخاصة إذا ما اُعتبرت إيران أنها قدمت اعتراضات موثوقة تتفق مع بنود الاتفاقية أو وفرت مقترحات بديلة لمعالجة مخاوف واشنطن- سوف يبرر إلغاء الاتفاقية النووية الإيرانية أو إعادة التفاوض عليها بشكل شامل. إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا الشجار قد يسبب جدلاً بين الأعضاء الخمسة الدائمي العضوية أكثر منه جدلاً بينهم وبين إيران بالأساس.
الحجة التي تروق للسياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن الاتفاقية النووية الإيرانية كانت ولا تزال واضحة: وهي أنه من دون هذا التأخير فإن واشنطن وحلفاءها سيواجهون عاجلاً وليس آجلاً خيارًا لا يمكن الدفاع عنه، وهو القبول بظهور إيران كقوة نووية إقليمية ودولية أو البدء برد عسكري مفتوح الأجل ولا يمكن التنبؤ به لمحاولة منع ذلك. الاتفاقية تمنع هذا المأزق المزدوج من الخيارات غير المرغوب فيها لمدة عقد على الأقل. الرهان الجوهري في الاتفاقية النووية الإيرانية هو أنه خلال السنوات العشر قد يحدث تغير جوهري. وقد يتغير النظام الإيراني في ذلك الحين، ربما إلى الأفضل، وقد تكون البيئة الإقليمية أقل خطورة. ربما يتمكن منافسو إيران في الشرق الأوسط، بمساعدة الولايات المتحدة، من إنشاء بنية أمنية تقنع إيران بعدم مواصلة الخيار النووي حال انتهاء صلاحية الاتفاقية النووية الإيرانية، أو سيمكنهم حينها التعامل بشكل أكثر فاعلية مع احتمال تجدد سعي إيران للحصول على إمكانيات نووية. كما كان يطرح أوباما باستمرار، إذا لم تنجح أي من هذه التطورات الإيجابية، أو حتى إذا ظهرت أي تطورات سلبية، فإن الطبيعة الأساسية لخيارات وإمكانيات الولايات المتحدة وإيران لن تتحول بشكل جذري، في أسوأ الأحوال، ستواجه واشنطن المعضلة نفسها التي شَهِدتها في الأعوام التي سبقت الاتفاقية النووية مباشرة.
إن النشاطات الإيرانية المزعزعة للاستقرار تثير قلقًا بالغًا وتتطلب سياسات قوية لردع وإحباط هذا السلوك. بالنسبة لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن إيران هي الدولة الأولى في العالم في دعم الإرهاب وهي القوة الأساسية التي تسعى إلى زعزعة الوضع الراهن في الشرق الأوسط. وفوق كل ذلك، طهران تعارض العديد من -إن لم يكن معظم- أهداف سياسة الولايات المتحدة الطويلة الأمد في المنطقة، ومصالح شركاء واشنطن العرب والإسرائيليين وحتى الأتراك. ولكن من الصعب رؤية كيف سيكافح إلغاء أو تخريب الاتفاقية النووية الإيرانية مخطط إيران في المنطقة.
على العكس من ذلك، إن الأثر الأكثر احتمالاً لمثل هذا العمل قد يكون عودة إيران إلى تطوير برنامج الأسلحة النووية الهجومية الذي تم تعليقه في السنوات الأخيرة دون عودة مرتقبة إلى العقوبات الدولية الشاملة. وفي ظل مثل هذه الظروف، من الصعب أن نتخيل وجود روادع جديدة تُفرض على دعم إيران للإرهاب أو زعزعتها للاستقرار في المنطقة. سوف تضطر الولايات المتحدة إما إلى القبول مبدئيًّا بتطوير إيران لقدراتها النووية، لأنها تكون قد تخلت عن الأداة الأساسية التي كبحت طهران بشكل فعال، أو المباشرة في عمل عسكري بالغ الخطورة لا يمكن التنبؤ بنتائجه وقد يزعزع الأوضاع كثيرًا.
ليس هناك الكثير من الدول التي ستخسر أكثر من حلفاء واشنطن من دول الخليج العربية في مثل هذا السيناريو، ولهذا السبب شجعت تلك الدول الولايات المتحدة على فرض الاتفاقية النووية بالقوة، وليس إلغاءها. وهنا ينبغي الإنصات إلى وجهة النظر والمنطق الذي يكمن خلف ذلك، في الوقت الذي تقوم فيه إدارة ترامب بحساب عواقب الإعلان عن أن طهران لا تذعن للاتفاقية النووية دون دليل قوي وملزم ومقنع للمجتمع الدولي. طالما أن الاتفاقية النووية الإيرانية سارية المفعول ويتم تنفيذها، فلن تصبح إيران قوة نووية، وبالتالي ليس هناك حاجة لمواجهة عسكرية خطرة غير مضمونة النتائج. ومن دون الاتفاقية، مِثل هذا الصراع، أو ظهور إيران غير المقبول والمنذر بالخطر بشكل مساوٍ كقوة نووية قد يصبح أمرًا حتميًّا.